3 تجارب توضح ما للسينما السعودية الجديدة وما عليها

تطور ملحوظ وعيوب يمكن تفاديها

Lina Jaradat
Lina Jaradat

3 تجارب توضح ما للسينما السعودية الجديدة وما عليها

جاء العام الماضي، 2023، حافلا سينمائيا في المملكة العربية السعودية، ليس على مستوى كمية الأفلام المعروضة محليا فحسب، بل أيضا في المشاركة في عدد من المهرجانات العالمية. وقد شهد الإنتاج السينمائي ارتفاعا ملحوظا وتطورا واضحا في قوته. فجاءت نوعية القصص التي روتها هذه الأفلام، وامتدادا للسنوات الأخيرة، متنوعة تضمّ مجموعة من الثيمات التي تنبع من رؤية حقيقية ومحسوسة.

وفي حين أن السينما السعودية لم تكن تعاني في السابق من انعدام رؤية صناعها، إلا أن المشكلة كانت تكمن في القدرة على ترجمة تلك الرؤية إلى الشاشة الكبيرة على نحو يسهّل تلقيها. وقد شهدنا تخطي هذه الصعوبات خلال السنوات الأخيرة، فقدم محمد السلمان فيلمه البارز، "أغنية الغراب"، وهو عمل سوريالي عن شاب يعيش قصة حب ويصارع مشاعر عدم الانتماء والوحدة. وصنع علي الكلثمي تجربة "مندوب الليل" عن شاب من الطبقة الكادحة يقتحم عالم الجريمة من طريق بيع الخمر. وقدم مشعل الجاسر عملا بصريا لافتا في "ناقة"، كما شاهدنا محاولات كوميدية فريدة في "سطار" و"راس براس". في طبيعة الحال، لا تقتصر التجارب السينمائية الأخيرة على هذه الأفلام، لكنها قطعا سيطرت على ساحة الحوار.

تراكم

لعل الميزة الأبرز بين هذه الأفلام، أن قصصها الفريدة تعبر عن نية مسبقة ومتراكمة في اقتحام عالم السينما، فهناك قدر كافٍ من التفاصيل والبناء المحكم للشخصيات يجعلنا نجزم بأن هذه المشاريع ليست وليدة اللحظة، بل أن صناعها استغرقوا زمنا طويلا في استلهامها والعمل عليها، كما أنها تتخطى بعض الخطوط الاجتماعية الحمراء وتستكشف أبعادا نادرا ما شاهدنا الأعمال الفنية السعودية تتجرأ على الاقتراب منها.

لا تقتصر التجارب السينمائية الأخيرة على هذه الأفلام، لكنها قطعا سيطرت على ساحة الحوار

كان المشهد السعودي الفني طوال سنوات يتسم بالملل، فما يُستهلك جماهيريا لا يعدو كونه تعليقات سطحية على المجتمع ومشاكله، وما يعرض في المهرجانات للنقاد لا يمكن تمريره ضمن المشهد العام، إما بسبب صعوبة استهلاكه وإما بسبب عدم استيفائه النضج الفني في المقام الأول.

يلفت الأنظار أيضا في التجارب الجديدة، اختيار الممثلين وجودة التمثيل، لا سيما أنها تجارب شابة، والمشهد المسرحي الذي كثيرا ما يكون مصدرا للمواهب التمثيلية، شبه مختف، مما يضع أي عمل أمام خطر محدق بالوقوع ضحية أداء تمثيلي رديء. فكانت المفاجأة السارة في أن أفلاما عدة لم توفق في اختيار الممثلين شكليا فحسب، بل استطاع أولئك الممثلون من الجنسين استحضار ما تقتضيه أدوارهم تماما وإضافة لمسة خاصة بهم على تلك الادوار.

أداء مميز

لا يمكن تخيل النجاح الجماهيري والنقدي الذي حظي به "مندوب الليل" من دون الظهور الرائع لمحمد الدوخي، واستطاعت أضواء بدر فرض حضورها في "ناقة" على الرغم من كون مشعل الجاسر مخرجا طاغيا من ناحية طريقة التصوير وتحريك الكاميرا. كما كسب عاصم العواد تعاطف المشاهدين في "أغنية الغراب" من خلال أداء هادئ يستقبل المشاكل التي ترميها الحياة في وجهه بكل صمود.

في طبيعة الحال، لم تأت جميع الأداءات التمثيلية على المستوى المطلوب، فهناك ممثلون ناجحون جماهيريا ولكن يبدو أنهم عالقون في الدور نفسه، ولا يبدو أنهم قادرون على الخروج منه. كما هناك عدد من الممثلين "المخضرمين" لم يتمكنوا من تقديم إضافة حقيقية للأفلام التي شاركوا بها، وبدلا من أن تكون أداءاتهم قادرة على ستر عيوب النص، ظهرت تلك العيوب بصورة فاضحة من خلالهم.

الكثير في فيلم واحد

لكن المشكلة الكبرى التي تشترك فيها هذه الأفلام، والتي تعاني منها السينما السعودية عموما، هي الرغبة في سرد الكثير من خلال فيلم واحد. فصناع الأفلام يواجهون مشكلة حقيقية في احتواء أفلامهم بشكل متماسك من دون تشتت سردي. وإذا كنا نشيد بهذه التجارب مؤكدين أن تفردها دليل على نية مسبقة والتزام واضحين بسرد قصصها، فإن ما يجمع بينها جميعا بلا استثناء، سواء أكانت أفلاما ناجحة أم فاشلة، هو أن الرؤية الواضحة تتلاشى في الثلث الأخير ويصبح من الجلي أن الفيلم يسابق مدة عرضه حتى يتمكن من إيصال جميع رسائله.

أفترض أن ذلك عائد لسببين: أولا، لم يُراجع النص ويُطور بصورة كافية. فالعيوب السردية تتجلى بعد مرور ساعة من بداية الفيلم، ونلاحظ ضياعا يتمثل في التنقل بين أكثر من خط سردي أو تقديم شخصيات عشوائية لا تخدم القصة مطلقا. ثانيا، لا حضور حقيقيا لغرفة التحرير. من الصعب تحديد ما ينقص هذه الأفلام حتى يتم تحسينها، ولكن تمكن الإشارة بكل ثقة إلى مشاهد وخطوط سير موجودة في كل فيلم والتخلص منها للوصول إلى منتج نهائي أفضل.

المشكلة الكبرى التي تشترك فيها هذه الأفلام، والتي تعاني منها السينما السعودية عموما، هي الرغبة في سرد الكثير من خلال فيلم واحد

في "مندوب الليل"، مثلا، قُدمت حبكة بيع الكحول في وقت متأخر من مدة عرض الفيلم، وبسبب ضيق الوقت لم يسفر ذلك عن أي شخصية جديدة أو تغيير ملموس في شخصية البطل. أما "أغنية الغراب" فكان يعاني في كل مرة يُغرق بمشاهد سوريالية ومسرحية تبطئ سرعة السرد وتستهلك وقته، أما "ناقة" فكان الضحية الكبرى لهذه المشاكل، بعد بداية ساحرة للفيلم وتصوير سينمائي بديع، رأينا الفيلم يصارع على جبهات عدة حتى يعبر بنا إلى بر الأمان في وسط عاصفة من الضياع السردي.

من الواضح أن التجارب السينمائية السعودية تتطور بسرعة ملحوظة، ولكن في ظل تطور الإمكانات الإنتاجية وتعدد المنصات المستعدة لعرض هذه التجارب، نستشعر من خلال الحشو السردي المكثف لها أن هناك استعجالا لمحاولة سرد كل ما في جعبة صناع الأفلام وكأن الانفتاح الثقافي والتمويلي تجاه السينما أمر مؤقت لن يدوم طويلا.

وفي حين تتعدّد تعقيدات إنتاج أي فيلم، وندرك جميعا مدى صعوبتها، من المهم استيعاب حقيقة أنه يجب إتقان رواية القصص المحتواة والمكتفية بذاتها، قبل رواية القصص المترامية الأطراف.

font change

مقالات ذات صلة