نوري الجراح: الشعر آخر معجزات العالم

يعتبر قصيدته أفقا جماليا وسردية مضادة للتوحش

Lina Jaradat
Lina Jaradat

نوري الجراح: الشعر آخر معجزات العالم

ينتمي نوري الجراح إلى رعيل شعراء الحداثة، اختار القصيدة ملاذا دون الأماكن جميعها التي تنقل بينها بعد خروجه من دمشق إلى بيروت فقبرص ليستقر في نهاية المطاف في لندن منذ عام 1986 وحتى الآن. يسيطر عليه هاجس مواجهة العالم المتوحش، كما يراه، اتخذ من الكلمات واللغة سبيلا إلى ذلك بعد أن لمس عجْزَ كل ما عدا الشعر عن القيام بذلك.

هنا حوارٌ لـ "المجلة" معه عن المكان والبدايات ومساره الشعري الحالي والمُقبل.

* إقامتك الدائمة تنقلت من دمشق إلى قبرص إلى لندن الآن، كيف تشعر بأثر المكان على ما تكتبه؟

يُكتب الشعر في المكان، ولكنه يخلق أمكنته. ليس في قصيدتي أي نزوع للوقوف على المكان كأنه طلل، ولا حنين في شعري إلى صور تتأطر في الأمكنة، ولكن إلى تلك الصور الهاربة للأمكنة، بحركيتها وقدرتها على الإدهاش، وعلى إتاحة الفرصة للمخيلة على فتح باب في المرئي والخروج إلى عالم الماوراء. في كل مدينة عرفتها بنيت في قصيدتي مدنا تجاورها وتوازيها، مدنا ركبت المخيلة أجزاءها مما فككته من مرئيات تلك المدن ومشهدياتها، ومن برق البصيرة وما دفقته المخيلة مقبلا في صور وتراكيب ذات منطق خاص. تولد مدينة القصيدة، لئلا تعود في قصيدة الشاعر هي نفسها في خرائط الجغرافيا، إنها لندن التي لا يعرفها أحد سوى الشاعر. كذلك هو الحال قطعا بالنسبة إلى دمشق أو بيروت أو تلك المدن المطلة على سواحل المتوسط والتي طالما شغفت بها، في الشعر، مدن المخيلة لن تكون أبدا المدن التي سكنا ولو حدث وتطابقت الصورتان الواقعية والمتخيلة، فلن يكون هناك شعر.

تمارين مبكرة

* دائما للتجربة الأولى خصوصية، لنتحدث عن تجربتك مع ديوان الصبي، وما كان درسُك الأول؟

لو صح وجود درس أول، فهو التمرد. هذا هو عنوان كل شيء في "الصبي"، التمرد على القيم والتقاليد والعادات والقوى المسيطرة على الناس، وصولا إلى التمرد على الصيغ التي تكتب بها القصيدة. وصلت إلى الشعر على حصان مخيلة جامحة. ومع صدور ديواني الأول لمحت ابتسامات متخابثة في وجوه شعراء بعضهم أصبح من أصدقائي.. "الصبي"؟! نعم "الصبي". بدا العنوان غير مألوف، وما زال إلى اليوم ربما، فعناوين المجموعات الشعرية كانت ولا تزال تتكون غالبا من ثلاث أو أربع كلمات، وربما أكثر، ولابد أن تتميز بالرصانة، أو الغرابة، أو المفارقة، وبـ"الكلام الكبير". أما أن يكون العنوان "الصبي" فهو ما ولد يوم ذاك في بيروت ودمشق انطباعا بالخفة المفرطة.. وهذا على الأرجح ما دفع بصديقي عباس بيضون إلى استقبال الكتاب بمقال شبه استنكاري: "هل يمكن كتابة الشعر بمنظور طفولي؟". أجبت يومها: لم لا؟

 في الشعر، مدن المخيلة لن تكون أبدا المدن التي سكنّاها ولو حدث وتطابقت الصورتان الواقعية والمتخيلة، فلن يكون هناك شعر

وصلت إلى الشعر متمردا يائسا من تغيير العالم، وكنت انتظمت في جماعة سياسية فاشلة تريد تغييره، وبدلا من ذلك أوصلتني إلى الحائط، فتركت كل شيء لأجد في الشعر الملاذ الأخير، وفي اللغة المركب الذي سأبحر فيه، نحو عالم الكلمات الذي سأمضي معه من جزيرة إلى أخرى، كما فعل أوديسيوس، ومن مجهول إلى آخر

"الصبي" كان ثمرة اكتشاف اللغة بوصفها وجودا سحريا، مصدرا من مصادر النعمة والقوة معا. فالقصيدة مدينة تتلألأ مصابيحها، ولعبة الشعر فرصة لتطوير الشغف بالوجود مرئيا، وباللامرئي محدوسا، والذهاب أبعد ما يمكن في اللعب مع المفردات، والاغتباط بما فيها من قوة سحرية تناوىء ما في الواقع من ابتذال، عبر رحلة كل ما فيها ينتشي بغوامض النفس، وحلميتها، ونأيها عن الاجتماعي البليد، المستسلم، المنافق. بدا لي الشعر جزيرة قصية، قلعة حجارتها من الكلمات، لا يمكن النيل منها، تتيح لشاعرها ابتكار قصيدة ذات نزعة رمزية حالمة ومتمردة ونبرة طفولية ساخرة.

* تؤكد دائما أن هويتك متوسطية، وسواحل المتوسط كانت مسرحا لأساطير غذت ذائقة فنانين غربيين وعربا، لكنها باتت منذ سنوات مركزا لآلام المهاجرين ومُنتِجة لقصص مهولة بعذاباتها، وأنت كتبت "الخروج من شرق المتوسط"، كيف تتعامل مع هذا التمايز في صورة هذا المكان؟

ليس هناك تمايز جوهري بين ما جرى في الأمس البعيد وما يجري اليوم في بحيرة المتوسط، وبين ضفافها، الأساطير لا تنتج نفسها من دون صراع يسبقها ووقائع تمهد لها الظهور والانتشار والانتقال من جغرافيا إلى أخرى، وبين الجماعات البشرية المتجاورة وسردياتها المعبرة عنها. ما أنتجته بحيرة المتوسط من أساطير وتقاسمته شعوبها وثقافاتها، كان بالضرورة ثمرة ما نشب بينها من حروب في أزمنة الصراع، وما تبادلته من أسباب التعارف والتبادل في أزمنة السلم. هل يمكن أن نحصي كم أخذنا من الآخرين، يونانيين ورومانيين وغيرهم، وكم أعطيناهم؟ فاللحظة المتوسطية الحاضرة تتأسس على عمق ضارب في الزمن ومحجوب وراء الصيغة الراهنة لأوروبا الحديثة المتعالية في علاقتها بالضفاف الشرقية للمتوسط المراوح في صيغ حكم شائهة أنتجها اختلال تاريخي في الموازين بين الشرق والغرب لصالح نمط متوحش من الهيمنة على البحر واليابسة. في هذا الخضم في عصر ما بعد الحداثة جدّد السوريون، بأقدارهم الدامية شباب الميثولوجيا في نموذجها الملحمي، وتحولوا بجملتهم إلى شعب أسطوري، لم يعد بالإمكان وصف تجربتهم المعاصرة إلا بكتابة الملاحم. قصيدتي "الخروج من شرق المتوسط" وقبلها "مرثية بنات نعش" في "قارب إلى ليسبوس" وبعدها "لا حرب في طروادة" تمثيل شعري ملحمي للتجربة المأساوية للسوريين والفلسطينيين معا في البرهة الحاضرة.

معجزة الشعر

هل شعرتَ أنَ الحدث السوري صلبكَ في وقت من الأوقات؟

لو عدت إلى قصائدي المكتوبة في سنوات الثمانينات والتسعينات كـ "رسائل أوديسيوس" و"الغزاة يولدون في المدينة"، و"مرثية إغريقية"، و"طريق دمشق" وتنويمة من أجل طفل"، و"حدائق هاملت"، وهي قصائد السنوات التي أعقبت خروجي من المتوسط، ومواجهة البحر واليابسة بوصفهما امتدادا للمنفى في المكان والزمان، واكتشافي بأن حياتي في أوروبا الغربية، لن تعود كما كانت، ولن تكون طبيعية أبدا، إذا ما وقفتِ على تلك القصائد فستشعرين أنها كتبت اليوم. وما دمت استعملتِ مفردة الصلب، فما من مبالغة أبدا في ذلك. شعري يطلع من لحظة الأخدود الذي شقه طاغية دمشق الأب في قاسيون وعلق عليه المستقبل، ليستمر من بعده ذلك الإرث الدموي الذي سيعلق الشعب السوري بأسره على ذلك الأخدود، لمجرد أنه تطلع نحو لحظة شعلة الحرية. تلك الشعلة هي ما يتوهج في قصيدتي.

 "الصبي" كان ثمرة اكتشاف اللغة بوصفها وجودا سحريا، مصدرا من مصادر النعمة والقوة معا

في جوار الصمت المرعب لذلك الزمن الكالح الذي ساد في سبعينات القرن الماضي كتبت قصيدتي الحالمة بالحرية، ومذ ذاك لم أكف عن اعتبار الشاعر سارق نار وحامل شعلة.

في ذلك الغسق، سأكتشف سبلا جديدة، فأخرج بلعبتي مع الكلمات إلى أزمنة لا مرئية، وأبطال لا مرئيين، لأكتشف مرارا ولعي بأنني شخص قديم خارج من سورة تشبه سورة الكهف ومعي عملة بطلت، وليقترن الشعري عندي أكثر فأكثر بالحكائي الملحمي، والقصيدة بالأسطورة، مادام الواقع متخاذلا ومتهافتا ودنيئا إلى أبعد الحدود.

لو شئت أن تعتبري أن ثمة معجزة في العالم، فتلك المعجزة هي الشعر. أما الشاعر فهو بروميثيوس الذي تنهش العقبان صدره، وقصيدته هي جرحه النازف.

اللحظة الراهنة

*بعد البدايات "الصبي" و "حدائق هاملت" والحدث السوري الذي تمثل بأكثر من ديوان، صدر العام الماضي ديوان "الأفعوان الحجري"، الملحمة الشعرية التي تتحدث عن بُرعتا التدمري وإنقاذه لريجينا السلتية، كيف تصف هذا المآل وكيف ترى ما بعده في مسارك الشعري؟

بعد كل تجربة جديدة في كتاب جديد يستنفر فيّ ذلك الخوف من الفراغ والموت. شغفي وتركيزي  الشديدين، لطالما جعلاني أخرج بحثا عن أرض أخرى، وأفق آخر. أنظر إلى هذه المغادرة بوصفها ضرورة وجودية،كأنني شخص مطارد، ولا يريد أن يقع في قبضة مطارديه، ما أن أكتشف جديدا حتى أودّعه، ليس هربا من إعجاب الآخرين بما صنعت وحسب، ولكن من إعجابي بصنيعي، أيضا، يرعبني أن آنس عادات شعرية وأقر عليها، فتقعدني عن المغامرة. فكري منشغل بالسفر، وبالقصيدة المقبلة، وليس بالتي كتبت ونشرت، فالقصيدة وإن تكن أثرا جماليا من برهة بارقة، ومن صراع شرس مع الذات للقبض على شيء هارب، فهي ليست مكانا وثيرا للإقامة الدائمة... كلما فرغت من قصيدة أقول لها وداعا.

تحدثت من قبل عن البعد الملحمي، في قصائد كتبي: "قارب إلى ليسبوس"، "نهر على صليب"، "لا حرب في طروادة"، "يأس نوح" و"يوم قابيل والايام السبعة". قصائد هذه الدواوين المطولة والقصيرة منها، والتي كتبت في جحيم العقد الماضي، عقد الدم والألم في سوريا والمشرق العربي، تشترك في كونها مرايا شخصية جدا، بل قاعة مرايا لتراجيديا جماعية بامتياز، تكتب بأنفاس شخص واحد. وهي في موضوعاتها وتراكيبها الفنية صدرت عن صراع عنيف مع الذات في علاقتها باللغة، بل هي وليدة محطات من الخروج على الذات لاجتراح لغة للقصيدة تمكن الملحمي من الحضور، ولكن هذه المرة في نبرة شخصية، وإهاب لغوي لا يجحف القاموس العربي ثراءه. هذا كان تحديا جوهريا بالنسبة إليّ في سؤال اللغة، وفي العلاقة مع اللغة.

 Sprachsalz Literaturfestival
الشاعر نوري الجراح

"الخروج من شرق المتوسط" كانت الحلقة الأخيرة التي أقفلت تجربة ومسارا استغرقني عقدا من الزمن. وبدءا من 2020 باتت الحاجة إلى الانقلاب على ما أنجز ضرورة وجودية. لا يمكن العبور إلى ما سيكون من دون مغادرة ما كان. سأستنجد هنا بأبي تمام: "وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد". في 2021،  تكشف لي الطور الجديد، في قصائد كتابي "الأفعوان الحجري". لم ينشر الكتاب إلا بعد عامين من الانتهاء من كتابة آخر قصائده، عندما تيقنت من أنني نجوت من نفسي التي عرفت، وبلغت بقصيدتي أرضا لم أكن أعرف.

تجربة "الأفعوان الحجري" تتلاقى وتتفارق مع خطوط وملامح كانت تظهر وتغيب في شعري، إنما ما تبلور في هذا الديوان، وهو عمل ملحمي يجمع الشرق بالغرب في مواجهة جمالية، من خلال مرثية حب، ويكشف عن البعد السوري كمكون حضاري في لحظة إمبراطورية عاتية في هيمنتها على الجغرافيا والإنسان شرقا وغربا، عبر قصة حب بين محارب تدمري وفتاة من قبيلة سلتية في بريتانكا في زمن سبتيموس سيفيروس. وهي أيضا مرآة عاكسة لإثنوغرافيا ذاتية لي في المنفى. لغة هذا العمل انفرج معها بابٌ على عوالم يمكن أن تتنفس من خلالها الأنشودة والحكاية والشذرة الفلسفية، والأسطورة، بلغة أشعر أنها باتت أصفى وأنقى من ذي قبل. 

وأشير هنا جانبيا إلى تقنات دخلت على قصيدتي مع هذا الكتاب، وكنت أخشاها وأتجنبها من قبل، تتمثل في العتبات والإشارات المصاحبة للقصيدة، ليس من باب شرح المفردات والمعاني كما يفعل المحققون مع الشعر الكلاسيكي العربي، ولكن من باب ربط النص بفضائه المعرفي على غرار ما فعل ابن عربي في "ترجمان الأشواق"، وت إس إليوت في "الأرض اليباب".

في قصائدي الجديدة ، أواصل كتابة سردية شعرية مضادة لسردية التوحش وتمثيلاتها المعبر عنها في وجهي جريمة الاحتلال والطغيان ممثلا في احتلال الأرض والحلم واغتصاب الإنسان، كما يجري اليوم في فلسطين وفي مدن المشرق العربي الموبوءة بالطغاة وشركائهم الغزاة القادمين من وراء الأسوار القريبة والبحار البعيدة. هذا موقف أخلاقي وليس سياسيا، لا حداثة شعرية من دون موقف أخلاقي ينتصر للإنسان.

الشعر والمعرفة

طغيان الجانب المعرفي على الشعر العربي الحديث، بحيث أنَ ثقافتك هي المدخل لفهم هذا الشعر، يعني أن تكون مُطلعا على الأساطير والتراث وبعض التاريخ والفنون عامة، لماذا لجأ الشعر الحديث إلى ذلك؟

إذا كان الجانب المتعلق بالبعد المعرفي في سؤالك يقصد علاقة الشعر العربي الذي يكتب اليوم بالميثولوجيا والتراث والتاريخ، ومراجع أخرى يمكن وصفها بأنها معرفية، فالمؤسف القول، وعلى العكس مما يمكن أن نتخيل، فإن هذا البعد ضعيف الحضور في الشعر العربي اليوم، والقصيدة العربية ما خلا تجارب معدودة تبدو لي ذات لغة يسيرة، لغة خيطية، لغة غالبا ما تكون ذات سطح واحد، ضئيلة الطموح، وتغيب عنها التجربة الفكرية للشاعر. هناك كثرة من الشعراء تعيد في الألفية الثالثة ما أنجزته التجارب المجددة في الربع الأخير من القرن العشرين، من دون أن تنتج أدواتها الخاصة ورؤاها المفارقة. هناك في شعر اليوم (ما خلا الندرة) استهلاك مستغرب للصيغ التي ابتكرها شعراء موجة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي من دون الإتيان بجديد، وكأن ساعة التجريب الشعري تعطلت، وتحول نهر الشعر إلى بحيرة ساكنة.

أواصل كتابة سردية حداثية مضادة لسردية التوحش المعادية للوجود الإنساني، فلا حداثة شعرية من دون موقف أخلاقي ينتصر للإنسان

وبصدد ثقافة القارئ وثقافة الشاعر التي يشير إليها السؤال، من البدهي القول إن ليس كل القراء سواسية، كما أن مواهب الشعراء وقدراتهم ليست سواسية. والتجربة الحديثة في الشعر، هي من التركيب والتعقيد بحيث لم تعد مغرية لقارئ يمكن وصفه بأنه مجرد قارئ متعلم يسعد بلغة الأغاني بوصفها شعرا.

في ظني أن الشعراء في العالم أدركوا هذه الحقيقة منذ زمن بعيد، بقي على البعض من شعرائنا أن ينظر بواقعية أكبر إلى هذه المسألة ويكف عن الحلم بالوقوف على المنبر ليكون ضحية للتناقض بين خياراته الجمالية وبؤس التلقي. لابد من وضع حد مشرّف لهذه المسألة في العلاقة بين القصيدة كأفق والواقع كهاوية.

القصيدة الأمنية

* عاصرتَ شعراء بفارق سنوات تزيد أو تنقص، لكن في المحصلة ربما تُعَد المرحلة الذهبية في الشعر الحديث، هل نحن في أفولٍ لتلك المرحلة، هل يمكن أن نقول أنَ الشعرية العربية في الوقت الراهن تعاني من ركود، أم هناك أصوات يُعوَل عليها؟

في تاريخ الشعر، لا تنقضي مرحلة إلا لتحل أخرى محلها، وما ينطبق على الشعر هنا ينطبق على سواه من الفنون. تاريخ القصيدة العربية الحديثة برهن على وجود حيوية عظيمة، وقابلية رائعة على التطور. تحقق ذلك بدءا من مطلع القرن الماضي مع ظهور بدايات حركات التجديد ببروز جبران وشعراء المهجر وجماعة أبولو والروابط الأدبية والشعرية في دمشق وبغداد والقاهرة وبيروت، مرورا بالمجلات الأدبية الرائدة التي لعبت دور المنابر والمنصات للشعراء المجددين وحركات تجديد الشعر والتنظير الشعري. وعلى مدار قرن من الصراع الفكري والأدبي والاجتماعي، الشعرية العربية أثبتت قدرتها على الانفتاح على المصادر الثقافية المختلفة، وكذلك على الشعريات الأخرى عبر التواصل والترجمة. في السنوات العشرين المنصرمة بدأت المثالب تظهر مع تراجع التجريب، واستئناس الشعراء الجدد بالمنجز الجمالي والتعبيري الذي حققته أحدث موجات التجريب الشعري، والاكتفاء بالنسج على منوال ما تحقق، إلى جانب أسباب أخرى.

ما أحاول قوله إن الشعر العربي في أطواره الأخيرة، ما عدا تجارب قليلة جدا، دخلت لغته في سبات مقلق، استهلاك الموضوعات والتراكيب وصيغ البناء والمنظور، وركود القاموس، كل هذا أوصل التجربة الشعرية العربية إلى أقصى درجات الإرهاق الجمالي. بات محتما على الشعر أن يجدد لغته، أن يفجر طاقته العظيمة وإمكاناته اللامحدودة، لابتكار الجديد، وهو ما أومن بقدرة الشخصية الشعرية العربية والحيوية الشعرية على تحقيقه. قد تبدو نظرتي متطرفة وقاسية في وصف الحال، لكنها نظرة مفعمة بالأمل، فهي لا تقصي الاستثناءات المبدعة. أقول هذا وأنا متابع لما يكتب وينشر، هناك أصوات شعرية بديعة تنتمي إلى جغرافيات عربية مشرقية ومغربية، في المنافي والأوطان، تكتب القصيدة بوعي جمالي أخاذ، وحتى لا يكون الكلام أبويا أو تبشيريا أو أخوانيا، أقول أنا من الشعراء الذين يؤمنون بأن القصيدة الهدية هي تلك التي لم تكتب بعد، وهي بالضرورة في جيب شاعر سيأتي من المستقبل.

لابد من وضع حد مشرّف لهذه المسألة في العلاقة بين القصيدة كأفق والواقع كهاوية

قصيدتان جديدتان

الصعود إلى معبد أفروديت في عسقلان

كيف أبلغ عسقلان، كيف أخطو من دمشق المحترقة لأصل وأفوز بلمسة ردائك، وأعود بالأمنية،

الغزاةُ ملأوا الحفر بالأسرى

والمرتزقة المجلوبون من الأصقاع رفعوا على الرماح الرضيع والكتاب.

الأشواك عبّدت السُّبل

والشمس أفلتت ونزلت لتفلح ظهر الهارب.

كيف أصعد إلى إليكِ؟ كيف أبلغ هواء الأعالي حيث ينهض بيتك في عسقلان، والسماء نيزك يتشظى، وكرات اللهب تلتهم الحقل والفلاح وسكة المحراث

لا طفل ولا امرأة، لا رجل ولا شيخ، ولا حتى فتى يافعاً ماهر الخطو...

ينجو هنا..

فكيف لي أن أبلغ الأرض التي وسع كرسيك...، كيف لي أن أطأ العتبة حيث رفع البناؤون بيتك،

واقاموا القوس على المذبح،

والشعلة الهادية على الهضاب.

كيف لي، يا أم العشبة والزهرة والظبي والطائر النشوان..

كيف لي أن أخطو على أرض ضربتها الأزمنة بالزلازل ورفعتها الزلازل وأقامتها على الصخور،

لتكون أرض الشجرة في هواء الزمن ونور العشبة في الربيع..

كيف لي أبلغ ردن ردائك

في

عسقلان

ومن تلك الهضبة أرى منائر دمشق،

يا أم النائم والمستيقظ والعابر العطش الطالع إلى الأعالي بغصن الحب. 

فتية من دورا أوروبّوس هاربون من فيلق ساساني في صيدون

أي صوت نادى، لأتذكر الطريق إلى جبيل، والعودة بشعر مقصوص بحربةٍ

لم تكن هناك قلعة ولا ميناء، ولكن صيادون يرتقون الشباك 

في رمل حارق

ومراكب تبخرها الشمس.

مشينا على ظلال قاماتنا، والأغلال في الأيدي..

ومررنا بالبحر ينهضُ ويصرخ بنا.

كنا فتية عائدين في مركب، لما نزلنا ورأينا اليابسة ترتجف

وخيول الساسانيين تجرحُ الأرض..

تلفتنا ولم نر البحر، وها نحن والبحر

في

الأغلال.

والآن، من على صخرة في ظاهر بيروت، أرى كرات النار الملتهبة

تسّاقط،

والسّهام تملأ صدرَ المحارب.

الساسان بسحناتهم الشاحبة وسيوفهم المعقوفة المبللة بدماء فتية دورا أوربوس، ونينوى ودمشق، وصيدون

تركوا الميناء مقفراً وأهراءات الحبوب فارغة.

وبين عتمات المدخل المترنح وضجر البغال في الشمس، الأسرى المحتجزون وراء حائط المعبد عراةً راحوا يكزون على أسنانهم،

ويتركونها تتكسر..

الصمت يرمي نرده المعدني، والشمس تلتهم عنقَ الحصان.

لم تكن بين الساساني والبحر لغةٌ، ولا بين الساسانيّ والسماء.

وفي هبوب السُّخام على النوافذ والأبواب المحترقة

رأينا الحروف الإغريقية والآرامية التي خطها السوريون بالأزاميل على الحجر تتفكك.. 

والصمت يطوف بالمصائر والأوهام.

لم تكن للساسانيين لغة لنقرأ أفكارهم،

كنا في عهدة السيف.

font change

مقالات ذات صلة