أخلاقيات التواصل الاجتماعي

أخلاقيات التواصل الاجتماعي

في عالم تُهيمن عليه الشاشات، تبرز لنا منصات التواصل الاجتماعي كساحة تفاعلية عصرية، بين جنباتها نرقص على شفرات السيوف، ونتبادل الأفكار وننشر محتوى يطوف أرجاء الفضاء الرقمي، مخلّفا بصمات واضحة على سلوكنا وتفاعلنا، وراسما معالم مجتمعنا، ومعبّرا عن شخصياتنا.

تُشكل هذه المنصات ساحة واسعة تتفاعل فيها الأفكار، وتتلاقى وتتصادم، تاركة أثرها على تعامل البشر. فمن ناحية، تُسهل بين مرتاديها التواصل وتبادل المعلومات، مما يُثري معارفهم ويُوسع آفاقهم، ومن ناحية أخرى تُخفي هذه المنصات مخاطر لا يمكن تجاهلها، فإدمانها قد يُصبح سجنا رقميا، يُبعدنا عن واجباتنا الحياتية ويُعيق تفاعلنا الحقيقي مع من حولنا. كما تُشكل ظاهرة التنمر الإلكتروني شبحا يُهدد سلامة الأفراد، خاصة صغار السن الذين يعدّون الأكثر عرضة له.

وفي حين تخلق قنوات وسائل التواصل ساحة افتراضية عامة، لتناقل الأفكار والأحداث والمحتوى ونشر الوعي حول القضايا الاجتماعية والسياسية، والتحفيز على المشاركة في الأنشطة والفعاليات التي تُحدث تغييرا إيجابيا في المجتمع. إلا أنها في المقابل قد تُصبح ساحات للصراع والانقسام. فمع انتشار خطاب الكراهية والتمييز العنصري، تُصبح أداة سهلة لنشر الأفكار المتطرفة والترويج للإرهاب والعنف، مما يُهدد استقرار المجتمعات وتماسكها بتطوير هذا العنف إلى ثورات كما حدث في سنوات ماضية.

 أصبح التركيز على المظهر الخارجي والصورة المثالية أكثر من التركيز على القيم والمبادئ

كما أن هذه المساحات لا تكاد تخلو من أساليب المقارنة الاجتماعية المؤثرة، إذ أن معظم الناس يقارنون أنفسهم بالآخرين، مما قد يُؤدي إلى مشاعر سلبية مثل الغيرة والحسد والتفكك الأسري. فمع عرض حياة الآخر على المنصات الاجتماعية بشكل مثالي على غير ما هي عليه، قد يصيب البعض شعور بالدونية وعدم الرضا عن حياتهم.

ثم أن المؤثرين عبر هذه المنصات يؤدّون دورا بارزا في تشكيل سلوكيات المستخدمين والمتابعين، ذلك أن محتواهم يخلق نموذجا يُحاكيه الكثير، سيما المراهقون، وبسبب خلو محتواهم في معظم المنصات من القيود نجدهم يتصرفون بعيدا عن أخلاقيات المِهن الإعلامية والاجتماعية. لهذا لا تكاد تخلو هذه العوالم من بعض التعليقات أو المنشورات المؤجِجة والمفخخة المؤدية إلى صراعات وخلافات بين المستخدمين تجرهم في كثير من البلدان إلى التقاضي.

ينقلنا العالم الافتراضي اليوم عبر كابلاته البحرية من منصة إلى أخرى لنجد فيها الوجوه ذاتها والسلوكيات عينها، لا شيء يتغير مطلقا وكأن جميع المهيمنين يرثونها وراثة.

ولعل الظهور المتصاعد للذكاء الاصطناعي قد يقلص مستقبلا من توارثهم بحيث يمنح المتابعين محتوى مخصصا لكل مستخدم.

سيجد المهتم بهذه المنصات طوال فترة انحباسه فيها أنها تركز على انتشار ثقافة المرئي من صورة أو فيديو حيث أصبح التركيز على المظهر الخارجي والصورة المثالية أكثر من التركيز على القيم والمبادئ ولعل الهدف من وراء ذلك تحقيق تجارة مربحة مصدرها أحاديث الناس وقصصهم ومشاعرهم.

ويقع على عاتق الجهات المسؤولة اليوم ضرورة توعية مجتمعاتها بمخاطر هذه المنصات وأهمية استحداث برامج ومناهج تعليمية متخصصة تعلّم كيفية استخدامها بأسلوب حضاري وقانوني يحميها من نتائجها السلبية. كما أصبح من مسؤوليات الأسرة وأدوارها التربية المستمرة وتصويب الأخطاء السلوكية الناتجة عن العالم الإلكتروني، وليكتمل لها ذلك عليها غرس القيم، والتنشئة الأخلاقية الحسنة التي تحمي حاملها في السِر والعلن.. قد يغدو هذا حلا جذريا عدا أن الحلول الكبرى والمهمة تبقى بيد صُنّاع القرار الذين بإمكانهم ضبط إيقاع هذه العوالم ومرتاديها، وإصدار القرارات التنظيمية لتهذيب السلوك المجتمعي وحماية ذوقه العام.

font change
مقالات ذات صلة