ليالينا الرمضانية

ليالينا الرمضانية

مع الأيام الأخيرة من شهر شعبان التي يسميها السعوديون "الشعبنة" إلى لحظة إعلان رؤية هلال رمضان، تعمّ المملكة أجواء هذه "الشعبنة" التي تنتشر فيها لافتات متنوعة لعبارات وصور ترحيبية بهذا الضيف الكريم، لتمتلئ الشوارع بمظاهر الاحتفال بقرب شهر الصوم الذي اعتاد السعوديون تحري بث خبره، فلحظة بث هذا الخبر عبر مصدره التشريعي والإخباري الرسمي لا يزال لها العبق ذاته في النفوس. لتنطلق بعدها لحظات الاحتفاء برمضان المبارك واستكمال الاستعدادات والتجهيزات في جميع مدن المملكة وقراها، فتتحول البيوت بأكملها إلى مسارح ذات تصاميم جمالية تغطي سطوح المنازل، وتزين الفوانيس الأمكنة، مسبغة أجواء رمضانية مميزة على الشوارع والحارات والمساجد التي تعبق فيها روائح العود والبخور.

يعدّ رمضان بتقاليده وعاداته الفريدة التي تضفي على الشهر الفضيل طابعا روحانيا خاصا، علامة مميزة في الثقافة السعودية كما في ثقافة المسلمين حول العالم. تمدّ خلاله مساحات طويلة لسفر طعام رمضانية، وتنشأ خيام وتخصص أماكن للإفطار الخيري. إنه تقليد أصيل موروث منذ مئات السنين تشارك فيه جميع فئات المجتمع.

يجيء هذا الشهر ليعمر قلوب الجميع بروح جديدة تملأ الأرض خيرا وعطاء فتزدهر الحركة التجارية ويتعمق التواصل بين الأسرة والجيران بتبادل الزيارات والهدايا من الأطباق الرمضانية الشهية.

يعدّ رمضان بتقاليده وعاداته الفريدة التي تضفي على الشهر الفضيل طابعا روحانيا خاصا، علامة مميزة في الثقافة السعودية

لا يقتصر رمضان السعوديين على العبادات، والحلقات القرآنية فحسب، بل يشكل فرصة مميزة لتعزيز الإبداع، فيقام العديد من الفعاليات الثقافية في مختلف أرجاء المملكة، منها المعارض الفنية والمحاضرات الدينية وورش عمل الفنون الشعبية. وتعدّ المراكز الثقافية والأندية الأدبية والمكتبات والمقاهي من أهم الأماكن التي تنظم هذه الفعاليات الرمضانية العديدة. كما تقام عروض مسرحية وموسيقية تناسب جميع الفئات العمرية، وتقدم أمسيات شعرية تعزز التواصل المجتمعي، وتثري الحركة الإبداعية، كما يقام العديد من الأنشطة الرمضانية الخاصة بالأطفال، مثل حلقات تحفيظ القرآن الكريم ومسابقات وفعاليات ترفيهية تساهم في تنمية مهاراتهم وتعزيز القيم الإيجابية لديهم.

رمضان في السعودية شهر للتغيير والتطوير، وهو شهر لاستعادة الذكريات الجميلة التي بقي أثرها. فعلى الرغم من المتغيرات الكبيرة في حياة الناس إلا أن الكثير منهم في رمضان تجده يعود إلى الأمس، وإلى رصيد عمره الفائت، وذاكرة أقدم منه بعشرات السنين حيث تجدهم بجميع أجيالهم يستعيدون في أيام صومهم الأولى البرنامج الرمضاني الشهير "على مائدة الإفطار" للشيخ علي الطنطاوي الذي بات هوية رمضانية استطاعت التكنولوجيا والتقنيات الحديثة الحفاظ عليها بالجودة ذاتها واستطاع الناس كذلك الحفاظ على روحانيتها وقيمتها التوعوية والتربوية والتثقفية الثمينة لديهم.

رمضان في السعودية شهر للتغيير والتطوير، وهو شهر لاستعادة الذكريات الجميلة التي بقي أثرها

أما في حارات السعوديين وفي قراهم ومدنهم فلرمضان مظاهر أخرى يسترجع الشباب من خلالها ألعابهم التراثية التفاعلية التي تجمعهم ساعاتٍ طويلة، كما ينتهز بعضهم فرصة ما بعد أداء صلاة التراويح لممارسة لعب الكرة التي كثيرا ما تنتشر ملاعبها في مساحات يجهزونها منذ إعلان دخول الشهر المبارك.
ولعلّ من أجمل المظاهر خلال السنوات الأخيرة ازدياد التقدير والامتنان وتقديم الهدايا الثمينة للأمهات والزوجات لقاء تضحياتهن وعطائهن طوال الشهر، وجميعها تعبر عن الشكر لهن على ما بذلنه من عناء وعطاء، وليت هذه العادة تنتشر وتستمر طوال أشهر العام، فما تقدمه ربّات البيوت يستحق المزيد، وهذا العطاء إنما يزيد المحبة وينمّي الألفة ويضاعف المشاعر الطيبة.

ليالي رمضان في المملكة العربية السعودية مميزة ومختلفة من مدينةٍ إلى أخرى، فكل مكان له أجواؤه وفعالياته وإن تشابهت المدن في لحظاتها الإيمانية. وتبقى الإشارة إلى أن كل ما يحدث من تلك التفاصيل الرمضانية إنما هو ناتج من رغبة السعوديين في الحفاظ على تقاليدهم في خضم تحولات العصر المتسارعة، وهذا يجعلهم بحق مثالا يقتدى للتعايش مع كل ما يطرأ ويتجدد في هذا الكون الفسيح.

font change