أظن أن الأهل في هذا يرتكبون خطأ فادحا في حق أطفالهم: تضييعهم فرصة أن يتعرف أطفالهم في بداية حياتهم واحتكاكهم بالعالم الحي المحيط بهم، التعرف عليه وإدراكه والتواصل معه، بلغتهم الأم. وهم، أي الأهل، بدل هذا يعيّشون أطفالهم في لغة مرتجة أو قلقة ويحادثونهم بها، وينشّئونهم في عالم مترجَم ومرتج، أو منفصم اللغة والعلامات والإشارات والتاريخ المعيش. هذا لأن التحدث إلى الطفل بكلمة عربية وكلمة أخرى إنكليزية أو سواها يفقده تلمس العالم والأشياء من حوله بصفاء، ويشوش ذائقته اللغوية في بداية تكونها.
الطمأنينة والأمان
لذا أرغب وأريد هنا، وفي مناسبة اليوم العالمي للغة الأم، أن أطمئن الأهل على أطفالهم وأقول لهم أن يطردوا ذاك الخوف من صدورهم، أي خوفهم على أطفالهم من أن يفوتهم قطار تعلمهم اللغات الأجنبية. وهو خوف ينطوي على تبخيس العربية الذي غالبا ما يتشرّبه الطفل من أهله.
أقول إن على الأهل أن يريحوا أطفالهم من تأسيس ذاك الفصام في لغتهم وفي عالمهم وأنفسهم. فالطفل شديد الذكاء، بل هو شعلة ذكاء في استيعابه بسرعة شديدة اللغة، واللغات الكثيرة في وقت واحد، أو على نحو متزامن. ولا خوف عليه قط من ألاّ يتعلّم لغة أجنبية، حتى قبل ذهابه إلى المدرسة التي تعلمه إياها بسهولة.
لذا على الأهل في بيوتهم ألّا يكلموا أطفالهم بذاك الخليط اللغوي المتج، بل بلغتهم العربية الأم المحكية. فالإنكليزية يحصّلها الأطفال من طرق شتى: التلفزيون، الألعاب، الهاتف المحمول، بل من الهواء، ثم في المدرسة.
هكذا أجدني أخاطب الأهل مباشرة للقول لهم: كلموا أطفالكم بلغتهم الأم، بمحكيتكم اليومية العادية. احكوا لهم حكايات الأجداد القديمة، تلك المغفلة الرواة، وأخبار الحياة اليومية العادية، أو حكايات خيالية تخترعونها. وهناك أيضا قصص كتب الأطفال بلغة عربية فصحية مخففة، وهي صارت متوافرة بغزارة، وسهلة الأسلوب، متقدمة وجيدة في ما تحمله من محتوى معنوي وعملي. وهذا بشهادة بحوث تربوية علمية كثيرة.
الدكتورة هنادا طه
وبلا ذاك الخوف الذي يساوركم من ألّا يتعلم أطفالهم الإنكليزية، والذي لا بد من أن ينتقل إليهم في الهواء، باشروا بالتحدث إليهم بعربية عادية تمنحهم الإحساس بالأمن والأمان والتواؤم مع محيطهم وعالمهم. نعم الطمأنينة والأمان اللذان يلابسان عبارات من أمثال: يا قلبي، يا روحي، يا عيني، يا حبيب قلبي، يا قمري، يا حبيب ماما... إذ كيف يمكن توفير مثل هذه العبادات بغير العربية الأم؟ وكيف يمكن قولها أو ترجمتها بلغة أخرى؟
ثم أين تلك الأمثال والقصص الشعبية الباهرة الطالعة من التاريخ والمتسمرة حية في الحاضر؟ نحن نعيش في بيئات عربية وفي حقيبة لغوية عربية متنوعة وثرية، فلماذا هذا الفصام؟ وإذا كنتم تريدون طفلا أو فتى ثنائيي اللغة، عليكم أن تكلماهما بلغتهما العربية الأم، والمدرسة ووسائل التواصل تتكفل باللغة الثانية.
الحروف وحركات الإعراب
-
هنا يحضر سؤال حول تعلُّم الأطفال لغتهم العربية: علامات الإعراب، وموقع الحروف المختلفة الأشكال الكتابية واللفظ في الكلمات. كيف يمكن تعليم الأطفال لفظ الحروف العربية في هذه الحال؟ هل تسكين الحروف يمكن أن يحلّ هذه المشكلة مثلا؟ وهل من خبرات وتجارب في هذا المجال؟
مثل هذه المسائل تحتاج إلى أبحاث علمية ودراسات، وتواصل مع الهيئات والدوائر التربوية في الوزارات، وكذلك مع مراكز البحوث المتخصصة، للتفكير فيها.
لكن خبرتي تمكنني من القول إن الطفل العربي ليس في حاجة إلى معرفة علامات الإعراب على الحروف، قبل أن يكون قد أجاد القراءة، أي من الصف الابتدائي الأول حتى الصف الرابع، حين لا يكون قد تجاوز سن التاسعة من عمره بعدُ، أو بلغه.