اكتشاف معسكرات رومانية في السعودية يفتح صفحات تاريخية مهملة

عرب الجزيرة وروما تاريخ طويل من الحروب والتحالفات

خريطة رومانية تبين موقع الفوج الثمودي في مصر

اكتشاف معسكرات رومانية في السعودية يفتح صفحات تاريخية مهملة

تجدّد دراسة نشرت قبل أيام، أنجزها علماء آثار في "أكسفورد" البريطانية، واعتمدت على صور جوية، الجدل الأكاديمي حول العلاقات الرومانية بالجزيرة العربية وقبائلها، والممالك التي كانت سائدة فيها، بعد الكشف عن المزيد من الآثار في مواقع العلا ومدائن صالح، والروافة قرب تبوك، والجوف في شمالي المملكة العربية السعودية.

نهاية الأنباط

ويربط الباحثون المشاركون في هذه الدراسة، وهم الدكتور مايكل فرادلي، والدكتور مايك بيشوب، والبروفيسور أندرو ويلسون، بشكل مبدئي بين هذه المعسكرات ونهاية المملكة النبطية عام 106 للميلاد، ويقترحون نهاية دامية لهذه المملكة العربية، وليست سلمية كما تخبرنا النصوص التاريخية.

يقول الدكتور فرادلي: "إن مستوى الحفاظ على المعسكرات رائع حقا، لا سيما أنها ربما لم تُستخدم إلا لبضعة أيام أو أسابيع، لقد سلكوا طريق قوافل جانبي يربط باير بدومة الجندل. وهذا يشير إلى استراتيجية جديدة تتجاوز الطريق الأكثر استخداما جنوبي وادي السرحان، مما يضفي عنصر المفاجأة على الهجوم".

ويضيف البروفيسور ويلسون من جانبه: "هذه المعسكرات، إذا كنا على صواب في تأريخها إلى أوائل القرن الثاني الميلادي، تشير إلى أن ضم الرومان للمملكة النبطية بعد وفاة آخر ملوكها رب إيل الثاني في عام 106 ميلادي لم يكن سلميا تماما، بل إن روما تحركت عسكريا بسرعة للسيطرة على المملكة".

EAMENA
خريطة توضح موقع المعسكرات الرومانية

ويأمل علماء الآثار اختبار فرضياتهم على الأرض، عند الكشف المباشر على هذه المواقع وفحص البقايا الأثرية التي تؤكد تلك الفرضية أو تنفيها، ويتساءل البروفيسور ويلسون: "لماذا تبلغ مساحة المعسكر الغربي ضعف مساحة المعسكرين الآخرين؟ هل انقسمت القوة، وإذا كان الأمر كذلك، فأين ذهب النصف الآخر؟ هل قضي على نصفه في المعركة أم أنه بقي في المعسكر الغربي لإعادة إمداد المعسكرين الآخرين بالمياه؟".

يربط الباحثون المشاركون في هذه الدراسة، بشكل مبدئي بين هذه المعسكرات ونهاية المملكة النبطية عام 106 للميلاد، ويقترحون نهاية دامية لهذه المملكة العربية، وليست سلمية كما تخبرنا النصوص التاريخية

تشكيك عربي

ويشكك البروفسور زياد السلامين، الأكاديمي الأردني المتخصص بتاريخ الأنباط، بهذه الفرضيات ويُرجِّح أنها شيدت في فترة متأخرة عن التاريخ الذي تفترضه الدراسة، والسبب برأيه يرجع إلى وجود معسكرات شبيهة لهذه المكتشفة في مواقع أردنية عديدة مرتبطة بإصلاحات الإمبراطور دقلديانوس (244- 312م) العسكرية التي أعادت تنظيم القوات في مناطق التخوم العربية (Limes Arabicus) بهدف حماية الإمبراطورية من هجمات البدو، ومن هذه المعسكرات المشابهة حصون الدعجانية واللجون وأذرح.

ويؤكد البروفسور السلامين أن التسرع في إعطاء تاريخ زمني لفترة تشييد هذه المعسكرات أمر غير مقبول حاليا، لعدم تنقيب هذه المعسكرات وعدم مسحها ميدانيا، لا سيما وأن زعم الفريق الآثاري معتمد فقط على الصور الجوية.

ويشير البروفسور السلامين إلى أن الرومان في الفترة المعاصرة لضم مملكة الأنباط لم يكونوا مهتمين بالأجزاء الجنوبية منها بشكل كبير، بل كان تركيزهم على القسم الشمالي وهو منطقة حوران التي أصبحت أبرز مدنها عاصمة للولاية الرومانية الجديدة، لمحاذاة هذه المنطقة جغرافيا لولاية سوريا الرومانية التي تأسست سابقا في القرن الأول قبل الميلاد، ونعتقد أن البقايا الأثرية والفخارية المكتشفة في دومة الجندل شمالي المملكة العربية السعودية، والتي تعود إلى الفترة الرومانية البيزنطية قد تشير إلى زمن هذه الحملة إذا كانت قد وصلت هناك، خصوصا بعد الكشف عن تدمير وحريق في دومة الجندل يعود إلى هذه الحقبة. ولكنها ما تزال بحوثا أولية، وننتظر مزيدا من الأدلة الدامغة لدعم هذا الافتراض.

معسكرات عسكرية رومانية في الصحراء اكتشفها علماء آثار في أكسفورد باستخدام Google Earth.

حملة إيليوس جالوس

بدأت علاقة الرومان المباشرة بالجزيرة العربية عام 24 قبل الميلاد، حين قرر الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر (63 ق.م - 14 م) توجيه حملة بقيادة واليه على مصر إيليوس جالوس، للسيطرة على الطريق التجارية التي تربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها عبر ساحل البحر الأحمر. وبحسب رواية المؤرخ الروماني سترابون (63 ق.م - 24م) قدم الأنباط  دعم لوجستيا للحملة عن طريق الوزير النبطي سلي الذي رافق الحملة.

ويقول سترابون: "جَهَّز إيليوس جالوس ثمانين قاربا ، ثم بنى مئة وثلاثين سفينة، وأبحر بها من ميناء كليوباترس في مصر، وقد تنوَّعت هذه السّفن فمنها ما كان ثنائي المجاديف، ومنها ما كان ثلاثي المجاديف، ومنها الخفيفة، وتكوّنت الحملة من عشرة آلاف من المشاة الرّومان من مصر، وكان من بين حلفاء الرّومان خمسمائة من الحرس الشخصي لملك اليهودية هيرود، إضافة إلى ألف جندي عربي نبطي. دخلت القوات إلى ميناء ليوكه كومي". المرجح أن يكون القرية البيضاء، شمالي المملكة.

وذكر سترابون أنّ "القوات الرومانية كانت تعاني من الأمراض، كداء الإسقربوط وترقق العظام، فأُجبر جالوس على قضاء مدة زمنيّة في ذلك الميناء حتى يتمّ شفاء المرضى، وبعدها توجّه بعد مسيرة عدّة أيام إلى أرض الحارث، أحد أقرباء عبادة الثالث الذي استقبلهم استقبالا حافلا"، والحارث هذا قد يكون واليا أو حاكم إداري نبطيّ لإحدى المدن النبطيّة التي ربّما تكون مدائن صالح.

ثم يذكر  سترابون بعد ذلك أنّه بعد مسيرة ثلاثين يوما في أرض ذات طوبوغرافيا صعبة، وصلت القوات إلى أراريني والتي يرجح أنها نجران جنوبي غربي المملكة العربية السعودية، ففر ملكها منها واستولى الرّومان عليها، وحدثت معركة بعد ذلك بين الرّومان والعرب،  خسر فيها العرب الذين يصفهم بعدم خبرتهم في استخدام الأسلحة، إضافة إلى استخدامهم أسلحة بسيطة، إذ، يذكر سترابون، أنّ العرب خسروا حوالي عشرة آلاف محارب، في حين لم يخسر الرّومان إلا جنديين.

إن التسرع في إعطاء تاريخ زمني لفترة تشييد هذه المعسكرات أمر غير مقبول حاليا، لعدم تنقيب هذه المعسكرات وعدم مسحها ميدانيا، لا سيما وأن زعم الفريق الآثاري معتمد فقط على الصور الجوية – بروفسور زياد السلامين

مبالغة

وهنا تبدو المبالغة في الأرقام، وعدم الأمانة في نقل الحقيقة، ويعتقد أنّ سبب ذلك هو صداقة سترابون وجالوس قائد الحملة، وهو ما جعله ينحاز إليه، ويحاول أن يربط أسباب فشل الحملة بالأنباط، وليس بقائدها، وأن يربط فشل الحملة بأمور خارجة عن سيطرة القائد الرومانيّ.

وبعد ذلك تتقدم الحملة نحو منطقة الجوف لتصل إلى مرسيبا التي قد تكون مأرب، وهي مدينة  محصّنة، كما يقول، فحاصرها الرّومان ستة أيام، ولكنهم لم يستطيعوا إخضاعها، وتراجع الرّومان بعد ذلك بسبب قلّة المياه، وانتشار الأمراض بين جنودهم، فعادت الحملة إلى نجران، ووقعت معركة بين الرّومان والعرب هناك، وتوجهت الجيوش شمالا إلى أرض الأنباط، وقد قطع جالوس البحر عائدا إلى مصر.

خريطة رومانية تبين موقع الفوج الثمودي في مصر

كانت نتيجة حملة جالوس على الجزيرة العربيّة الفشل الذريع، ويعزو سترابون هذه الفشل إلى تضليل الوزير العربي النبطي سلي الذي قادهم عبر طرق صعبة غير آمنة، وشواطئ صخريّة لا موانئ فيها، فقد جَهَّز جالوس جيشا لخوض حرب بحريّة ولكنها لم تحدث.

لقد ساهمت هذه الحملة في تعرف الرومان على العرب وطبيعة الجزيرة العربية عن كثب، وأيقنوا استحالة احتلال هذه البلاد، إذ لم يكرروا الرومان المحاولة بعد ذلك.

 

ثمود وقواتها الرومانية

هذا ما يتعلق بالمصادر التاريخية ولكن الآثار والوثائق لها كلمة أخرى، إذ دلت على قيام تحالف بين الرومان والثموديين الذين كانوا يسكنون في المناطق الوسطى والشمالية الغربية من المملكة العربية السعودية، وصل إلى اشتراك أفواج من الجزيرة العربية في الفيالق الرومانية، وإقامة معسكرات دائمة في بعض المواقع في المدن التاريخية الواقعة شمالي المملكة العربية السعودية حاليا، مثل مدائن صالح وتبوك. 

حصن الدعجانية في الاردن 

وبينت آثار معبد الروافة قرب تبوك، وهي بحسب النقوش مدينة روباثا القديمة الواردة في الوثائق العسكرية الرومانية، حقيقة هذا التحالف بين الثموديين والرومان، حيث بني هذا المعبد بين العامين 162- 169 للميلاد، بمناسبة انتصارات الرومان على الأرمن والبارثيين (الفرس)، والتي يرجح أن أحد الألوية الثمودية في الجيش الروماني هو الذي حقق هذه الانتصارات أو شارك فيها. وبحسب نص النقش فإن الأفكل، أي الكاهن الأكبر، سعادة بن مجيد الروباثي دشن هذا المعبد بسعي من الحاكم عمن.

وثمة نقش نبطي آخر غاية في الأهمية هذا نصه بحروف عربية: "عل سلما ذي متمكين لكل علما مرقس أورليس أنطونينس ولوقيس أورليس و رس ذي أرمنيا دنه نوسا ذي عبدت شركة ثمود وقدمي شركته لمهوا سوه من يدهم ومشمسهم لعلما وحفيت أنطسطيس أدونتس هجمونا ورمصهم".

وترجمته: "من أجل السلام الذي مكنه لكل العالم ماركوس أورليوس أنطونينوس، ولوقيوس أورليوس المنتصران على الأرمن هذا المعبد الذي شيدته ثمود المتحالفة وقادة هذا التحالف سووه بيدهم لخدمتهم الدينية إلى الأبد. بسعي من القائد أنطوسطيس الذي أصلح بينهم".

وقد استرعى اهتمام الباحثين مصطلح "شركة ثمود" والتي أتت بمعنى تحالف الثموديين، وكذلك مصطلح الرس الذي يعني الانتصار بالعربية القرآنية، واللافت أن الآية الكريمة التي تذكر {أصحاب الرس} فسرت بأنها تخص الثموديين. وهذا من الألغاز التي تحتاج إلى تفسير، فلماذا يرتبط ذكر الثموديون بمصطلح الرس، وترد هذه العبارة في نقش يعود لهم؟

حصن اللجون في الاردن

فرسان ثموديون في أوروبا

وتبين وثائق عسكرية رومانية وجود فوجين من الفرسان العرب الثموديين في عداد القوات الرومانية. وتذكر لائحة المناصب والرتب الرومانية المزودة برسوم وخرائط أن فوجا من أفواج الفرسان العرب الثموديين كان يرابط في مقاطعة أليريا شرقي البحر الادرياتيكي المقابل لإيطاليا قبل أن ينتقل للمرابطة في مصر. وثمة صورة للمعسكر الثمودي عليه شعار الصقر العربي.

وثمة فوج آخر من الفرسان الثموديين كان يرابط في بيرساما (بئر السبع) في صحراء النقب، ضمن القوات التابعة للقائد الروماني المتمركز في فلسطين. ومن الأمور اللافتة أيضا وجود قوة من الفرسان الأصليين من أبناء مدينة روباثا كانوا يرابطون في تبوك.

بدأت علاقة الرومان المباشرة بالجزيرة العربية عام 24 قبل الميلاد، حين قرر الامبراطور الروماني أغسطس قيصر توجيه حملة بقيادة واليه على مصر إيليوس جالوس، للسيطرة على الطريق التجارية التي تربط جنوب الجزيرة العربية بشمالها

معسكر روماني في مدائن صالح

بالإضافة إلى ذلك، كشفت التنقيبات الأثرية الأخيرة في موقع العلا ومدائن صالح، شمالي المملكة العربية السعودية، عن وجود معسكر روماني تابع لفرقة برقة العائد جنودها لمنطقة شمالي أفريقيا، حيث كتبوا أسماءهم على نقوش ومذابح باللغة اللاتينية قدمت لإلههم الفينيقي بعل حمون.

وفي أحد المباني العسكرية في مدائن صالح نقش يعود للعام 170 ميلادي تقريبا في عهد ماركوس أورليوس أعظم أباطرة روما، مقدّم للإله الفينيقي بعل حمون من قبل أفراد الفيلق الإمبراطوري الثالث الذي تأسس في سيرينيكا في ليبيا. وتشارك في تنقيبات هذا الموقع البروفسورة اللبنانية المرموقة ليلى نعمة.

معسكرات عسكرية رومانية في الصحراء اكتشفها علماء آثار في أكسفورد باستخدام Google Earth.

وثمة نقش آخر يعود للأعوام 175- 177 ميلادي يحمل اسم الإمبراطور الروماني ماركوس أورلیوس وحاكم المدينة العربي والقادة العسكريين الرومان، يوثق لإعادة بناء سور المدينة، هذه ترجمته للعربية: "لصحة وسلامة الإمبراطور ماركوس أورليوس أنطونيوس أوغسطس، أرميناكوس، بارثيكوس، جيرمانيكوس، سارماتيكوس ماكسيموس قام أهالي الحجر (الاسم القديم لمدائن صالح) بإعادة بناء السور الذي خُرب بفعل الزمن، فعلوا ذلك بإرادتهم وتحت إشراف إليوس فيرمانوس مندوب الإمبراطور برتبة والٍ وبومبينوس فيكتور القائد العسكري في الفيلق سيرانيكا الثالث وشريكه نوميسيوس كليمنس ونفذ هذه الأعمال عمرو بن حیان رئیس قومه".

 

ماوية البدوية والانتصار على الرومان

تراجع النفوذ الروماني في الجزيرة العربية خلال الفترة البيزنطية (بعد العام 325) بسبب شراسة الحروب مع الفرس الساسانيين، وبسبب صعود قوة القبائل البدوية العربية التي كانت تحاول التزام الحياد بين القوتين الدوليتين آنذاك، وظهر العرب البدو كقوة إقليمية كبيرة في عهد الملكة ماوية التنوخية التي كانت قواتها تسيطر على مساحات واسعة من المشرق العربي، من سواحل البحر الأحمر شالي غربي المملكة العربية السعودية وحتى حلب السورية.

وبينت السجلات التاريخية البيزنطية أن هذه الملكة البدوية التي اعتنقت المسيحية خاضت حربين ضد القوات الرومانية البيزنطية انتصرت فيها، ووقعت معاهدة مع الإمبراطور الروماني فالانس اقتضت منها إرسال جنود عرب إلى القسطنطينية لحمايتها من هجمات البرابرة الجرمان الذين كانوا يحاصرونها. وقد أبلى الجنود العرب بلاء حسنا بدفاعهم عن القسطنطينية وأستطاعوا إبعاد خطر الجرمان وتتبعوهم إلى جبال الألب.

font change

مقالات ذات صلة