السودان... هل تتحول "حرب الجنرالين" إلى حرب أهلية؟

"منبر جدة" يكاد يكون المنبر الوحيد الذي يحظى باحترام الطرفين المتقاتلين

أ ف ب
أ ف ب
لاجئون سودانيون فروا من الحرب ينزلون من شاحنة محملة بعائلات لحظة وصولها إلى مركز عبور للاجئين في الرنك شمال جنوبي السودان، 13 فبراير

السودان... هل تتحول "حرب الجنرالين" إلى حرب أهلية؟

الخرطوم- اندلعت شرارة القتال هذه المرة من تحت أقدام الحكام ومضاجعهم في مقر قيادة الجيش والقصر الجمهوري. للمرة الأولى بدأت حرب 15 أبريل/نيسان في السودان من العاصمة الخرطوم، ثم انتقلت إلى كل أرجاء البلاد، الجميع ظنها حربا خاطفة، ساعات أو على الأكثر أسابيع وتنتهي. كلاهما (الجيش و"قوات الدعم السريع") كانا يرددان ذلك، إلا أن الواقع كذب كل هذا وأكملت الحرب عامها الأول وقطعا ينتظرها عمر جديد لا يعلم حدوده أحد، ولكن يتفق معظم المحللين على أنه سيكون أكثر شراسة من الذي مضى بعد تبادل القتل بالطائرات المسيرة.

أ ف ب
لاجئون سودانيون وعائدون من جنوب السودان يحملون أمتعتهم أثناء وصولهم إلى مركز عبور للاجئين في الرنك شمال جنوبي السودان، 14 فبراير

الحرب التي أكملت عاما لا تزال غامضة، لذا سنعود للوراء قليلا ونطرح سؤالا جوهريا، لماذا اندلعت الحرب في 15 أبريل؟

وقطعا من منصة هذا السؤال تتناسل أسئلة أخرى لا تقل أهمية عنه. كما أن هناك ضرورة في الإجابة عنها: كيف كانت الأجواء عشية الحرب؟ وهل كانت حرب 15 أبريل مؤجلة؟ وهل ستنقشع المعركة والسودان أكثر من بلد؟ وهل يمكن أن يعود السودان كما كان قبلها؟

بداية الشرارة... اختلاف الرؤى

يصعب اجتزاء حرب 15 أبريل 2023 من الحدث الأساسي الذي سبقها وهو انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 الذي نفذته القيادة العسكرية الممثلة في قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد "قوات الدعم السريع" الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

وعقب الانقلاب بأشهر قليلة تباينت رؤية كل قائد منهما عن مستقبله السياسي ومكاسب مكونه الذي يقوده من الانقلاب الذي أزاح المدنيين عن السلطة بينما يرى البرهان أنه أفلح في إبعاد المدنيين ممثلي الثورة واستبدلهم بداعمين جدد هم الإسلاميون من النظام القديم، وهذا يضمن له الاستمرار والبقاء لإدراكه بسيطرتهم العريضة على الجيش وقدراتهم الاقتصادية والتنظيمية.

من باب تدارك الأمر عمل قائد "الدعم السريع" على الوصول إلى اتفاق مع حمدوك بعد نحو شهر من الانقلاب

بينما بات "حميدتي" ينظر إلى الإسلاميين الذين جاء بهم الانقلاب على أنهم خطر ماحق عليه وأن تخلصهم منه مسألة وقت فقط بعد أن اتهموه بخيانة نظامهم وهو الذي تأسس في الأصل لحمايته، إذ تقول مصادر متطابقة إن "حميدتي تحدث إلى البرهان أكثر من مرة بأن الانقلاب أعاد الإسلاميين، وهذا لم يكن متفقا عليه. إلا أن البرهان قلل من هذه التهمة وفي مرات عرض عليه حميدتي قوائم".

قائد الجيش عبد الفتاح البرهان (وسط) وقائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (وسط يسار) يرفعان الوثائق إلى جانب قادة مدنيين بعد توقيع اتفاق أولي يهدف إلى إنهاء الأزمة الناجمة عن الانقلاب العسكري، الخرطوم في 5 ديسمبر 2022

ومن باب تدارك الأمر عمل قائد "القوات" وأخوه غير الشقيق عبد الرحيم دقلو على الوصول إلى اتفاق مع رئيس الوزراء المنقلب عليه عبد الله حمدوك بعد أقل من شهر من الانقلاب، وفعليا حصلا على ذلك بعد أن انحنى البرهان والإسلاميون إلى هذه العاصفة إثر وضع خطة لا تخرج من مسارين، إما أن ينتج عن هذا الاتفاق حكومة انتقالية متحكم فيها من قبلهم أو تتم عرقلته وإفشاله. والخيار الأخير هو ما تحقق ووجد عبد الله حمدوك الطريق أمامه مسدودا وتقدم باستقالته. هنا خرج "حميدتي" مغاضبا واعتكف في دارفور، ومن هناك وفي حوار مع إذاعة وتلفزيون "بي بي سي" أعلن فشل الانقلاب وبدأ يصف ما جرى يوم 25 أكتوبر بأنه انقلاب، بينما ظل البرهان وأعضاء النظام البائد ومؤيدوه وقوى مدنية منشقة عن "الحرية والتغيير" يصفونه بـ"الحركة التصحيحية".
ولكن على البرهان ومؤيديه أن ينحنوا لعاصفة أخرى بعد اتساع الشقة بين الجيش و"الدعم السريع" وإن كان متكتما عليها حتى تلك اللحظة، وهي عاصفة الاتفاق السياسي الإطاري وقبول الجيش والبرهان المضي فيه رغم تحفظات أعضاء نظام البشير عليه.

ساهمت سياسة البشير في تمدد "الدعم السريع"، وفي مواقف كثيرة وقف إلى جانب "حميدتي" ضد قادة الجيش

وما ساعد "حميدتي" على المضي في مخططه العزلة التي ضربت على الانقلابيين بعد تعليق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان، وتوقف المساعدات الدولية وتجميد المانحين تعاملهم مع الحكومة والتردي الاقتصادي الكبير، وفوق كل ذلك احتجاجات الثوار ضد الانقلاب في الشارع التي لم تهدأ رغم وقوع أكثر من 100 قتيل وأعداد كبيرة من المصابين ومطالبة العسكريين وموافقة المدنيين على العودة للتفاوض بوساطة من مجموعة الأربع ( أميركا والسعودية وبريطانيا والاتحاد الأوروبي). ونتج عن ذلك الاتفاق السياسي الإطاري الجديد الذي وصفه البرهان في خطاب جماهيري بأنه "الحل والمخرج للأزمة التي يعيشها السودان" على حد قوله إلا أنه وفي نهايته وعند التوقيع على ما تم الاتفاق عليه بخصوص الإصلاح الأمني والعسكري بدأ التملص والنكوص عن الاتفاق بعد رفضه من قادة نظام البشير الذين أعادهم الانقلاب إلى المشهد. وقال القيادي الإسلامي المعتقل لدى "قوات الدعم السريع": "لن يمر الاتفاق الإطاري إلا على أجسادنا وليذهب من وقعوه لتطبيقه في أي بلد ولكن لن ينفذ في السودان". وفي لحظة التوقيع الأخيرة تغيب البرهان وأخذت وتيرة التوترات ترتفع.

عشية الحرب... وساطات فاشلة

تلكأ قادة الجيش في المضي إلى نهاية الاتفاق السياسي وفي الوقت ذاته بدأ قادة الجيوش في الحشد والاستعداد لسيناريو المواجهة العنيفة، وتسرب بحسب مصادر عسكرية من الجيش أن "الدعم السريع" أدخل أكثر من 60 ألف مقاتل للخرطوم خلال الأسابيع التي سبقت الحرب، وتسرب لـ"قوات الدعم" أن الجيش يرتب لضربة جوية على معسكراتهم تنطلق من قاعدة مروي شمالي السودان بتدريب من قوات مصرية. وفي حركة مفاجئة تحرك رتل عسكري من "قوات الدعم السريع" إلى مروي وقام بمحاصرة المطار الحربي قبل ثلاثة أيام من الحرب، وفي يوم 13 أبريل ومع ساعات الفجر الأولى صدر بيان من الجيش قال فيه: "ندق ناقوس الخطر". وأعلن خلافه مع "الدعم السريع" وأنهم في طريقهم إلى حرب ستقضي على الأخضر واليابس. عندها أهملت القوى المدنية الاتفاق السياسي الإطاري ونشطت في رحلات مكوكية بين القائدين من أجل وساطة تمنع وقوع الحرب. يقول خالد عمر يوسف: "كنا طوال ليلة 13 أبريل و14 أبريل في وساطة بين البرهان و"حميدتي" لمنع وقوع الحرب، ونجحنا في تكوين لجنة مشتركة للتهدئة وخفض التوتر من الجانبين، واتفقنا على استكمال الحوار في لقاء مشترك بين القائدين صباح 15 أبريل وتحديدا عند الساعة العاشرة، ولكن الحرب سبقتنا في صباح ذات اليوم".

هل هي حرب مؤجلة؟

"البشير كان أحد أسباب منع وقوع قتال بين الجيش والدعم السريع، ولكن للأسف كان هذا الأمر مرتبطا به شخصيا"، هذا ما قاله لـ"المجلة" أحد ضباط الجيش، مفضلا عدم ذكر اسمه، ومضى قائلا إن البشير بوصفه قائدا عاما للجيش وهو من أنشأ "الدعم السريع" لحمايته، عمل جاهدا للحفاظ على كليهما مستخدما كل صلاحياته لأجل ذلك، وخاصة بعد تراجع الثقة بينه وبين الإسلاميين المسيطرين على الجيش، وفي الوقت ذاته ساهمت سياسته في تمدد "الدعم السريع". وفي مواقف كثيرة وقف إلى جانب "حميدتي" ضد قادة الجيش وقادة النظام من المدنيين الإسلاميين. 
ويرى عدد من الخبراء العسكريين والسياسيين أن البرهان كان أقل سيطرة على المكونين العسكريين بل كان أكثر تساهلا مع "قوات الدعم السريع" وقام بتعديل قانونها الأمر الذي منحها استقلالية أكبر، كما أن الإدراة المدنية ساهمت في زيادة طموح "حميدتي" السياسي بضعف أدائها مرات وحاجتها له في مواجهة خصومها من النظام القديم المدعومين ببندقية الجيش.

يتسم عهد البشير- بإجماع المراقبين- بأنه عهد الحروب الطويلة في السودان

وبجانب التسهيلات التي منحها له البرهان منحه المنصب الجديد (نائب رئيس المجلس السيادي) ميزات اقتصادية في تصدير الذهب واستيراد سلع ضرورية من بينها الوقود وطحين الخبز بعد أن كان دوره منحصرا في حماية النظام عسكريا. وعلى أثر هذه العوامل ظل شبح الحرب بين الطرفين محلقا طوال الفترة الانتقالية والدليل مبادرة رئيس الوزراء المنقلب عليه والمستقيل بعد ذلك دكتور عبد الله حمدوك التي أطلقها قبل أشهر قليلة من الحرب الموسومة بمبادرة "الطريق إلى الأمام" والتي ورد في ديباجتها: "رغم ما حققته الثورة في عامين من سلام وفك للعزلة الدولية وسير في طريق التحول الديمقراطي، فإن وطأة الماضي الثقيلة تركت انقسامات متعددة الأوجه (مدني-مدني/مدني-عسكري/عسكري- عسكري)".

أ ف ب
رجل يتفقد الأضرار أثناء سيره بين الأنقاض إثر قصف مدفعي في حي الأزهري جنوب الخرطوم، 6 يونيو 2023

ويشير في ما يتعلق بالانقسام "العسكري-العسكري" إلى توتر بين الجيش و"الدعم السريع" والذي صرح أكثر من قيادي في "الحرية والتغيير" بأنه كثيرا ما يبلغ حد التلاسن، ويرى البعض أن "الدعم السريع" أصبح عائقا أمام الإسلاميين في استثمار ما أنفقوه في الجيش طوال الثلاثين سنة من الحكم، فلم يعد بمقدورهم تنفيذ خطوة دون حسابه في حال قرروا التخلص من البشير أو فض اعتصام الثوار أو الانقلاب على الحكومة المدنية، لذلك كان لا بد للحرب المؤجلة أن تقوم بعد أن خرج من بيت الطاعة وبات يرغم المؤسسة العسكرية على خيارات سياسية شاقة. 

النفخ في الرماد

حرب 15 أبريل لم تكن الحرب الأولى في السودان. ويتسم عهد البشير بإجماع المراقبين بأنه "عهد الحروب الطويلة في السودان"، حرب الجنوب التي ورثها من أنظمة سابقة زاد أوارها، خاصة بعد تحويلها في عهده إلى حرب جهادية، وانتهت كما هو معلوم بانفصال الجنوب، ووقعت الحرب في معظم أطراف السودان، وفي ولاية كردفان الكبرى، وفي إقليم دارفور مترامي الأطراف. 
والمفارقة أن "الدعم السريع" كان إحدى أدوات النظام في قمع الحركات المسلحة المتمردة على النظام بدعاوى الظلم والتهميش. وفعليا شهد إقليم دارفور الحرب الأطول والتي بدأت عام 2003 ويمكن أن نقول إنها استمرت حتى سقوط نظام الإسلاميين وكان على الحرب الحالية أن تنفخ فقط في رماد الحرب التي خلفها البشير وبقايا شررها ليشتعل القتال من جديد، وهذا ما حدث فعليا في إقليم دارفور. ولكن هذه المرة بتعقيدات أكبر عندما انقسمت مكوناته، إذ ترى قطاعات عريضة من المكونات العربية وبعض المكونات التي تعرضت لانتهاكات كبيرة من الجيش في الماضي بمعاونة "الدعم السريع" نفسه، ترى أن هذه هي اللحظة المناسبة لمساندة "حميدتي"، بينما تساند قبائل أخرى الجيش تخوفا مما جرى في الماضي، وبسبب مشاركة مسلحين من قبائل عربية من خارج الحدود.

لا يمكن إخفاء حقيقة الصراع الذي يدور لعام كامل، فهو صراع على السلطة والموارد

وفي الأثناء تفجر الصراع التاريخي بين بعض القبائل، وبينها العداء القديم بين قبائل الرزيقات التي ينحدر منها "حميدتي" وقبائل الزغاوة التي ينحدر منها قادة الحركات المسلحة، ومنهم حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي قائد حركة "جيش تحرير السودان"، وقائد حركة "العدل والمساواة" جبريل إبراهيم الذي يتولى وزارة المال في حكومة البرهان، وكلاهما أعلن انحيازه للقتال بجانب الجيش، وفعليا وقعت انتهاكات جسيمة في الإقليم وخاصة في ولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينة التي شهدت جرائم من قبل "قوات الدعم" ترقى إلى جرائم حرب بحسب تقارير للأمم المتحدة.

رويترز
تشاديون ينقلون ممتلكات السودانيين الذين فروا من الصراع في منطقة دارفور، أثناء عبور الحدود بين السودان وتشاد في مدينة أدري التشادية، 4 أغسطس 2023

وبعد عام من الحرب نجد إقليم دارفور الأكثر تأثرا بالصراع في الوقت الحالي، ونجد أن تداعيات هذا الصراع على مستقبله أكبر. وفي حال استمرار الحرب ربما يتحول إلى الحاضنة الجغرافية والاجتماعية  لـ"الدعم السريع" بعد سيطرته على غالبية مدنه وولاياته، والأكثر انتخابا لشبح الانفصال من بقية أقاليم السودان. ويعزز هذه الفرضية ما تمثله مكونات "قوات الدعم السريع" اجتماعيا وعرقيا والتي تعتبر أصولها من قبائل عربية في إقليم دارفور ولها امتدادات في دول أخرى مع حدود السودان الغربية في تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى. وتعيش هذه القبائل في نطاق التهميش من حكومة المركز في السودان وفي مناطق لم تسيطر عليها الحكومات بالكامل واستعانت بهم الحكومة في ضرب خصومها المتمردين من القبائل غير العربية. 
والمفارقة أنها اليوم تسعى إلى مصالحات مع الآخرين للانفراد بالسيطرة العسكرية والسياسية على الإقليم مستندة على ما توفر لها من إمكانيات اقتصادية وسياسية وعسكرية حصلت عليها مقابل التعاون مع السلطات في العهود السابقة للحرب.

صراع على السلطة والموارد

رغم المعلن من طرفي النزاع بخصوص دوافعهما للحرب وخوض المعارك، إلا أنه لا يمكن إخفاء حقيقة الصراع الذي يدور لعام كامل، فهو صراع على السلطة والموارد، والحرب من أجل الديمقراطية التي يدعيها "الدعم السريع" تكشفت عن انتهاكات جسيمة في حق المدنيين. وحرب الكرامة والسيادة بحسب الجيش دفع المواطن ثمنها تقتيلا وتشريدا بضربات الطيران. 
وانتهاكات الطرفين رغم تفاوتها في النوع والكم، فإنها انتهاكات أدانتها ووثقتها تقارير الأمم المتحدة، لذلك تكشّف بعد نهاية العام الأول أن السلطة والموارد هي الدوافع الرئيسة للقتال. ومعلوم أن الطرفين كانت لهما شركات اقتصادية واستثمارات ضخمة توسعت بعد زيادة نفوذهما السياسي وخاصة "الدعم السريع" الذي نشط في تصدير الذهب، وهو فعليا يسيطر على مناطق واسعة في  إقليمي دارفور وكردفان اللذين يتوفر فيهما هذا المعدن إلى جانب ثروات حيوانية، إذ ينتج الإقليمان 50 في المئة من إنتاج الثروة الحيوانية في السودان.

خلفت الحرب في عامها الأول أكثر من 14 ألف قتيل من المدنيين

كما شرع "الدعم السريع" في تكوين إدارات مدنية في عدد من المناطق تفرض رسوما وجبايات على الثروة، ومن بينها ولاية الجزيرة. وأشار عدد من المزارعين في الجزيرة إلى أن "الدعم السريع" صادر محاصيلهم الزراعية ولا يسمح لهم بحصاد مواسمهم إلا بعد سداد رسوم تقدر جزافا تصل إلى ملايين الجنيهات السودانية. وفي حال حصل على استقرار من المرجح أن ينشط فورا في التنقيب عن الذهب في دارفور والذي يمكن تصديره من أكثر من بلد ومطار. وتشير تقارير إلى تصديره عن طريق أوغندا أو مطارات تشاد، لذلك فإن موقع دارفور الجيوسياسي الهام وتحديدا في التنافس الروسي الفرنسي أو الأوروبي يظل أحد حوافز فكرة الانفصال والانفراد بإدارته حال خسر المعارك في العاصمة ووسط السودان إلى جانب التكتلات القبلية والجهوية التي أشرنا إليها سابقا، لذا تظل فرص الانتهاء إلى سودان منقسم جهويا إلى بلدين محكومين بنظامين في الوسط والشمال والشرق، وآخر في الغرب في دارفور وكردفان، أمرا غير مستبعد في ظل دخول النزاع عامه الثاني.

عام من فشل المجتمع الدولي

بعد عام من الحرب التي خلفت أكبر كارثة إنسانية على مستوى العالم في الوقت الحالي، من الضروري أن يسأل الناس: هل فشل المجتمع الدولي في معالجة الأزمة في السودان؟ 
الإجابة التي يفرضها الواقع: نعم. 
ويرى ناشطون في العمل المدني بينهم عضو "لجان الطوارئ" مختار عاطف، أن المجتمع الدولي عجز عن إقناع الحكومة بإعلان حالة المجاعة رسميا رغم أن أكثر من خمسة ملايين شخص يعانون شبح الموت جوعا، وأكثر من 15 مليونا في حاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، فضلا عن تجاهل طرفي الحرب لمبدأ حماية المدنيين. 
وخلفت الحرب في عامها الأول أكثر من 14 ألف قتيل من المدنيين. وطبيعة الحرب التي تدور في المناطق المأهولة بالسكان بالمدفعية الثقيلة والقذائف وسلاح الطيران والمسيرات، منعت المنظمات الأممية والمجتمع الدولي من حماية المدنيين من انتهاكات الحرب. وانتهت كل محاولات الجمع بينهما على طاولة التفاوض بالفشل، ولم يعد خيار التدخل الدولي العسكري خيارا سهلا في ظل أوضاع اقتصادية عالمية صعبة. وآثار الحرب الأوكرانية الروسية على المجتمع الدولي معلومة إلى جانب الصراع في غزة.

أ ف ب
رجال سودانيون فروا من الحرب خلال انتظار المساعدة النقدية في مركز عبور للاجئين في الرنك، 15 فبراير

غير أن كل ذلك لا يعفي المجتمع الدولي من مسؤولياته نحو حرب في طريقها للتحول إلى حرب أهلية بعد أن تحولت إلى حرب على حدود دول أخرى وفيها عناصر من بلدان مختلفة تقاتل مع هذا الطرف أو ذاك ومرشحة أن تكون حربا طويلة بعد دخول دول مثل إيران وروسيا وأوكرانيا والإمارات وتشاد على خطها. والمجتمع الدولي مطالب بالوصول إلى حلول مبتكرة أو تدخلات قوية تجبر الطرفين على الجلوس والقبول بإنهاء القتال والسماح بوصول المساعدات للمدنيين وحمايتهم.

"منبر جدة" وحسابات الأطراف

التفاوض في منبر جدة برعاية من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية ظل مطروحا على الدوام ويكاد يكون المنبر الوحيد الذي يحظى باحترام الطرفين وقطاع واسع من الشعب السوداني، وكذلك ينفرد بتمكنه من إقناع الطرفين بالجلوس في تفاوض استمر لأيام، خلص إلى اتفاق في 20 مايو/أيار 2023، غير أن هذا الاتفاق لم ينعكس على الشعب السوداني سلاما وأمنا. 
ومنذ اليوم الأول بعد التوقيع، تبادل الطرفان الاتهامات بخرق الاتفاق. الجيش يرى أن "الدعم السريع" لم يخرج من منازل الناس والأعيان المدنية، و"الدعم" يقول إن الجيش لم يلتزم باعتقال عناصر النظام البائد الفارين من السجون. والأزمة تتمثل في أن الجيش لا ينفك يذكر في كل دعوة له للتفاوض أنه لن يذهب إلا بعد تنفيذ "الدعم السريع" بنود الاتفاق، وأصبح تنفيذه يمثل عقبة أمام ذهاب الأطراف إلى تفاوض جديد، وخاصة الجيش.

سوف يتشكل مستقبل السودان وفقا لنهايات الحرب الدائرة

ويرى البعض أن عدم الالتزام باتفاق جدة والاتفاقات المقبلة سببه أن الجيش يسعى إلى تحقيق انتصارات كبيرة ترجح كفته في المعركة حتى يحصل على تفاوض من موقف قوي. وقالت مصادر عسكرية إن البرهان لن يذهب للمفاوضات المعلنة نهاية شهر أبريل الجاري، لأنه يرى أنه متقدم في المعارك ويتوقع أن يتمكن من تحرير ولاية الخرطوم والجزيرة نهاية شهر مايو المقبل. ويعود ويصدر قرارات تتعلق بالحرب ومستقبل السودان من داخل القصر الرئاسي الذي سيطر عليه "الدعم السريع" طوال العام الماضي. 
وتمثل جولة المفاوضات المقبلة المعلنة في جدة محطة جوهرية في مستقبل الصراع في حال قبول الاطراف الجلوس والتفاوض أو رفضها، الأمر الذي يعني أفقا جديدا للحرب ومعاناة جديدة للسودانيين تتطلب تدخلا عاجلا من الجميع.

الاقتصاد عامل أساسي

لا شك أن استمرار الحرب لعام كامل تسبب في إنهاك الأطراف المتحاربة بشكل كبير. ومعلوم أنها مهلكة للموارد بشدة، وكل من الجيش و"الدعم" كان يتوقع حربا سريعة وخاطفة ولن تدوم طويلا. وعلى الرغم من استناد "الدعم السريع" على ثروة كبيرة وموارد من بينها معدن الذهب فإن الحرب حال استمرت أكثر من ذلك ستفوق مدخراته الاقتصادية، وخاصة أن عجلة الاستثمارات بطبيعة الحال تدور ببطء شديد خلال الحرب.

أ ف ب
صورة التقطت في 30 أبريل 2023 تظهر فرعا مغلقا لأحد المصارف في الخرطوم

أما الجيش فحاله ليس أفضل بكثير من عدوه، إذ تعثر الاقتصاد منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 وقضت الحرب على القليل المدخر، لذلك نشطت الولايات المتحدة وبريطانيا في فرض حظر على شركات "الدعم السريع" والجيش وبعض رجال الأعمال من الإسلاميين المتهمين بتمويل الحرب، وانعكس وضع الجيش في فرض رسوم وضرائب على المواطنين، واللجوء إلى بعض الدول للمساعدة بالأسلحة والطائرات المسيرة وبعض الدول الداعمة لمشروع الإسلام السياسي. 
ورغم أن الآفاق الاقتصادية للطرفين غير مبشرة فإن خطورة ذلك تكمن في أن استمرار الحرب سيجبرها على الاستعانة ببعض الدول بشكل أكبر أو الرضوخ إلى شروط تجار السلاح في الداخل والخارج، ومن بين ذلك ما نشهده من صراع على شواطئ السودان على البحر الأحمر، الأمر الذي سينعكس على مستقبل علاقات السودان وواقعها الاقتصادي.

السودان والطريق إلى المستقبل

إلى حد كبير، سوف يتشكل مستقبل السودان وفقا لنهايات الحرب الدائرة نفسها، حال انتهت الحرب بالتفاوض. وفي ظل توازن القوى بطبيعة الحال سيكون الطريق معبدا لعودة حياة سياسية مدنية وفقا لرغبة السودانيين والفاعلين في المجتمع الدولي. وحتى لا تتكرر تجربة الحرب بعد اختلاف العسكريين عندما انفردوا بالحكم عقب الانقلاب في أكتوبر، وفي حال حقق طرف انتصارا ساحقا على الطرف الآخر، فإن هذا يعني أن يفرض شروطه على المشهد ويشكل المستقبل وفق مصالحه.

أعضاء نظام البشير يشاركون في هذه الحرب ويتحكمون في آلتها الإعلامية أملا في العودة للسلطة

ولكن المرجح أن يسعى الجيش لاستعادة مناطق تأييده في شمال ووسط السودان، ومن بينها ولاية الخرطوم والجزيرة، بينما يسيطر "الدعم السريع" على دارفور وأجزاء من كردفان غربي السودان، وهو انفصال جهوي بالكامل. وحذرت مجموعة الأزمات الدولية البحثية من أنه "حتى لو استعاد الجيش في النهاية السيطرة على العاصمة، وانسحب دقلو إلى دارفور، فقد تنشب حرب أهلية"، ومعها "احتمال زعزعة الاستقرار في البلدان المجاورة: تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وجنوب السودان المتضررة بالفعل على مستويات مختلفة من العنف". وخاصة أن الجيش المدعوم من الإسلاميين عليه أن يدفع لهم استحقاق دعمهم عبر تمكينهم من السلطة وطرد أعوانهم من دعاة وقف الحرب والعودة إلى الحكم المدني الديمقراطي.

سودان جديد

لا يمكن أن يكون السودان بعد الحرب هو ذاته الذي كان قبلها، وهي حرب منابتها قديمة تتعلق بأنظمة الحكم في السودان منذ استقلاله قبل أكثر من ستين عاما، ويتحمل نظام البشير القسط الأكبر من أسباب هذه الحرب، ويكفي أنه أدار البلاد 30 عاما بقبضة الجيش والأجهزة الأمنية الحديدية فضلا عن خلقه للميليشيات والجيوش الموازية في كل مراحل حكمه وأبرزها قوات "الدعم السريع" التي تقاتل حاليا.

رويترز
سودانيون وأشخاص من جنسيات أخرى يعبرون نهر النيل، بعد إجلاؤهم من الخرطوم إلى مدينة أبو سمبل في أعالي النيل بأسوان في مصر، في 30 أبريل 2023

والمفارقة أن أعضاء نظام عمر البشير يشاركون في هذه الحرب ويتحكمون في آلتها الإعلامية في انتظار قطف ثمارها السياسية بالعودة بهم إلى السلطة. لذلك من المهم أن تنعكس هذه الحرب في تشكيل مستقبل الحكم في إدارات سياسية تراعي التنوع وحساسية المظالم القديمة عبر حكومة انتقالية ومفوضيات متخصصة ترسم طريق الدستور الدائم وملامحه، وتضع أمامها ضرورة محاسبة مرتكبي الانتهاكات حتى لا تتكرر وتقود البلاد إلى انتخابات بعد فترة زمنية كافية لإبراء الجراح وآثار الشقاق والخلافات التي خلفتها الحرب بين السودانيين.

font change

مقالات ذات صلة