العربية في فرنسا بين تطرّفين :الإسلاموية والإسلاموفوبيا

عدد تلامذة اللغة العربية في 1986 لم يتجاوز 13 ألفا وفي 2000 تقلص إلى 7 آلاف

Nesma Moharam
Nesma Moharam

العربية في فرنسا بين تطرّفين :الإسلاموية والإسلاموفوبيا

لم تُثِر لغة أجنبية سجالا في الأوساط السياسية والعلمية والتربوية في فرنسا بقدر ما أثارته اللغة العربية وأثاره تعليمها لـ "المسلمين الفرنسيين العرب". فمسألة تعلم اللغة العربية وحق ما يسمى "الإسلام الفرنسي"، أو "المسلمين الفرنسيين" على وجه الخصوص، بتعلمها، غالبا ما نُقِلت من حقل المعرفة والتعلم والثقافة إلى حقل الدين والسياسة والأيديولوجيا. فجرى خلط مستمر بين اللغة العربية من جهة، والدين الإسلامي ولغته، "لغة القرآن"، من جهة أخرى، حتى كادت تختفي الحدود بين الوجهين. وربما أُهمل عن قصد السياق التاريخي الذي يؤكد أن اللغة العربية أقدم من الإسلام، الذي لا يعدو كونه جزءا من تاريخ اللغة العربية.

دراما استعمارية وأمنية؟

يترتب على هذا الخلط الذي غالبا ما تتبناه أوساط التيار الشعبوي واليمين المتطرف الفرنسيين، خوف فرنسي من تغلغل الإسلام السياسي وما يرافقه من تطرف في أوساط الفرنسيين الناطقين بالعربية. أما الأوساط السياسية الفرنسية الأقل شعبوية وتطرفا يمينيا، فتخلط بين اللغة والثقافة العربيتين وبين الهوية العربية والإسلامية، لتحذِّر من نزعة "الإسلام الفرنسي" إلى انفصال محتمل عن الدولة الفرنسية وعن هوية الجمهورية الفرنسية. وهذا ما يقف عائقا من جملة عوائق أخرى في وجه تكيف "المسلمين الفرنسيين" (اندماجهم؟) الاجتماعي، ويدفع بالراغبين في تعلم اللغة العربية إلى مزيد من التقوقع والعزلة والانغلاق.

ولخص مدير قسم تعليم اللغة العربية في معهد العالم العربي بباريس، محمد قرقور، الحال هذه فقال لـ"المجلة" إن "تعليم لغة الضاد في فرنسا يعاني من مشاكل عدة، بينها نقص في الإرادة السياسية الفرنسية التي تتقاعس عن إتاحة تعلم اللغة العربية لكل الراغبين من الفرنسيين والمقيمين في فرنسا، بلا عوائق وبلا مخاوف أيديولوجية. ومنها أيضا انتشار الصور النمطية الخاطئة عن الإسلام واللغة العربية لدى بعض الفرنسيين الذين يطابقون بين تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، وأحيانا بينهما وبين التطرف والإرهاب. وهذا غير صحيح مطلقا"، حسب قرقور.

لكن في نواة أو عمق مسألة تعلم العربية وما يسمى "المسلمون الفرنسيون"، يكمن تاريخ العلاقة الاستعمارية المأسوية المعقدة بين فرنسا والجزائر التي تنحدر منها كبرى جاليات "الإسلام الفرنسي". ففرنسا في الحقبة الاستعمارية كانت تعد الجزائر أرضا فرنسية، وأقدمت على تكريس رغبتها في فرنسة الجزائر. وقد نجم عن ذلك تدمير المجتمع الجزائري المحلي وهويته ولغته في تلك الحقبة التي لا تزال الجزائر تعاني من آثارها حتى اليوم.

 يترتب على الخلط بين الإسلام والعربية خوف فرنسي من تغلغل الإسلام السياسي وما يرافقه من تطرف في أوساط الفرنسيين الناطقين بالعربية

هناك تاليا استقدام فرنسا من بلاد المغرب العربي، وتحديدا الجزائر، ما تحتاج إليه من عمالة رخيصة للأعمال القاسية والمضنية. شكل أولئك العمال وعائلاتهم منذ الحرب العالمية الثانية جالية مهمشة ومقصية في فرنسا، ينطوي وجودها على "دراما استعمارية" متناسلة شديدة التعقيد. من وجوهها أن "الإسلام الفرنسي" يعدّ اللغة العربية والدين الإسلامي من عناصر هويته التي يخاف منها جمهور فرنسي واسع على هويته الفرنسية. وتشير الإحصاءات إلى أن عدد "المسلمين الفرنسيين" يتجاوز الستة ملايين نسمة.

منذ مطلع الألفية الثالثة استجد في أوروبا كلها الخوف من التطرف الإسلاموي وما يرافقه من عنف. وقد أُضيف هذا إلى قلق فرنسي مما يسمى "النزعة الانفصالية" لدى "مسلمي فرنسا"، ومما تنطوي عليه من تهديد لبنى المجتمع الفرنسي ووحدته وتماسكه الاجتماعي والوطني.

وهاتان الحجتان (الإرهاب الإسلاموي، والنزعة الإنفصالية) هما الأساسيتان اللتان جعلتا من تعلم اللغة العربية والحق في تعلمها أمرا شديد التعقيد في فرنسا. وهذا ما أخّر إلى حد بعيد إدراج اللغة العربية في مناهج التعليم الوطنية أسوة بسواها من اللغات الأجنبية المدرجة في نظام التعليم، كالروسية والصينية والألمانية، علما أن أعدادا كبيرة من سكان فرنسا يتحدثون اللغة العربية التي تتصدر المرتبة الأولى بين اللغات الأجنبية في فرنسا، وتأتي بعدها اللغة الصينية، بسبب كثرة أعداد الجالية الصينية المقيمة في فرنسا.

هذا كله أدى إلى أن تكون المقاربة الفرنسية لتعلم اللغة العربية "مقاربة أمنية" حسب ميما شهال، وهي طالبة دكتوراه علوم سياسية في مدينة مرسيليا الفرنسية. والمقاربة الأمنية غالبا ما تقود إلى ربط تعلم اللغة العربية بمسائل الإرهاب والإسلام السياسي.

متاهة أسباب سلبية

على الرغم من كل الاعتراضات التي واجهت إدراج اللغة العربية في مناهج التعليم الرسمية الفرنسية، أصبحت العربية "رسميا"، بحلول عام 2017، خيارا متاحا لمن يشاء تعلمها في المدارس. لكن تنفيذ ذلك على أرض الواقع لا يزال بعيد المنال إلى حد كبير.

لماذا؟ أولى المشكلات التي تبرز أمام تعلم العربية تكمن - حسب شهال - في النقص الشديد في كوادر تعليمها في فرنسا. يوازيه نقص في خبرات المعلمين. فقد بلغ عدد مدرسي اللغة العربية في عموم فرنسا نحو 200 مدرس، موزعين على المدارس الفرنسية كافة. وهذا رقم قليل. وهو ناجم عن طبيعة الإهمال التاريخي لتعليم اللغة العربية في المدارس والجامعات الفرنسية. وهي المؤسسات المخصصة لإنشاء الكوادر القادرة على تعليمها.

إضافة إلى الإهمال، هناك القطيعة بين التعليم الثانوي والجامعي في مجال تعليم اللغة العربية في فرنسا. وهذا أمر "مدهش" على حد تعبير الباحث المتخصص باللغة العربية، ميلود غرافي. والباعث على هذه القطيعة ثقافي ونخبوي. فالمستعربون الفرنسيون والباحثون ومدرسو الإسلاميات والحضارة والثقافة العربيتين والإسلاميتين في الجامعات، لا صلة لهم بالتعليم ما قبل الجامعي. وغالبية طلاب الدراسات الجامعية العليا من أصول عربية، غالبا ما كانوا يعودون للعمل في بلدانهم بعد حصولهم على الشهادات من جامعات فرنسا. أما أبناء المهاجرين من بلدان مغاربية فلا يقبِلون إلا في ما ندر على دراسات عريبة وإسلامية في فرنسا.  

ويقول السيد أبو سلمى - هكذا رغب التعريف بنفسه، وهو مدرس لغة عربية أكاديمي قدم من سوريا إلى فرنسا في العام 2015 - لـ "المجلة": "بعد وصولي إلى فرنسا واستقراري فيها، تواصلت مع رئاسة قسم اللغة العربية في جامعة جان جوريس في مدينة تولوز جنوب البلاد للانضمام إلى كادر التعليم، خصوصا أن لدي الخبرة والمؤهلات الكافية لذلك. إلا أن المعوقات التي وُضعت أمامي كانت من الصعوبة التي حملتني، بعد مضي بعض الوقت، على التخلي عن الفكرة. فإدارة المدارس والتعليم عموما شديدة المركزية والبيروقراطية في فرنسا، وهي غالبا ما تستريب من إرادة المهاجرين العرب والمسلمين واقبالهم على الانخراط في تعليم لغتهم في المدارس الرسمية".

حتى لو رغبت إدارة المدرسة في إدراج العربية ضمن صفوفها، فإن المشكلة تتعلق بقلة عدد التلاميذ الذين يختارون دراسة العربية

لا تقتصر المشكلة على عدم توفر الكادر المطلوب. فالمدارس في المناطق التي تتحكم بإدارتها المحلية هيئات يمينية، على سبيل المثل، قد تقرر إدارتها استبعاد تدريس اللغة العربية من الخيارات المتاحة للتلاميذ. وحتى في حال عدم استبعاد إدارة المدرسة اللغة العربية لأسباب أيديولوجية ودينية، فإن عدد طلاب اللغة العربية الضئيل يلعب دورا في استبعادها. وتقول شهال: "حتى لو وجد مدرس للغة العربية، وحتى لو كانت إدارة المدرسة ترغب في إدراج اللغة العربية في صفوفها، فإن المشكلة التي قد تواجه الإدارة تتعلق بقلة عدد التلاميذ الذين يختارون دراسة اللغة العربية. والقلة هذه تحمل إدارة المدرسة على عدم فتح صف لهم".

طالبة في مدرسة تولوز الثانوية (16 سنة، تنحدر من أسرة مغاربية) قالت لـ "المجلة": "لم أكن أعلم أن اختيار دراسة اللغة العربية متاح في المدرسة. لذا اخترت اللغة الإسبانية عندما كنت في المرحلة المتوسطة. وفي مرحلة التعليم الثانوي علمت أنني أستطيع دراسة العربية عوضا من الاسبانية. وعندما باشرت التسجيل علمت أن عليّ أن أحضر صف اللغة العربية في مدرسة أخرى، تبعد كثيرا عن الحي الذي أقطنه. زيادة على ذلك وجب على والديّ دفع مبلغ من المال ليس بالقليل، من أجل حضوري في الصف. لذا تخليت عن الفكرة وتابعت تعلم الإسبانية".

أرقام وخيارات وجهات

تشير الأرقام الإحصائية إلى أن عدد تلامذة اللغة العربية في العام 1986 في فرنسا، لم يكن يتجاوز 13 ألف تلميذ. وفي العام 2000 تقلص العدد ليصل إلى 7 آلاف تلميذ فقط في عموم فرنسا. وارتفع العدد تدريجيا ليصل إلى نحو 14 ألف تلميذ في العام 2019. وذلك من إجمالي نحو 5.5 مليون تلميذ فرنسي. وهذا ما يشكل زيادة نسبية، مقارنة بعدد تلاميذ اللغة العربية في العام 2007، الذي وصل إلى نحو 6500 تلميذ، حسب صحيفة "لوموند" الفرنسية.

على الرغم من أن تعلم اللغة العربية في المدارس الرسمية الفرنسية هو الخيار الأفضل للتلامذة على المستويات كافة، لكن المعوقات التي أوردناها أعلاه، أدت إلى بروز المدارس والمعاهد الخاصة كملاذ أكثر استقطابا لتعليم اللغة العربية.

تأتي المساجد في فرنسا وسفارات الدول العربية فيها في مقدمة الجهات التي تقدم دروسا في اللغة العربية. وحسب تقرير صادر عن "المعهد الفرنسي للاندماج"، درس في العام 2015 نحو 75 ألف تلميذ اللغة العربية في الصفوف الخاصة التي تنظمها السفارات. لكن هؤلاء يظلون خارج الجسم التعليمي الفرنسي، أي خارج إشراف وزارة التربية.

معهد العالم العربي

يعد معهد العالم العربي أحد أهم مراكز تعليم اللغة العربية خارج إطار التبعية السياسية والأيديولوجية، وهو يركز بشكل خاص على تعليم العربية وما يرافقها من نشاطات ثقافية وفنية الطابع.

ويعد معهد العالم العربي في باريس، بإدارة جاك لانغ وزير الثقافة السابق، من أهم الجهات الفرنسية في تعليم اللغة العربية. وقد يكون الجهة الوحيدة المخولة منح شهادة في اللغة العربية معترفٍ بها فرنسيا ودوليا. وهي شهادة "سمة"، معترف بها رسميا منذ العام 2019. ويتخرج سنويا من المعهد عشرات الطلاب الحائزين شهادة رسمية في تعلم اللغة العربية، وتعترف بها وزارة التربية الفرنسية.

Nesma Moharam

وكان المعهد قد خصص قسما خاصا لتعليم اللغة العربية، وهو "مركز اللغة والحضارة العربية" الذي يهدف إلى النهوض باللغة العربية لغة للتواصل، وإلى المساهمة من خلال اللغة في فهم أفضل للعالم العربي المعاصر. وهذا إضافة إلى تنظيم دورات لغة عربية لفئات الجمهور المختلفة. وحسب مدير المعهد عبد الغني سباطة، أقيم المركز من أجل تطوير وتعميق تعليم العربية وفهم العالم العربي وثقافاته المتعددة.

مساجد للغة والدين

ربما تتحمل الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية مسؤولية كبيرة في ربط اللغة العربية بالدين الإسلامي. لكن المساجد لها نصيبها الوافر من هذه المسؤولية.

وقد يكون الإقبال الكثيف على تعلم العربية في المساجد، يتعلق بالهوية ولغتها الأم، وكي يستخدمها متعلموها من أبناء جاليات الإسلام العربي الفرنسي للتواصل في دائرة الأسرة وضمن العلاقات الاجتماعية المحيطة بها. لكن ربط أو ارتباط فهم الدين الإسلامي وشعائره بضرورة تعلم اللغة العربية، يجعل من العربية نفسها عاملا "استقطابيا" على حد تعبير شهال. فتصبح المسألة معكوسة، أي تعلم اللغة العربية من أجل فهم الدين ومحاولة الاجتهاد الفقهي.

أحد اللاجئين السوريين في فرنسا (كان مدرسا للغة العربية في سوريا، وفضل عدم ذكر اسمه) يقول: "بعد مضي نحو عامين على وصولي إلى فرنسا واستقراري فيها، سعيت إلى البحث عن عمل كمدرس لغة عربية. قصدت أحد المساجد في المدينة التي أعيش فيها، ولاحظت أن دورات تعلم اللغة العربية تتضمن برنامجا أوسع بكثير من موضوع تعلم اللغة. فإلى جانب حصة تعلم اللغة ثمة ساعات أخرى لتعليم الفقه الديني وتلاوة القرآن. وبما أنني لم أتقن بعد اللغة الفرنسية، فقد اقتَرحت عليّ إدارة الجمعية التي تدير المسجد أن أحضر صفوف تلاوة القرآن. فلربما أستطيع أن أعلم الأولاد نطق اللغة العربية السليم عبر تعليمهم تلاوة القرآن".

العربية والحجاب

السيدة بيان (لم تشأ الإفصاح عن كنيتها العائلية) قدمت من دمشق إلى فرنسا مع أسرتها عام 2013. لم يكن لديها الكثير من الخيارات لتعليم ابنتها (13 سنة) اللغة العربية، سوى إلحاقها بصفوف تابعة لجمعية مدنية يشرف عليها أحد مساجد مدينة تولوز جنوب فرنسا. تقول: "التقيت في أحد الأيام إحدى المشرفات في الجمعية. تحدثت معي وسألتني إن كنت أفكر في تحجيب ابنتي. علّلت المشرفة ذلك قائلة: من الجيد أن تعتاد الفتاة منذ الصغر على وضع الحجاب".

"كان الأمر لافتا وصادما" في آن واحد، قالت السيدة بيان التي خلعت حجابها بعد وقت قصير من وصولها إلى فرنسا، على الرغم من أنها كانت تعيش وسط أسرة مسلمة محافظة، وترتدي الحجاب طوال حياتها في دمشق.

 14 ألف تلميذ يدرسون العربية في فرنسا من إجمالي نحو 5.5 مليون تلميذ

أوقفت السيدة الدمشقية دروس اللغة العربية لابنتها، وقررت تعليمها قواعدها الأولية في المنزل، على أن تستمر في البحث عن خيارات أخرى. خيارات تركز على تعليم اللغة ولا شيء آخر. وهذه حال شائعة في أوساط كثرة من المهاجرين والمتوطنين العرب في فرنسا من الراغبين في تعليم أولادهم العربية، حسب شهادة لبناني مسلم مهاجر في فرنسا. وهو عرف نفسه بأنه علماني. وقال: "لا يريد العرب المسلمون من أمثالي توريط أولادهم في تعلم العربية في المساجد. فالمساجد تستغل رغبتنا في تعلمهم لغتهم الأم، كي تعلمهم الدين الإسلامي على هوى ائمتها، وربما بنسخة مشوهة، قد تغير شخصيتهم، وتعوّق اندماجهم في المجتمع الفرنسي".

المساجد: غاية ووسيلة

يحتل تعليم العربية في المساجد في فرنسا المرتبة الثانية بعد تعليمها في السفارات. وتستقطب المساجد الراغبين في تعلم العربية لأسباب مختلفة. فهي تكاد تكون منتشرة في معظم المدن الفرنسية. ولديها جمعيات أهلية وشبكات واسعة، لا تعد ولا تحصى. وهذا على خلاف المدارس الخاصة والمستقلة القليلة العدد، بل النادرة في مناطق كثيرة.

فهذه الطالبة ميساء (15 سنة، تنحدر من أم سودانية وأب فرنسي) التي التقتها "المجلة"، تقول: "أنا أتعلم العربية في هذا المسجد. ليس لأنني موافقة على كل ما يقدمه من أفكار، بل على العكس. فأنا لا أرضى عن الكثير من الأفكار التي يطرحها إمام المسجد. لكن ليس لدي من خيار آخر لتعلم العربية".

لكن كثيرين آخرين، على عكس ميساء، يسعون بأنفسهم، بل يسعى أهلهم إلى دمج تعلمهم اللغة العربية بتعلمهم قواعد الدين الإسلامي. بمعنى أنهم لا يعترضون على دروس الدين والفقه التي تقدمها جمعيات المساجد بالتوازي مع دروس تعلم اللغة العربية. وهناك كثيرون يريدون تعليم أولادهم اللغة العربية، "كي يتشربوا تعاليم نسخة من الأسلام قد تكون غريبة عنه ومتطرفة، على ما تريد جماعات إسلاموية تتوخى تكريه العرب والمسلمين بالمجتمع الفرنسي والثقافة الفرتسية"، حسب رأي مدرس لغة عربية في مدرسة رسمية بباريس.

لكن هذه فردوس (14 سنة، وهي فرنسية لأبوين جزائريين) مستمرة في متابعة صفوف تعلم اللغة مذ كانت في الثانية عشرة. وتقول أمها: "ابنتي فرنسية بالولادة، ولكنها تنحدر من أصول جزائرية. وفوق هذا نحن مسلمون. بالتأكيد تعلمت ابنتي وتتعلم دينها في المنزل ومع العائلة أولا. لكن الدروس التي تتلقاها في المسجد ساهمت في تحسين معرفتها بقواعد اللغة العربية من جهة، وقدرتها على قراءة القرآن وفهم دينها فهما أفضل من جهة ثانية".

وهذا شاب مغربي (17 سنة) يحضر هو وأخته (13 سنة) دروسا لتعلم اللغة العربية، إجاب عن أسباب اختياره تعلم العربية: "والدي من قرر ذلك. بالتأكيد أنا لا أمانع تعلم لغة عائلتي. لكن أبي كان يسعى إلى أن أحفظ القرآن، أو على الأقل بعض الآيات القرآنية. وفي الحقيقة جهدي منصب على حفظ القرآن. وهذه مهمة ليست بالسهلة. فأنا بالكاد أنطق كلمات اللغة العربية".

لكن يبدو أن مسألة تعلم العربية وحفظ آيات قرآنية، معقدة وتتجاوز خيارات الآباء. ففي كلامنا مع فردوس، وهي تحدثنا بالعربية الفصحى، قالت: "أنا فرنسية، وأريد أن أكون فرنسية طالما الأمر لا يتعارض مع هويتي العربية والمسلمة. وعندما أكون في المدرسة أشعر أنني فرنسية، وأقول إنني فرنسية عندما يسألني أحدهم عن أصولي. لكن ماذا أفعل إذا كان خطاب الكراهية السائد يسعى إلى إقصائنا وتهميشنا، بصفتنا فرنسيين من أصول عربية ومسلمة؟ كأنهم يقولون: انتم لستم فرنسيين، أو لستم فرنسيين كما يجب". وفي هذه الحال ما ردكم على ذلك؟ سألنا عددا ممن أجرينا معم مقابلات.

هنا تتباين الإجابات. البعض قال إنه يبدأ يشعر بشيء من الضيق حيال فرنسيته، وتنشأ بينه وبينها مسافة قد تتحول إلى نفور منها. آخرون قالوا إنهم ينكبون باجتهاد ومواظبة على دراسة العربية وحفظ سور من القرآن. وفئة ثالثة قالت إنها تزداد تمسكا بفرنسيتها وبتعلم العربية وأداء فرائض الدين.

لماذا يتعلم المهاجرون العربية؟

هكذا يبدو أن تعلم "المسلمين الفرنسيين" اللغة العربية مسألة غير لغوية في أحوال كثيرة، أو هي تتجاوز اللغة إلى الهوية والمنبت اللذين لا يد للأفراد في اختيارهما. ثم إن اختيار تعلم العربية لا يبدو خيارا فرديا في حالات كثيرة، بل خاضع لأفعال وردود أفعال تتجاوز الشخص الفرد الذي يصير مسرحا لها، ويصعب عليه التحكم بها، وتخترقه تفاعلات اجتماعية تتدخل فيها جملة من عناصر وضعية وظرفية متغيرة ومتحولة. 

أشارت جملة المقابلات التي أجريناها مع تلامذة يتعلمون العربية إلى وجود مروحة من الإجابات حول أسباب سعيهم إلى تعلم العربية. ثمة من أجاب بأن تعلم العربية شرط لتعلم الدين الإسلامي، كما في حالة فردوس على سبيل المثل، وآخرون تمثلت دوافعهم في تعلم لغة آبائهم واكتشاف الثقافة التي ينحدرون منها.

   لا أرضى عن الكثير من الأفكار التي يطرحها إمام المسجد. لكن ليس لدي من خيار آخر لتعلم العربية

طالبة عربية

وائل مثلا (17 سنة، وكان في العاشرة عندما قدم مع عائلته من سوريا) قال: "في البداية لم أكف عن تكلم العربية. فكنت حريصا على الكلام بها في المنزل ومع العائلة. ولكنني مع الوقت بت أنسى كثرة من مفرداتها. وبعض التعابير والاستعارات أصبحت صعبة الفهم بالنسبة لي. والشغف الذي ألمحه في عيني والدي وهو يقرأ لي بعض الأشعار العربية، حملني على الإصرار على دراسة العربية بشكل منهجي".

يفاخر وائل بحفظه بعض الآيات القرآنية، على الرغم من أنه ينحدر من أسرة مسيحية. ويقول والده إنه ليس قلقا من تأثير تلك الدروس على ابنه. فهو واعٍ إلى أن ما يتعلمه يندرج في إطار الثقافة لا الأيديولوجيا. وازدواجه اللغوي عامل إثراء وتميز له.

معظم طلاب اللغة العربية في فرنسا فرنسيون، لكنهم من أصول عربية، ويصنفون عادة من الأقليات في فرنسا. وعلى الرغم من فظاظة هذا التوصيف، هم فرنسيون في نشأتهم وثقافتهم وحتى في طباعهم. وبعض الباحثين الاجتماعيين يرى أنهم مزدوجون في سلوكهم وتفاعلهم، حسب الدوائر التي ينوجدون فيها. وحسب الباحثة ميما شهال "هم لديهم القدرة على المحاكمة والتفكير والقدرة على التمييز. وفي نهاية المطاف، لديهم القدرة على تمييز ما يودون تعلمه، وإخضاعه للتفكير النقدي واكتشاف ما يمكن إدراجه ضمن الأنساق المعرفية الشخصية". وهي ختمت كلامها قائلة: "تعلم العربية للفرنسيين من أصول عربية، تعدّ تجربة وعملية اكتشاف، تعديل وتحول وتكيف".

font change

مقالات ذات صلة