كتاب جديد يستكشف ثقافة الكتابة في ددان القديمة شمالي السعودية

دراسة لغوية تاريخية لنقوش اكتشفت في العلا

Getty Images
Getty Images
الموقع الأثري للمقبرة النبطية في الحِجر (مدائن صالح)، مقبرة لحيان أو قصر الفريد، العلا.

كتاب جديد يستكشف ثقافة الكتابة في ددان القديمة شمالي السعودية

صدر أخيرا عن "منشورات بريل" في لايدن وبوسطن، كتاب جديد حول "ثقافة الكتابة في ددان القديمة" للباحثة البلجيكية فوكلين كوتسترا. ويتضمن هذا الكتاب الذي بلغت صفحاته 343 صفحة من القطع الوسط، دراسة لغوية تاريخية لنقوش ددان ولحيان المكتشفة في مدينة العلا شمالي المملكة العربية السعودية. ويعد إضافة مهمة جدا للدراسات التي تتناول تاريخ العرب القدماءوثقافتهم، نظرا لما يتوفر عليه موقع مدينة العلا وما يحيط بها، من آثار وكتابات من شأنها أن تجلي الغموض عن حقبة موغلة في القدم، وتعاني من ندرة في المصادر التاريخية التي تتحدث عنها.

المعطيات المعروفة عن مملكتي ددان ولحيان قبل بدء التنقيبات العلمية الأخيرة، استقيت من ملاحظات قديمة كتبها رحالة ومغامرون غربيون، وتنقيبات سطحية في القرن العشرين أسفرت عن قراءة بعض النقوش والكتابات، مكنتنا من تحديد أسماء ملوك غامضين، ومؤشرات حول جانب من المعتقدات، وبعض الخصائص اللغوية التي تشبه عربية القرآن. ولكن، مع تواصل البحث الأثري تبين وجود تماثيل ضخمة لشخصيات ملكية، ومسكوكات مميزة، ونمط عمارة رفيع، الأمر الذي يلقي مزيدا من الأسئلة حول حجم وحقيقة هذه المملكة العربية القديمة، وتأثيرها في حركة التاريخ.

بدأت مواسم البحث الأثري المنتظمة للكشف عن مملكتي ددان ولحيان عام 2005، عندما أطلقت جامعة الملك سعود مشروعها التنقيبي في العاصمة القديمة ددان، الواقعة في موقع الخريبة بالقرب من مدينة العلا الحديثة


تنقيب علمي

بدأت مواسم البحث الأثري المنتظمة للكشف عن مملكتي ددان ولحيان عام 2005، عندما أطلقت جامعة الملك سعود مشروعها التنقيبي في العاصمة القديمة ددان، الواقعة في موقع الخريبة بالقرب من مدينة العلا الحديثة، حيث صدر أكثر من تقرير تفصيلي حول المناطق المستهدفة، وهي القصر الملكي، والكتلة الغربية، في ما لا تزال الكتلة الشرقية من الموقع غير منقبة، الأمر الذي يعد بمزيد من المعطيات في المواسم المقبلة. ويمكن إضافة مشروع التنقيب السعودي الفرنسي المشترك في مدينة الحِجر القديمة (مدائن صالح الحديثة)، الواقعة على مسافة 15 كم إلى الشمال من العلا، إلى هذه الجهد، والذي تتواصل مواسمه سنة بعد سنة، ويكشف المزيد من غوامض تاريخ المنطقة. ويأتي هذا الكتاب محصلة للكشوفات الإبيغرافية المتعلقة بمملكتي ددان ولحيان في العلا وتيماء شمالي المملكة العربية السعودية.

Getty Images
النقوش القديمة لمملكة لحيان، العلا، المملكة العربية السعودية، 27 ديسمبر 2019.

وطوال العقود السابقة كانت هناك مشكلة تتعلق بتأريخ النقوش التي عثر عليها في العلا، ويفترض العلماء أنها تنحصر في الفترة ما بين القرنين السادس والأول بناء على صيغ كتابية وإشارات خارجية إلى مملكة ددان. ولكن في الآونة الأخيرة، بدأت كشوفات حديثة في مدينة تيماء تذكر ملوك لحيان في نقوش آرامية، يضاف إليها تحليل المواد العضوية، بما فيها الرفاة القديمة والحمض النووي في العلا ومدائن صالح، الأمر الذي يساعد على تقديم تواريخ أقرب إلى الصحة من أي وقت آخر.

مملكتان

يناقش الكتاب بشكل مستفيض افتراضات علماء الآثار بأن موقع العلا ضم آثار مملكتين، هما مملكة ددان ومملكة لحيان، بناء على نقوش تذكر أسماء ملوك هاتين المملكتين. ففي النقوش الددانية نجد خمسة أسماء مرتبطة باللقب ملك ددن، كما وثقت خمسة أسماء مرتبطة باللقب ملك لحيان.

وقد حاول العديد من العلماء استخدام النسب الملكي والنقوش المؤرّخة بسنوات الحكم للحصول على رؤية دقيقة لطول الفترة التي أنتجت فيها النقوش، حيث استنتج الباحثان  ج. رومر وج. تشارلوكس أنه كان هناك ما لا يقل عن 12 ملكا مختلفا طوال مئتي عام. وهم بذلك يجمعون ملوك النقوش مع ملوك ددان المذكورين في السجل الملكي لملك بابل نبونيد الذي أقام في تيماء من عام 552 إلى 543 قبل الميلاد. وبناء على ذلك افترضوا أن مملكة لحيان لم تكن قائمة في ذلك الوقت. وبناء على ذلك، قالوا إنها قامت بعد ذلك التاريخ، واستمرت إلى عام 300 قبل الميلاد.

من جهته اعتمد البروفيسور فارس درابو على المعطيات المتضمنة في الأنساب الملكية لتقديم مقترح سلسلة حاكمة، وإن كان بالإمكان إنشاء شجرة للعائلة المالكة، ومن شأن هذا إن تم فعلا أن يزودنا بتأريخ تقريبي لهذه النقوش، والتي يمكن أن تكون وسيلة ذات قيمة عالية في فهم التطورات اللغوية وأساليب الكتابة والخطوط المرتبطة بهذه المجموعة السكانية القديمة. ولكن لسوء الحظ فإن مشجرات الأنساب الواردة في النقوش لا تزيد عن اسمين في أغلب الأحيان، هما اسم الملك وأبيه، وفي أحيان أخرى لا تذكر حتى اسم الأب. ونظرا لقصر الأنساب وتكرار الأسماء عبر الأجيال، فقد برزت احتمالات كثيرة عند محاولة إعادة بناء المشجرات الملكية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بعض الملوك أشقاء لا يمثل كل اسم منهم جيلا جديدا.

غلاف كتاب ددان

ومع ذلك؛ فإن النقوش الآرامية المكتشفة في تيماء تلقي بعض الضوء على التأريخ العام لعهد الملوك اللحيانيين، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى أن الخصائص المتعلقة بالكتابة الارامية التيمائية مدروسة أكثر من النقوش الددانية، وفيها خصائص محدّدة تساعد على وضع تأريخ أكثر موثوقية. واستنادا إلى نقش آرامي اكتشف أخيرا في تيماء، يمكن تأريخه إلى فترة وجود ملك بابل نبونيد في المدينة، يمكننا دراسة الانتقال السلس على ما يبدو من الكتابة الآرامية التيمائية إلى الكتابة النبطية. وبناء على ذلك يرى فريق من العلماء أن المعطيات الباليوغرافية، أي علم الخطوط والكتابات القديمة، المرتبطة بالنقوش الآرامية التي تذكر ملوك لحيان في تيماء، كتبت بين القرنين السادس والأول قبل الميلاد.

 

قضايا إشكالية

ثمة منهج آخر اعتمده بعض الباحثين للمساعدة في تحديد تاريخ النقوش، وهو منهج فقه اللغة. فقد استنتج الباحث ف. وينيت أن استخدام مصطلح "فحت ددن"، أي حاكم أو والي ددن، في النقش المرموز له بـ "JSLih 349"، يشير إلى فترة الحكم الإخميني الفارسي في القرن السادس قبل الميلاد، ولكن الباحث غراف أثبت أن هذا المصطلح آشوري أصلا، وعثر عليه في بردية مصرية ترجع للعام 604 قبل الميلاد. وبطريقة مماثلة يحاول الباحث الباحث دبليو كاسكل استخدام صيغة "ذكير" للربط بين النقوش الددانية والنبطية، ومع ذلك لا يوجد أي دليل واضح لا يقبل الجدل على وجود اتصال مباشر بين الأنباط والمملكة اللحيانية.

ومن القضايا الإشكالية التي يناقشها كتاب "ثقافة الكتابة في ددان القديمة" النقوش المعينية التي عثر عليها في المدينة. لقد اعتبر الكثير من الباحثين أن مصطلح "أكبر ددن"، الموجود في النقوش المعينية، يشير إلى سيطرة سياسية معينية على المدينة، لكن معطيات جديدة نقضت هذه الفرضية، وأكدت أن وجود المعينيين في ددان لا يتعدّى كونه مستوطنة تجارية ضمن المملكة اللحيانية، ربما على شاكلة المستوطنة التجارية النبطية قرب نابولي في إيطاليا، أو المستوطنة التجارية التدمرية في جنوبي العراق ضمن مملكة كرك ميسان.

ويكتسي بعض النقوش المعينية في ددان أهمية خاصة، كونها تنطوي على ذكر أحداث تاريخية تساعد في التزمين، ومن ذلك النقش المعيني المرموز له بـ "RES 3022" على وجه الخصوص، حيث ذكر الصراع بين مادي ومصر. وهذا النقش كان محور العديد من الدراسات التي حاولت إيجاد تأريخ له من خلال الأحداث التي يصفها، حيث ربط هذا الحدث بغزو مصر على يد أرتحشستا الثاني عام 343 قبل الميلاد. ومع ذلك، يشير بعض العلماء إلى أن النقش يتحدّث عن تمرّد أو ثورة للمصريين ضد الحكم الفارسي وليس عن حرب، وهذا يعني أن تأريخ النقش يجب أن يكون مرتبطا بإحدى الثورتين الرئيسيتين، إما ثورة إيناروس (بين عامي 463 و461 قبل الميلاد) أو أميرتايوس (405 قبل الميلاد)، مع إعطاء تفضيل بسيط للتاريخ الأخير. وعليه فإن التواريخ النهائية المقترحة الجديرة بالاهتمام حول الوجود المعيني في ددان تنحصر بين القرنين الرابع والأول قبل الميلاد.

يناقش الكتاب بشكل مستفيض افتراضات علماء الآثار بأن موقع العلا ضم آثار مملكتين، هما مملكة ددان ومملكة لحيان، بناء على نقوش تذكر أسماء ملوك هاتين المملكتين. ففي النقوش الددانية نجد خمسة أسماء مرتبطة باللقب ملك ددن، كما وثقت خمسة أسماء مرتبطة باللقب ملك لحيان

باليوغرافيا

في الكتاب فصل مهم عن المتغيرات الباليوغرافية على النقوش، والتي تساعد على إنشاء تسلسل زمني للمدينة، حيث أظهرت النقوش الددانية تنوعا في أشكال حروفها. لقد قسمت جميع النظريات المتعلقة بتزمين نقوش موقع ددان تاريخ المدينة بين فترة "ددانية" تليها فترة "لحيانية"، اعتمادا على أشكال الكتابة وتطورات رسم الحروف. وناقش الباحث جريمي عام 1932 باستفاضة قراءة ما أسماه "الددانيين"، والذين ميزهم عن "اللحيانيين". وكان من المفترض أن الحروف ذات القاعدة المربّعة تطوّرت لتصبح أكثر مثلثية، وفي الوقت نفسه، قيل إن الحروف ذات الشكل الدائري الأساسي تتحوّل إلى أشكال تشبه الماسة. كما أن الميم خضعت لتغيير ملحوظ بشكل خاص من مثلثين صغيرين فوق بعضهما البعض إلى شكل هلالي.

ومن جهته اقترح وينيت عام 1937ما يعرف بـ "التسلسل الزمني الطويل" للنقوش، حيث وضع الفترة الددانية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، والفترة اللحيانية بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد، في ما اقترح كاسكل عام 1954 "التسلسل الزمني القصير" الأقل قبولا، والذي يضع النقوش الدادانية بين 160 و115 قبل الميلاد، والمرحلة اللحيانية بين 115 قبل الميلاد و150 بعد الميلاد.

Getty Images
لوحة تذكارية تخليداً لذكرى قيام نبونيد بترميم معبد سين عام 552 ق.م.

وفي الآونة الأخيرة، طرح الباحث المجتهد مايكل ماكدونالد الكثير من القرائن، بأن استخدام علم الباليوغرافيا للوصول إلى تسلسل زمني نسبي للنقوش لا يمكن الدفاع عنه دون وجود نقوش مؤرّخة بشكل ثابت لترسيخ تطور أشكال الحروف. ولذلك لابد من العودة إلى الأدلة الأثرية التي تعد بالمزيد من المفاجآت مع توسع أعمال التنقيب في مناطق غير منقبة حتى الآن، وهذا ما تقوم بها بعثة جامعة الملك سعود في مشروع موقع الخريبة الأثري.

يضم الكتاب فصولا أخرى حول  الخطوط وأدبيات الكتابة في ددان، والحروف وأشكالها المتنوعة، وأنماط النصوص، والأبجدية الددانية، والصيغ التركيبية، وقواعد الإملاء، وعلم الأصوات، وحروف العلة القصيرة، والإدغامات، وقواعد الصرف، ولواحق الاقتران، والجنس، والعدد، والضمائر، وحروف الجر، وأسماء الوصل، ومعجما لغويا للغة الددانية اللحيانية.

اعتبر الكثير من الباحثين أن مصطلح "أكبر ددن"، الموجود في النقوش المعينية، يشير إلى سيطرة سياسية معينية على المدينة، لكن معطيات جديدة نقضت هذه الفرضية، وأكدت أن وجود المعينيين في ددان لا يتعدّى كونه مستوطنة تجارية ضمن المملكة اللحيانية

اكتشاف مسكوكة فريدة من مملكة لحيان

أعلن خبير مسكوكات كندي - أردني قبل أيام عن اكتشاف قطعة نقد من فئة التترادراخما، مسكوكة في مملكة لحيان، شمالي المملكة العربية السعودية، في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن الرابع قبل الميلاد، ومن شأن هذه القطعة الفريدة من نوعها أن تساهم في إلقاء المزيد من الأضواء على تاريخ مملكة لحيان خصوصا والمنطقة الشمالية الغربية من المملكة العربية السعودية عموما، في ظل افتقار هذه المنطقة لنصوص تاريخية تضيء على أوجه نشاطها السياسي والتجاري منذ العصر الحديدي وحتى العصر الامبراطوري الروماني.

يقول سالم الشديفات إن مملكة لحيان بقيت قوية وذات نفوذ كبير في المنطقة إلى أن ضمها الملك حارثة الرابع ملك الأنباط إلى مملكته حوالي 25 قبل الميلاد".

Getty Images
مشهد جوي للموقع الأثري في مدينة العلا، المملكة العربية السعودية.

ويضيف: "سكّ اللحيانيون النقود الإغريقية الاكثر انتشارا في تلك الفترة وهي التترادراخما الأثينية حوالي 17 غراما من الفضة، والتي تحمل صورة الإلهة أثينا من جهة وطائر البوم رمز الحكمة من الجهة الأخرى، وكذلك سكوا الدراخما التي يبلغ وزنها حوالي 4 غرام برأس الآلهة آثينا على جهة وقمر على الجهة الأخرى، وذلك لتسهيل عملية التبادل التجاري مع الإغريق، وهذا النمط من السكوك غير منشور من قبل، وهذه أول قطعة من هذا النوع، حيث جرت العادة أن يكون هنالك قمر أو قمران على حد الآلهة آثينا ولكن هذه القطعة لا تحمل هذه العلامة، وبعد التواصل مع الخبير بالنقود اللحيانية مارتن هوث، أكد أن هذه القطعة غير منشورة وهي الوحيدة بالعالم لغاية اللحظة".

ويشير شديفات إلى "جمال السك وإبداع صانع القالب الذي يدل على مدى التطور الذي وصل له اللحيانيين ومدى تواصلهم الحضاري مع الحضارات المحيطة وحتى البعيدة".  

والحق أن هذا الاكتشاف يعيد إلى الواجهة المشكلة اللحيانية، فهذه المملكة التي دلت البقايا الأثرية المكتشفة في مدينة العلا خصوصا، على تطورها وقوتها، تفتقر إلى مرويات تاريخية يمكن أن تساعد على وضع تسلسل كرونولوجي يسد الفجوة الزمنية التي يعانيها تاريخ هذه المنطقة.

font change

مقالات ذات صلة