من أمنيات الوحدة الأميركية إلى وقائع الصراع

خطاب "حالة الاتحاد" اشتراط دستوري على كل رئيس أميركي أن يؤديه

من أمنيات الوحدة الأميركية إلى وقائع الصراع

كان خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه مؤخرا الرئيس الأميركي، جو بايدن، أفضل خطاب سياسي له في سنواته الأربع في البيت الأبيض. فيه ظهرَ الرجل متوقدا ومتحمسا ومتحديا خصومه الجمهوريين ومستعدا لمعركة انتخابية مبكرة يُتوقع لها أن تكون شديدة الندية والتنافسية. كان الخطاب الذي خلا من الهفوات المحرجة التي عُرف بها بايدن، تعبويا وحزبيا بامتياز، يهدف إلى إحراج الطرف الآخر، الحزب الجمهوري، و"تعرية" سياساته.

وباستثناء خطابات نادرة تُلقى في أوقات الأزمات الوطنية الكبرى، مثل خطاب "حالة الاتحاد" الذي ألقاه جورج بوش في التاسع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2002، بعد أشهر قليلة من هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2011، وخطاب الرئيس فرانكلين روزفلت في السادس من يناير/كانون الثاني 1942، بعد شهر تقريبا من الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر الأميركي ودخول الولايات المتحدة الحربَ العالمية الثانية ضد دول المحور، تتمحور خطابات "حالة الاتحاد" حول النزاع والصراع وتخالف الغرض التاريخي والرسمي لها: شرح كيفية عمل الأميركيين معا كساسة لترصين الولايات المتحدة وبنائها كأمة واحدة وضمان عدم انقسامها أو تفككها.

خطاب "حالة الاتحاد" اشتراط دستوري على كل رئيس أميركي أن يؤديه، إذ نصت الفقرة الثالثة من المادة الثانية من الدستور الأميركي المُشرّع في 1789 أن على الرئيس أن "يعطي بين فترة وأخرى للكونغرس معلومات عن حالة الاتحاد، ويقدم توصيات ينظر فيها أعضاؤه بخصوص الإجراءات التي يعتقد أنها ضرورية وملحة".

في الذهن السياسي الأميركي، حمل "الاتحاد" دائما شيئا من الاستثنائية عبر منحه طابعا مثاليا

لم ينص الدستور على أن يكون الخطاب شفويا أو يلقيه الرئيس بنفسه، بل كان يكفي أن يبعث برسالة للكونغرس في هذا الصدد، من دون تحديد متى وكم مرة. كانت "حالة الاتحاد" بما تتضمنه من إطلاع الرئيس للكونغرس على نحو دوري بخصوصها مصدر القلق الأكبر لمؤسسي الولايات المتحدة في نهاية القرن الثامن عشر، أو من يُعرفون بـ"الآباء المؤسسين" إذ كان القلق عميقا حول إمكانية أن يستمر البلد الجديد موحدا، في ظل النزوع الاستقلالي الشديد للولايات الثلاث عشرة الأولى التي شكلت بذرة أميركا كدولة، لكنها احتاجت لهذه الوحدة بسبب مصالحها المشتركة، هذه الوحدة التي بقيت مهددة على مدى عقود طويلة قادمة.

لم يكن القلق من تفكك "الاتحاد" وراء الاشتراط الدستوري بتقديم الرئيس "معلومات" عن "حالة الاتحاد" فقط، وإنما أيضا كيفية إدارة السياسة فيه ومن ضنمها التعاطي مع توسعه اللاحق الحذر، بسبب الخلاف حول استمرار العبودية من عدمها. فعلى مدى عقود، انضمت الولايات "الجديدة" إلى "الاتحاد" (إنديانا 1816، مسيسسبي 1817، آلينوى 1818، ألاباما 1819، مَين 1820، ميزوري 1821... إلخ) في سياق المحافظة على التوازن الصعب الذي كان يهدد البلد بالتمزق دائما: عدم منح الولايات المؤيدة للعبودية أو المعارضة لها ما يكفي من قوة تصويتية في الكونغرس للإطاحة بالطرف الآخر.

في الحقيقة، حتى عبارة "الولايات المتحدة الأميركية"، الاسم الرسمي للبلد، لم تكن شائعة في الاستخدام العام كما كلمة "الاتحاد" في العقود الأولى من حياة أميركا. كان استخدام "الاتحاد" نتيجة طبيعية للقلق من فشل هذا الاتحاد وانهياره، هذا القلق التأسيسي في قصة أميركا كبلد الذي رافقها بشدة في السبعين عاما الأولى من حياتها إلى أن حسمته بالدم الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب (1861-1865). اختصر أبراهام لنكولن هذا القلق المخلوط بالعناد في الفقرة الأخيرة والشهيرة من خطاب حالة الاتحاد الذي بعثه كرسالة مكتوبة إلى الكونغرس عام 1862، بعد عام من اندلاع هذه الحرب والخسارات الأولى لـ"جيش الاتحاد" الذي كان يمثل ولايات الشمال: "إن إيمانات الماضي الهادئ ليست مناسبة للحاضر العاصف… مواطني بلدي، لا يمكننا أن نهرب من التاريخ... ستنير لنا المحنة المشتعلة التي نمر بها الدربَ أمامنا، إما الشرف وإما العار، حتى آخر جيل. نقول إننا مع الاتحاد. لن ينسى العالم أننا نقول هذا. نعرف كيف ننقذ الاتحاد... من خلال منح الحرية للعبد، نضمن الحرية للأحرار... سوف ننقذ بنبل أو نخسر بخسة [هذا الاتحاد الذي هو] آخر وأفضل أمل على وجه الأرض".

في الذهن السياسي الأميركي، حمل "الاتحاد" دائما شيئا من الاستثنائية عبر منحه طابعا مثاليا، مبالغا فيه، يختلف تماما عما سبقه من تجارب الدول، وبالتالي ينتظره ويراقبه البشر في العالم أجمع بوصفه المثال الصحيح الذي ينبغي أن تحتذي به الدولة الأخرى (قادت هذه الفكرة الخطيرة إلى نزوع سياسي- ثقافي يقوم على فوقية أميركية ظهرت في سلوكيات إمبريالية كانت محط نزاع واختلاف دائمين في البلد ومعناه). بعد انتصار الشمال على الجنوب في الحرب الأهلية، لإنقاذ "الاتحاد" من التفكك، ازداد تدريجيا، خصوصا في أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، استخدام "الولايات المتحدة الأميركية" كتعريف أساسي للبلد.

تكمن المفارقة الأكبر في خطاب "حالة الاتحاد"، خصوصا منذ تحوله إلى مناسبة عامة يتابعها الناس عبر الراديو أولا (بدءا بخطاب الرئيس كالفن كوولج في 1923)، ثم عبر التلفزيون (بدءا بخطاب الرئيس هاري ترومان في 1947)، تكمن في أنه أصبح مثالا للنزاع السياسي وصراع الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، على السلطة بعد أن تجاوز البلد محنة الحفاظ على وحدته.

تشكلت حول خطاب "حالة الاتحاد" تقاليد كثيرة في سياق بحث الدولة الجديدة عن هويتها

كان هذا تطورا لم يتوقعه "الآباء المؤسسون" فالحكمة السائدة في أميركا المبكرة أن الأحزاب السياسية شيء سيئ ينبغي تجنبه بأي ثمن لأنها مقترنة بالتعصب الذي أشعل الحروب الأهلية في أوروبا وسَبَّب هروب كثير من الأميركيين من أوروبا إلى "العالم الجديد" كما في عائلة جورج واشنطن التي هربت من الحرب الأهلية البريطانية في القرن السابع عشر لتستقر في أميركا. يقول ألكسندر هاملتون أحد "الآباء المؤسسين" وأول وزير للخزانة الأميركية، معبرا عن هذا التفكير العام حينها، إن الأحزاب السياسية "هي المرض الأكثر خطرا" الذي يهدد الدولة.

وبدلا من تشكيل الأحزاب وصراعاتها التي نُظر إليها على أنها شر مُطلق، كان هؤلاء المؤسسون يرحبون بخلافات الأشخاص في الرأي ويعتبرونها شيئا طبيعيا ومفهوما، بل ومفيدا أيضا، لكن ليس خلافات الجماعات التي تؤدي إلى الكراهية والحروب. من هنا كان الترتيب السياسي والمؤسساتي في البداية هو جمع المُتَنافسين على المنصب الرئاسي في الإدارة الحكومية ذاتها بحيث يكون نائبُ الرئيس منافسَه الذي خسر الانتخابات الرئاسية، قبل أن يُلغى هذا الترتيب بإدخال التعديل الثاني عشر على الدستور عام 1804، بعد أن ظهرت صعوبة تعاون هذين المتنافسين وهما على سدة الحكم.

تشكلت حول خطاب "حالة الاتحاد" تقاليد كثيرة في سياق بحث الدولة الجديدة عن هويتها التي تميزها عن الآخرين وتعبر عن محتواها كاتحاد مستقر وواثق من نفسه. في الخطاب الأول عن "حالة الاتحاد" الذي ألقاه جورج واشنطن أمام الكونغرس بداية عام 1790 في العاصمة المؤقتة حينها، نيويورك، كانت توصيات الرجل للكونغرس تدور كلها حول كيفية تشكيل مثل هذا الاتحاد الذي يمكن أن يدوم عبر ربط سكان البلد بصلات اقتصادية وثقافية وسواها من المصالح المشتركة: "إن توحيد العملة والأوزان والمقاييس للولايات المتحدة أمر ذو أهمية عظيمة، وأنا مقتنع بأنكم ستولونه ما يستحقه من اهتمام. أنا واثق من أن تطوير الزراعة والتجارة والصناعة بكل الوسائل المناسبة هو أمر بديهي لا يحتاج إلى أن أقدم لكم توصيات بشأنه... فضلا عن تسهيل التواصل بين المناطق البعيدة من بلدنا عبر إيلاء الاهتمام اللازم بدائرة البريد، وتعبيد الطرق التي تنتقل عليها عربات البريد. كما أني لا أشك أنكم تتفقون معي في الرأي من أنه ليس ثمة شيء يستحق رعايتكم أكثر من الترويج للعلم والأدب، فالمعرفة في أي بلد هي الأساس الأكثر ضمانا للسعادة العامة".

بلغة التفخيم المهذبة هذه السائدة في القرن الثامن عشر، مضت اقتراحات واشنطن الكثيرة في هذا الخطاب وخطبه الأخرى على مدى سنوات حكمه الثماني. بعضها تحقق بسرعة، لكن معظمها احتاج سنوات كثيرة كي يتحقق. كان الأبرز بينها بناء جيش اتحادي، بدلا من الاعتماد على ميليشيات الولايات.

خطاب "حالة الاتحاد" تذكير أنيق بمعنى الاختلاف والاتفاق في أميركا

أما توماس جيفرسون، الذي كانت له خلافات جدية مع واشنطن في الإدارة والأفكار، فعندما أصبح الرئيسَ الثالث لأميركا في 1801، قرر أن يُحوِّل خطاب "حالة الاتحاد" إلى رسالة يبعثها للكونغرس. لم يرق له أن يقف أمام الكونغرس ويلقيه كخطاب، معتبرا أن ما كان يقوم به واشنطن، والرئيس جون آدامز بعده، بهذا الصدد هو استرجاع استبدادي لا يليق بالجمهورية الناشئة لتقليد ملكي بريطاني حيث يقف الملك أمام البرلمان ليلقي خطاب العرش. أصبح ما قام به جيفرسون تقليدا استمر أكثر من قرن ونيف، إلى أن كَسَره في عام 1913 الرئيس وودرو ويلسون الذي عاد إلى إلقاء الخطاب أمام الكونغرس كجزء من سعيه، في عامه الأول بالبيت الأبيض، إلى صناعة رئاسة مختلفة تتصل مباشرة بالشعب وهمومه. ومع بعض الاستثناءات القليلة، أصبح ما قام به ويلسون التقليد السائد حتى اليوم.

مع الاستقرار المتزايد في البلد وانتشار الرفاهية فيه ورسوخ وطنية أميركية عابرة على المستوى الشعبي، وتحوله، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى قوة عالمية أولى، أصبح خطاب "حالة الاتحاد" مناسبة تقليدية للاحتفاء بأميركا كبلد ناجح، وإبراز استثنائيتها المفترضة إزاء الآخرين وتأكيد دورها القيادي في العالم. كانت هذه الفقرات من الخطاب تلقى عادة الكثير من التصفيق والوقوف من أعضاء الكونغرس الجالسين في مقاعد منفصلة على أساس انتمائهم الحزبي، الجمهوري والديمقرطي. لكن المقاطع التي تحظى بالكثير من الاهتمام والتحليل هي تلك التي تقوم على الخلاف في السياسات الداخلية كإصرار ترامب في خطاب حالة الاتحاد عام 2019 على بناء الجدار العازل على الحدود الجنوبية الأميركية مع المسكيك، أو دفاع بايدن في خطابه الأخير عن "حق النساء في الاختيار" في إشارة إلى الإجهاض الذي يسعى الجمهوريون لتقييده حد المنع العملي، وليس الرسمي، له عبر قوانين متشددة في الولايات التي يسيطرون عليها. لكن بعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف في خطاب "حالة الاتحاد"، يبقى هذا الخطاب مثالا سنويا على البراعة الرئاسية في الخطابة والتذكير الأنيق بمعنى الاختلاف والاتفاق في أميركا.

font change