تيماء السعودية ما بين السموأل الحقيقي والمتخيّل

الخط المربع أحد أسرار عاصمة نابونيد الملكية

مدينة تيماء السعودية

تيماء السعودية ما بين السموأل الحقيقي والمتخيّل

مع قرب انتهاء موسم التنقيب الثالث لهذا العام في مدينة تيماء السعودية، تتجدّد الآمال في العثور على أدلة جديدة تجلي الغموض عن تاريخ الحقبة التأسيسية لهذه المدينة المهمة التي تعود إلى بدايات الألف الثاني قبل الميلاد. وعلى الرغم من ارتباط تيماء، في مرويات الإخباريين العرب، بقصة "وفاء السموأل" الشهيرة، إلا أن المعطيات الآثارية التي تمخضت عنها، طوال قرن ونصف القرن من التنقيب العشوائي والمنظم، بيّنت أننا أمام واحدة من أعظم مدن الشرق القديم، وربما كانت المكان الذي تطوّر فيه الخطّ الآرامي المربع الذي تبنته الأمبراطورية الإخمينية، وطغى على جميع أنواع الكتابات في العالم القديم، بل إن نقشا نبطيا عثر عليه في مدائن صالح قد يجلي الغموض عن شخصية السموأل الحقيقي حاكم تيماء والحجر، إبان الوجود الروماني في المنطقة.

قبل أيام، كشف البروفسور أرنولف هاوسلايتر، رئيس الجانب الألماني من البعثة الألمانية السعودية التي تعمل في مدينة تيماء السعودية، أن تنقيبات الموسم الثالث لعام 2023 بين شهري يونيو/حزيران الماضي، ويوليو/تموز الحالي، ستتابع البحث في مقابر العصر البرونزي (2200 قبل الميلاد)، حيث من المنتظر أن تدعم أو تدحض العديد من الفرضيات والأسئلة حول العمق التاريخي لتقاليد الدفن الفردية أو الجماعية في هذه المدينة.

تلك الحقبة التي تركز عليها البعثة الألمانية وتعمل عليها بشكل حثيث منذ سنوات، تسبق الحقب التي شكلت شهرة المدينة، كمحطة تجارية مهمة في بدايات الألف الأول قبل الميلاد؛ حين ذكرتها المصادر المسمارية في أكثر من مناسبة من مناسبات مصادرة الآشوريين للقوافل القادمة من الجزيرة العربية، وكعاصمة ملكية للملك نابونيد الذي حكم ما بين 556-539 قبل الميلاد، منها عشر سنوات أمضاها في تيماء بعدما ترك عاصمته بابل.

يعدّ القلم الآرامي المربع واحداً من أهم أسرار تيماء التي لم تكشف بعد، فقد عثر على ما يقارب الخمسين نقشاً بهذا الخط، تقدر المدة الزمنية التي تغطيها بنحو ثلاثة قرون، تمتد ما بين القرن السادس والقرن الثالث قبل الميلاد، وهذه النقوش تعدّ الأدلة الأوضح على انتقال الكتابة الأبجدية من القلم الفينيقي- الآرامي القديم، إلى هذا القلم الذي شكّل أساس الكتابات اللاحقة عند العمانيين والأنباط والسريان والتدمريين والحضريين، وصولا إلى خط الجزم العربي الذي نستخدمه اليوم.

وما يدعم أقدميّة تيماء في ابتكار هذا القلم، الذي غدا لغة التدوين العالمية إبان توسع الامبراطورية الإخمينية الفارسية، لوح بالخط اللوفي الأناضولي لأحد رجال الدولة في المملكة الحثية الحديثة يعود إلى منتصف القرن الثامن قبل الميلاد يقول فيه إنه يجيد قراءة الخط التيمائي والآشوري والصوري إلخ. وقد ذهب نفر من الباحثين إلى أن المقصود بالتيمائي خط تيماء.

وربما كان نقش "جزية بنت رجع إيل" الذي عثرت عليه البعثة السعودية الألمانية في موسم عام 2011، أطرف هذه النقوش، وسبب طرافته أنه شاهدة مقبرية استخدمت ثلاث مرات في عصور مختلفة من دون أن يُخرّب الجديد كتابة القديم. فالكتابة الأقدم، التي تحتل السطر الأول النافر، كتبت بخط تيماء المربع، وهو يخص امرأة تدعى جزية بنت رجع ايل (نفش جزيه برت رج ع ل)، وهي كتابة ترجع إلى القرن السادس أو الخامس قبل الميلاد، والكتابة المتوسطة، التي تحتل السطر الثاني، مكتوبة بالخط النبطي المبكر، واللافت أنه يشكل المرحلة الانتقالية ما بين التيمائي المربع والنبطي المتوسط، ويعود، وفقا للمقارنات، إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، ويخص امرأة تدعى جزيلة بنت وائلة (هي نفش جزيله برت وايله). أما الكتابة الثالثة والأخيرة فتحتلّ الأسطر الثالث والرابع والخامس مكتوبة بالخط النبطي الأوسط، وهو نمط من الكتابة النبطية ساد في القرنين الأول قبل الميلاد والأول بعد الميلاد، وهي كتابة مؤرّخة بعهد الملك النبطي الحارث الرابع في العام الرابع قبل الميلاد، ويخصّ سيدة تدعى "فصايل بنت عبيدو ماتت في شهر أيلول من السنة الرابعة والعشرين لحارثة ملك النبط محبّ شعبه".

 قد يجلي نقش نبطي عثر عليه في مدائن صالح الغموض عن شخصية السموأل الحقيقي حاكم تيماء والحجر، إبان الوجود الروماني في المنطقة


بحسب الإخباريين العرب فإن السموأل شاعر جاهلي يهودي عربي، كان يملك حصناً في تيماء، وقد عاش في نهايات القرن الخامس وفي النصف الأول من القرن السادس الميلاديين. وبعضهم يجعله من سكان خيبر، وكان يتنقل بينها وبين حصن له في تيماء سمّاه الحصن الأبلق.

ثمة خلاف كبير على نسب هذا الشاعر بسبب تناقض المعلومات الواردة في الأبيات المنسوبة إليه، ففي حين ينسبه البعض الى سبط يهوذا أو سبط لاوي، هناك من يؤكد أنه غساني من قبيلة الأزد، في حين ذهب آخرون إلى أنه عربي يهودي من بني الديان من بني الحارث بن كعب من قبيلة مذحج لافتخاره بهم في قصيدته. وأصحاب هذا الرأي يعتقدون أن قومه اعتنقوا اليهودية قبيل انتقالهم من اليمن إلى نجران ثم إلى شمال الجزيرة العربية، إلى الحصن الأبلق المنيع في تيماء، الذي بناه جده كما يقولون.

دارم بن عقال

وتستقي المصادر العربية قصة وفاء السموأل من دارم بن عقال، وهو أحد الاخباريين العرب الذين عاشوا في مطلع العصر العباسي، والذي يقول إن رجلا من فزارة نصح الشاعر امرأ القيس الذي جمع سلاحه ليثأر لمقتل والده، باللجوء إلى السموأل بعدما وقعت حروب بسببه بين عامر بن جوين وطيء، لكن امرأ القيس مات ولم يعد لاسترداد أمانته، فأرسل ملك كندة إلى السموأل يطلب منه تسليمه الدروع، فرفض ذلك تماماً، وقال إنه لن يعيدها إلا لصاحبها أو ورثته. وكرّر الملك طلبه بإلحاح مرات عدة، ولكن بقي السموأل مصراً على رأيه الرافض، وقال له: لا أغدر بذمتي، ولا أخون أمانتي، ولا أترك الوفاء المفروض علي.

نقش جزية

بعد موقف السموأل الثابت، سار الملك الكندي إليه بجيشه وحاصر حصنه، وفي أثناء الحصار وقع ابن السموأل في قبضة جيش الملك، وأسروه ليساوموا والده على الأسلحة، ومع ذلك لم يغير السموأل رأيه حتى مع وجود ابنه رهينة عند الملك، وتهديده بقتل الولد، فما كان منه إلا أن قال: ما كنت لأخون عهدي وأبطل وفائي فاصنعوا ما شئتم. فيقتل الملك الكندي عندها السموأل، ولكن من دون أن يتمكن من استعادة دروع امرئ القيس. وهكذا ذهبت مثلا: "أوفى من السموأل". 

تشكيك الأصفهاني وياقوت

وقد تنبّه أبو الفرج الأصفهاني إلى أسطورية هذه القصة بسبب استحالة جمع شخصياتها في زمن واحد، إذ يقول: "حكى عبد اللّه بن أبي سعد عن دارم بن عقال، وهو من ولد السموأل، أن عاديا هو ابن رفاعة بن ثعلبة بن كعب ابن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء، وهذا عندي محال؛ لأن الأعشى أدرك شريح بن السموأل وأدرك الإسلام، وعمرو مزيقي قديم، لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة بل أكثر".

كما طعن صاحبُ "الأغاني" بصحة قصيدة امرئ القيس:

طرَقتكَ هِندٌ بعْد طول تجنّب   

وَهْناً ولم تكُ قبل ذلك تطرقِ

وهي القصيدة التي تتحدث عن السموأل، حيث يقول الأصفهاني: "وهي قصيدة طويلة وأظنها منحولة لأنها لا تُشاكل كلامَ امرئ القيس والتوليدُ فيها بَيِّنٌ، وما دوّنها في ديوانه أحدٌ من الثقات، وأحسبُها ممّا صنعه دارم [بن عقال] لأنه من وُلد السّمَوأل، أو مما صنعه من روى عنه من ذلك فلم تُكتَبْ هنا"، ويقصد أنه لم يضمّها إلى كتابه "الأغاني" بسبب استحالة أن تكون حقيقية.

كما أبدى ياقوت الحموي شكوكا في حقيقة قصة الحصن الأبلق نظرا الى هزالة البناء والآثار التي رآها، و"التي لا تدلّ على ما يحكى عنها من العظمة والحصانة"، حسب تعبير ياقوت الذي نسب حصار الحصن المزعوم إلى أحد ملوك الغساسنة وهو "الحارث بن ظالم ويقال الحارث بن أبي شمر الغساني".

تعدّ هذه النقوش الأدلة الأكثر وضوحاً على انتقال الكتابة الأبجدية من القلم الفينيقي- الآرامي القديم، إلى هذا القلم الذي شكّل أساس الكتابات اللاحقة عند العمانيين والأنباط والسريان والتدمريين والحضريين، وصولا إلى خط الجزم العربي الذي نستخدمه اليوم


بعد تشكيك القدماء، ظهرت دراسات ومقالات عديدة شكّكت في قصة السموأل، ربما أشهرها مقالة الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة الذي لم ينف صحة قصة امرئ القيس في مجملها، كما فعل طه حسين ومن سار على منواله، بل اختص بالنفي قصة دروعه التي أودعها عند السموأل، لأسباب كثيرة أوردها في متن مقالته، وأهمها السبب الذي اعتمده الأصفهاني في نفي صحة القصيدة ونسبتها الى دارم بن عقال الذي كان يدّعي الانتساب الى السموأل. 

ويمكن أن نضيف إلى هذا وجاهة ملاحظة ياقوت الحموي حول الحصن الأبلق، فقد بيّنت المسوحات الأثرية أن زمن هذا النوع من الأبنية يعود إلى فترة تسبق الفترة التي تسمّى الجاهلية، والتي تقع قبل ظهور الدعوة الإسلامية بنحو مئة عام فقط. حيث أن البقايا المادية دلت على أن الأبنية من هذا النوع تعود الى الحقبة النبطية وربما البيزنطية المبكرة.

غير أن المفاجأة الآثارية التي زادت الغموض حول شخصية السموأل الحقيقي هي نقش نبطي عثر عليه في مدينة الحجر (مدائن صالح حالياً) تاريخه عام 357 ميلادي، يذكر اسم حفيد رئيس تيماء عمرو بن عدنان بن السموأل الذي تزوجت ابنته مونة من ابن عمها عدنان بن حبي بن السموأل، رئيس الحجر.

وإذا فرضنا أن السموأل الجد كان يعيش قبل أحفادة بأقل من قرن من الزمان فسيصبح نشاطه في القرن الثالث الميلادي، أي قبل وقائع القصة المتخيلة للسموأل مع امرئ القيس بثلاثمئة عام.

وعليه، فإن السموأل الحقيقي هو حاكم لتيماء والحجر في فترة سيطرة الرومان على المنطقة، وغير واضح الديانة، فهو على الأرجح، وبحسب نص شاهدة المقبرة التي تخص حفيدته وحفيده، على دين عرب الجاهلية.

مع ذلك لا يمكن الجزم بأي من هذه المعلومات، فقد تكشف لنا الأيام عن معطيات آثارية جديدة تنسف أو تثبت هذه الافتراضات المحيرة.

font change

مقالات ذات صلة