بيروت ليست للقاء: تفشي العنصرية والعزل وفقدان الذاكرة برعاية الدولة

 Lina Jaradat
Lina Jaradat

بيروت ليست للقاء: تفشي العنصرية والعزل وفقدان الذاكرة برعاية الدولة

حديقة عامة، مواصلات مشتركة، وسط المدينة، بركة أو رصيف في الشارع... نماذج من مجالات عامة من بيروت يفترض أنها آمنة ومفتوحة للجميع، إنما السائد فيها قبول انتقائي للناس، وعلى طرفه النقيض مظاهر عنصرية لم يعد لها حصر ولا ضوابط، مكيفة أشكالها تبعا لهوية الأشخاص وطبقتهم الاجتماعية.

خلال السنوات الأخيرة، يواجه اللاجئون السوريون سيولا من الكراهية التي يمارسها ويتفق عليها لبنانيون، معززين اقتناعهم بروايات مكثفة من الاعلام والسلطة، بأن السوريين هم سبب الأزمات التي تغرق البلاد. وآخر الأدوات العنصرية، أطلقها نواب من بيروت في التطبيق الإلكتروني "بلغ". يهدف التطبيق إلى التبليغ عن اللاجئين السوريين "المخالفين للقانون وغير الشرعيين"، تحت ما سُمي بمبادرة "كل مواطن خفير". ويسمح للمواطن بالتقاط صورة للاجىء وتحميلها، ثم يختار من لائحة محددة نوع المخالفة، فتُرسل المعلومات إلى "الجهات المختصة" التي تتولى المتابعة.

في ردود الفعل، جابه حقوقيون الخطوة، مذكرين بأنها تندرج ضمن مسار تصعيدي ممنهج ضد اللاجئين السوريين. وفي الوقت نفسه، أعادوا النقاش إلى مسألة أكثر دقة، مفادها أن المساحات العامة في بيروت هي نابذة بشكل مطلق، غير مستثنية المواطنين اللبنانيين. وإذ تتعدد أطياف المستضعفين، ويختلف اللاعبون، ومدى خطورة النتائج، ترتسم الدينامية السائدة في مساحات بيروت على شكل صفحة مياه تتدرج فيها الحلقات. الهش يعتدي على الأكثر هشاشة، والاثنان مستضعفان ممن يتمتع بالفوارق اللاغية: المال والسلطة.

فرز لبناني-سوري

تصرخ امرأة: "طبعا لأنها سورية، اللبنانيون لا يخلفون الأوساخ".

هنا، التعميم تحت الطلب. يجري إشهاره لتعليل سلوك عدواني ضد لاجئين سوريين.

على مدخل حديقة الصنائع في بيروت، والتي تعد أكثر الحدائق استقبالا للزوار نظرا لموقعها الحيوي ومساحتها وجمالياتها الخضراء، تستفيض السيدة في دفع نظرتها الكارهة، بعدما نهرت سيدة سورية، لأنها "تركت فنجان القهوة على المقعد"، فزعقت بها "لو لم تكونوا نتنين لما فعلتِ فعلتك. لكنه ذنب دولتنا التي استقبلتكم". يستعر الغضب. وتتراشق السيدتان الشتائم في ما تهم إحداهما- السورية- بالخروج. ويدور ذلك على مرأى الناس، لكنهم لا يعيرون أهمية لما حدث.

يجسد المكان صورة واضحة من الفرز: أولاد السوريين مع أهاليهم يلعبون في الطرف الشرقي، وأولاد اللبنانيين في الطرف الغربي

في الداخل، يجسد المكان صورة واضحة من الفرز: أولاد السوريين مع أهاليهم يلعبون في الطرف الشرقي، وأولاد اللبنانيين في الطرف الغربي.

هذا ما لفتت إليه وردة، لاجئة سورية من ريف حلب جاءت بصحبة ولديها "انقسمنا من تلقاء أنفسنا، وهذا أفضل"، مستطردة بأن المخالطة تجتلب المشاكل، فقد تعرضت قبل قليل لكلام عنصري داخل حافلة عمومية "قالت إحداهن، لو كنت أعلم أن في الحافلة سوريين لما صعدت إليه". تعلم وردة أنها الحلقة الأضعف وتفضل الصمت. تتساءل أمامنا "طالما أننا استقللنا الحافلة نفسها، هذا يعني أننا متساوون. لماذا إذن تعاملني بفوقية؟".

تعمل وردة مصففة شعر "علمت بالصدفة من زبونتي عن التطبيق الذي يلاحق اللاجئين". يطاردها الخوف "هربنا من الشرطة، والآن ظهرت لنا شرطة أخرى"، مضيفة أن العودة إلى سوريا ليست خيارا، لأن زوجها مطلوب للتجنيد الاجباري. تضحك متسائلة "كيف يعلمون أننا سوريون؟ هل يقرؤون ذلك على جبيننا؟".

وفي ما تنتقل إلى القسم الثاني من الحديقة، يخترق المسامع حديث بين رجلين مسنين "صرنا نستغرب إن قال أحدهم أنا لبناني"، ليرد الآخر "معك حق". ويحدث قبل دخولك الحديقة، أن يستغرب سائق سيارة الأجرة الوجهة، "لماذا؟ الحديقة مليئة بالسوريين!".

طبقية شاملة

تُدين اللبنانية منار شيا وضع البلاد: "جميعنا في أزمة، لاجئون وغير لاجئين. وجميعنا يبحث عن فسحات الترفيه. لم نكن نرتاد الحديقة العامة من قبل. وهي ليست أفضل ما نستطيع توفيره لأطفالنا. لا يوجد قواعد للسلامة مثلا"، مشيرة إلى ركن الألعاب، حيث يرافق زوجها ابنتهما مريم.

إلى جانب ضعف قواعد السلامة في ركن الأطفال، عناصر عديدة تنغص الرغبة بالاستراحة أو الترفيه، منها قلة عدد المقاعد، فعمد البعض إلى اقتعاد الأرض، كما يمنع اصطحاب الحيوانات، بحسب لافتة معلقة عند المدخل- وهو الوحيد، فقد يضطر الزائر إلى أن يدور حول مساحة تبلغ حوالي 22000 متر مربع ليبلغ الباب.

تضيف منار أن العائلة في فصل الشتاء تلازم البيت، لأن لا مكان مخصصا للأطفال يستطيعون زيارته. وهذا الوضع مستجد، لأنهم كانوا يقصدون مدنا للأطفال وقاعات لعب خاصة قبل الأزمة، وقبل أن تفقد منار عملها وينهار راتب زوجها الأستاذ في التعليم الرسمي.

المخططة المدينية والباحثة جنى نخال، تحيل هذه المعطيات إلى "فهم السلطة لدور المساحات العامة، والتي يفترض أن تكون محفزا لبناء العلاقات الاجتماعية والانتماء للمدينة، وللتعبير والمتعة والاسترخاء، بينما السلطة تجدها حجة للسيطرة على الناس وغربلتهم، وتقديم خدمات للقلة القليلة المترفة".

تشرح: "تضم بيروت 24 حديقة عامة، وتحتضن حوالي 0.8 مترا مربعا من المساحة الخضراء لكل شخص، في حين أن المعدل الذي تنصح به منظمة الصحة العالمية هو 9 أمتار مربعة للشخص الواحد. وعلاوة على قلة المساحات، يتركز الخلل في القرار بشأنها، وعملية التصميم، والتصميم في حد ذاته، ودور الحديقة، ومقاربة السلطة لها. فبداية، لا يتم القرار بإنشاء حديقة جديدة بشكل تشاركي، ولا يستجيب لحاجات الناس. كما أن عملية تصميم الحديقة تحدث في غرف مغلقة و"بين مختصين وخبراء ومهندسين"، دون إشراك الناس. والتصاميم بحد ذاتها غالبا ما تغفل فكرة أن المساحة عامة، وأن الجميع يحق له استخدامها بالشكل المناسب، ولا يجري تأمين مرافق للراحة ولاستمتاع الناس، مثل حمامات نظيفة، ومقاعد مريحة وكافية ومساحات لعب للأطفال، وملاعب للرياضة".

تهديد المهمشين

كانت جنى نخال واحدة ممن رفعوا الصوت ضد تطبيق "بلغ"، وكتبت شعار "كل مواطن فاشي" في ذمها لشعار الحملة، معتبرة أنها نتاج طبيعي لإرادة السلطة: "حولت السلطة في لبنان المساحة العامة إلى مكان تهديد لكل الفئات المهمشة، من اللاجئين، حتى النساء، والعمال المهاجرين، والمفقرين وغيرهم. وتتأثر هذه الفئات بأشكال عديدة، أولها فقدانها الانتماء للمكان، لبيروت ككل وللمساحة العامة بشكل خاص، وفقدان الشعور بالأمان، حتى أنها تتجنب استخدام المكان العام إن امتلكت الخيار"، تقول لـ"المجلة".

وينتج هذا النمط، بحسب الباحثة، "بترا للعلاقة مع المساحة العامة، واعتبارها مصدرا وحقا للأكثر قوة وامتيازات، كما يُنتِجُ ذلك فرضا لقدسية الملكية الخاصة، وبالتالي ربط الحق بالامتيازات: من يحق لهم باستخدام المكان العام، هم من يمتلكون امتيازات الطبقة والجنسية والنوع الاجتماعي والسلطة".

ووفق نخال، يعبر إطلاق التطبيق عن منحى عام لممارسات السلطة ضد اللاجئين السوريين، من القمع والسجن والحظر والقتل، منها جريمة قتل شابين من الجنسية السورية من قبل أعضاء فوج بلدية بيروت في منطقة الأونيسكو. ويضاف إلى هذه الممارسات تغييب الخدمات أو رفع أسعارها، في نية السلطة لخلق طبقة من المفقرين المفتقدين لأبسط الحقوق بما فيها شبكة للحماية والراحة، مقابل نمو الطبقة الأكثر غنى. وبالتالي، فمن خلال جعلها الحرمان من الحقوق هو القاعدة، تثبت السلطة واقعا اجتماعيا سياسيا جديدا، تتفتت فيه العلاقات الاجتماعية.

مظاهرات ولافتات ترتفع بين حين وآخر في بيروت وضواحيها، تطالب بطرد اللاجئين السوريين أو تحدد مواعيد تجوالهم

من ناحيتها، تقرأ الباحثة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية-الثقافية، ديانا الرياشي، المشهد لـ"المجلة" في "سعي الدولة اللبنانية باستمرار إلى تحديد الآخر لتبرير وجودها. وهذا هو الحال في الواقع الطائفي الذي يحكم لبنان، وبالتالي يشجع أعمال العنف على فئات من الناس ليست لبنانية أو إذا كان اللبنانيون يشكلون تهديدا. بهذا المنطق، نشكل جميعا تهديدا لبعضنا البعض وعلينا أن نحمي ظهورنا، فنتجمع مع الأشخاص الذين يشبهوننا فقط، ونفقد تماما الغرض من العيش في مدينة اجتذبت الناس لتكون مساحة لكسب العيش واللجوء. فحين نكون معرضين لتهديد "الآخر" الخطير، سيحكمنا الخوف، ونضطر إلى اللجوء إلى الدولة نفسها التي تتعهد بحمايتنا من هذا الكيان الخطير. والآن كبش فداء الانهيار السياسي والمالي هم اللاجئون السوريون. الدولة لا توفر الحماية لهذه المجموعات المهمشة ، بل تشجع عزلهم من خلال السماح للمدن والأحياء والقرى بفرض سياسات مستهدفة تنتهك حقوقهم"، في إشارة إلى مظاهرات ولافتات ترتفع بين حين وآخر في بيروت وضواحيها، تطالب بطرد اللاجئين السوريين أو تحدد مواعيد تجوالهم.

بيروت العاصمة

تتجه آراء إلى اعتبار أن سياسة التضييق على الفئات الهشة وضيق المجالات العامة، تهدد سمعة بيروت كمدينة نابضة بالحياة، وتضرّ بدور العاصمة التي عادة ما تكون فضاء للتنوع.

تبدأ الرياشي من ضرورة التمييز بين المدينة والعاصمة: "دور العاصمة إداري وسياسي، في حين أن دور المدينة هو توفير المساحة والفرص للناس للالتقاء والاندماج في نسيج مجتمعي موحد. هذا لا يعني أن العواصم لا يمكن أن تكون مدنا ذات أهمية تاريخية واجتماعية، مثل بغداد والقاهرة وباريس. بيد أن الأهمية التي نحملها لبيروت اليوم ترجع إلى الخطاب والخيارات الإدارية والسياسية التي جعلت منها العاصمة، وهي تراكمت في عدة محطات منذ متصرفية جبل لبنان في موازاة الحكم العثماني لغاية إعلان دولة لبنان الكبير".

 Lina Jaradat

في المقابل، تنبه إلى تآكل مستمر لسمة بيروت المدينة: "ترسم أحياء بيروت خطوطا واضحة لتحديد من ينتمي إليها من الآخر الأجنبي، ويمكن أن يكون وفقا للطائفة أو العرق أو الجنسية. على سبيل المثال، عند قدومك إلى بيروت من المدخل الشرقي، تقابلك لافتة مرحبا بكم في الأشرفية بدلا من مرحبا بكم في بيروت، وهذا موجود في أماكن أخرى ولكن ربما ليس على شكل لافتة. يشكل الفصل الجغرافي خطورة كبيرة على دور المدينة ووظيفتها، إذ أنه يساهم بإنشاء أحياء كمدن مصغرة ذات حدود غير مرئية داخل المدينة الأكبر، مما يتعارض مع غرض المدينة كونها مكانا لتفاعل خلفيات مختلفة. في لبنان، من الواضح أن الدولة لا تسمح بممارسات الفصل هذه فحسب، بل تشجعها من أجل الحفاظ على غرس الخوف في الناس وبالتالي البقاء في السلطة".

وسط بيروت

منذ نحو سنة، أفرغت بلدية بيروت بركة المياه في حديقة سمير قصير وسط بيروت، في رد فعل على قيام طفل سوري باللعب والسباحة في البركة، في ما توشك المجالات العامة في بيروت على الاندثار، وتحتل المنتجعات المتعدية على الأملاك البحرية الشواطىء الشعبية.

هذا المجال المعروف بـ"الداون تاون"، خضع لعملية "إعادة الإعمار" في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية، فتحول إلى وسط تجاري كان يحفل بالمقاهي والمطاعم والمؤسسات التجارية العالمية الفاخرة. وكان مقصدا للسياح الخليجيين خاصة، وللبنانيين الموسرين، ثم انتشرت فيه "أسواق بيروت" التي استقطبت إلى هذا الوسط أبناء الطبقة الوسطى. ومنذ التظاهرات الشعبية (2019-2020) التي تدفقت إلى وسط بيروت وشغلته احتجاجاتها، أقفل معظم المؤسسات التجارية، وأصبح مكانا يفتقر إلى الوظيفة، بعكس أوساط المدن العالمية.

يرد منظرون اجتماعيون هذا المآل، إلى كون وسط بيروت جزءا من الإدارة الحضرية النيوليبرالية التي أعادت تشكيل معظم عواصم العالم، وقد أسقطها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في مشروع شركة "سوليدير"، الذي طبقه بالتزامن مع هذا الخط السائد  في العالم، وذلك على حساب محو أهم سمات وسط المدينة، فقد طمست إعادة الاعمار معالم وسط بيروت التراثية عمرانيا ووجدانيا.

وسط بيروت محاكاة، نسخة من شيء لم يعد موجودا، تقليد رغم كونه صحيحا وحقيقيا، إلا أنه يعكس فقط روايات الدولة الملفقة بدلا من الروايات العضوية التي تأتي من الناس

ضمن هذا السياق، تجد جنى نخال أن المشهد ينطوي على "الهدف الأساسي للمشروع النيوليبرالي العالمي المتبع على مستوى المكان: محو تاريخ المدن والمناطق عامة، ونهب المساحات العامة من الناس وخصخصتها، وبالتالي نهب الأفقر والأكثر استضعافا من فتات الحقوق التي تبقت من السنين الماضية، عبر خلق تآكل في الشبكة الاجتماعية والتسبب بانهيار السياسات التي كانت يوما تحمي الناس وحقوقهم بالأرض. وعوضا أن تكون مؤتمنة على مساحات بيروت، تؤدي السلطة اللبنانية دور السمسار لدى القطاع الخاص، مسهلة نهب الملك العام، من خلال السياسات والقوانين، أو من خلال الممارسات".

وتلتقط الباحثة أمثلة رديفة في المدن الأميركية: "لقد أعطت السلطة القطاع الخاص الحق في أي وقت باستغلال ومنع استخدام المساحات العامة أو تغيير وجهة استخدامها. فمثلا 60 في المئة من مساحة 'لوور منهاتن' هي مساحات عامة، إلا أن 25 في المئة ممنوع على العامة. كما جرت خصخصة إدارة وصيانة أغلب المساحات الخضراء في المنطقة، من أهمها سنترال بارك وبرج التجارة العالمي".

من زاوية تطور المكان، تعتبر ديانا الرياشي أن "وسط بيروت الذي أخبرنا عنه آباؤنا وأجدادنا هو جديد نظرا لآلاف سنين من الغنى التاريخي والتراث المعماري الذي ينعكس في مدن أخرى من لبنان، مثل طرابلس وصيدا وجبيل. لا تتمتع بيروت بالعمق التاريخي نفسه من حيث الهندسة المعمارية المستمرة إن قارناها بعواصم عربية أخرى كدمشق، ويرجع ذلك جزئيا إلى عدد المرات التي دمرت فيها بيروت. نعم، يحتضن وسط المدينة قيمة تراثية وأثرية، ولكنها لا تدل على استمرار الحياة في هذا المكان كغيره من الأماكن المستعملة والمأهولة في المدن الأخرى. عندما ننظر إلى الصور القديمة بالأبيض والأسود لبيروت، نرى الطبيعة في الغالب: الساحل الرملي، وغابات الصنوبر، ونباتات الصبار في كل مكان، وحتى الأسواق التجارية".

تستدرك:"في المقابل، شكل وسط بيروت قبل الحرب مركزا ثقافيا واجتماعيا، كانت تقصده مختلف فئات المجتمع لشراء الذهب وحاجياتهم من الأسماك والخضر. لقد كان وسط بيروت مساحة لحل الانقسامات الجغرافية وربما الطائفية. وواصل القيام بهذا الدور حتى طوال الحرب الأهلية اللبنانية لأن خط التماس كان في المنطقة التي نعرفها اليوم بـ'الرينغ'، ولم ينتقل إلى وسط المدينة إلا في الثمانينات، ودمّر جزئيا، مما أدّى إلى ظهور مشاريع إعادة الإعمار".

وتذكر الرياشي أن خطة هدم وإعادة إعمار وسط بيروت، كانت تقابلها مقترحات للتأهيل مع الاحتفاظ بالمالكين أنفسهم في ممتلكاتهم، ولكن الدولة اللبنانية عمدت إلى محو مركز المدينة. تشخص هذا التكتيك بمصطلح "فقدان الذاكرة الذي ترعاه الدولة"، حيث ترغب الدول بعد الحروب بمحو أي دليل على العنف في الماضي بدلا من معالجته في شكل من العدالة الانتقالية، حتى يتمكن المجتمع من التعافي. واليوم، بدلا من أن يؤدي وسط بيروت دوره بأن يكون مكانا للقاء الناس واندماجهم، أصبح مساحة واضحة للترسيم والانفصال.

تستنتج الباحثة أن "فقدان الذاكرة الذي ترعاه الدولة لم يحقق العدالة في الحفاظ على تاريخ وسط بيروت. يبدو تقليدا رخيصا لأي مدينة أوروبية، ولكنه خالٍ من أي تاريخ أو سياق محدد. كأن بيروت مدينة معقمة تهدف إلى إبراز مظهر معين، والمقصود به أن يستمتع بهذا الوسط البعض ممن لديهم الموارد، وأن يؤدي وظيفة مختلفة تماما عما يتمتع به مركز المدينة التقليدي/العادي. إنه مكان ينكر تاريخه وشعبه. في اللحظة التي فُتح فيها هذا المكان أمام الناس في عام 2019، عاد الباعة المتجولون لكنهم قوبلوا بعنف رجال الأمن".

تستأنس الرياشي بمصطلح عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار، واصفة وسط بيروت بأنه محاكاة، نسخة من شيء لم يعد موجودا، تقليد رغم كونه صحيحا وحقيقيا، إلا أنه يعكس فقط روايات الدولة الملفقة بدلا من الروايات العضوية التي تأتي من الناس.

إعادة تعريف المجال

لا تغفل المخططة المدينية جنى نخال أن وسط المدينة هو عينة عن حالة متمددة ومستمرة، "تحيط وسط بيروت أمثلة أخرى، أبرزها المناطق المتضررة من تفجير المرفأ، بحيث هُجر أهاليها وانهار الكثير من المباني لأن الدولة أبقت على أغلبيتها دون ترميم، وسلمت زمام الأمور لقطاع الجمعيات وللمبادرات الفردية. إلا أن المدينة والأرض هما حقوق عامة لكل الناس. وبالتالي فإن الطريقة الوحيدة لتصحيح هذا المسار، هو بتطبيق سياسات أرض وملكية (propertyand land policies) شاملة، تسمح بالحفاظ على حقوق الناس في السكن والمدينة والعيش الكريم". 

استتباعا للواقع، تستصعب نخال إعادة صياغة تعريف للمجال العام في بيروت، دون تغيير في مقاربة الدولة، "لأننا ولو غيرنا كيفية تعاطينا معه كجماعات، فهو ما زال تحت سيطرة السلطة النيوليبرالية ومشاريعها، وبإمكانها في أي وقت أن تعيده إلى التعريف الذي هي تريده".من جهتها، تختزل الباحثة الأنثروبولوجية رؤيتها، بأن بيروتتحتوي على مساحات يجتمع ويتفاعل فيها الناس، لكن التفاعل يقتصر على الأشخاص ذوي التفكير المماثل، وذوي الخلفيات المماثلة. يخلق هؤلاء فقاعات و"غرف صدى" في مدينة تهدف إلى احتواء الجميع.

كل الكوات مغلقة؟

ثمة منظور آخر: تستقي سميرة عزو من عملها مرشدة سياحية واهتمامها بالتدوين على مواقع التواصل الاجتماعي، أن تجربة تجوال في بيروت ممكنة بشكل بالغ المتعة ومنخفض التكلفة. وترتكز على وجود نمطين، الأول متاح للجميع والثاني متاح لطبقة اجتماعية محدودة.

تقترح عبر "المجلة" عينة من يومياتها "كأن أمشي من بيتي في 'قصقص' لغاية منطقة 'البربير'، وأستمتع بحركة السوق نزولا نحو رأس النبع. أشتري الكعكة من محل الكعك الشهير والعصير من البقال قبالته، أو سندويش فلافل شهية من محل آخر. ثم أكمل مساري إلى وسط بيروت، وأزور المساحات الأثرية والمباني الدينية والتراثية، وأستفيد من شروحات باللغات الثلاث على الصفائح المعلقة".

أرصفة بيروت مخترقة بتعديات واضحة، إن لم يكن بسبب المحلات التجارية، وفرضها مواقف للسيارات، فبسبب أكوام النفايات التي تحاوط القمامات أو التي قرر سكان الأحياء رميها على الرصيف

وهناك مسار آخر: "نزهة في منطقة فرن الحايك في الأشرفية، ومنقوشة أتناولها في حديقة مار نقولا، ثم زيارة 'متحف سرسق' مجانا، أو لأي معارض فنية، وما أكثرها في بيروت. يمكنني أيضا زيارة مكتبات بلدية بيروت العامة (السبيل)، والتي تتيح عبر الكتب سفرا إلى عالم آخر قبل أن أعود لشوارع بيروت، فضلا عن نشاطاتهم الثقافية المتنوعة والمجانية. ويمكنني التنزه مشيا على الكورنيش، أو في راس بيروت و"شبروقة عن قريبه" (الشبروقة كيس من عند البقالة مليئ بالسكاكر والتشيبس على سبيل تدليل النفس).

تحرص المدونة على مشاركة جولاتها على الصفحات الافتراضية. ووسط التفاصيل المبهجة والطافحة بالبساطة والحبور، يستوقف المتابع قولها أنها تفضل المشي على الإسفلت. هنا، تستحضر الوجه الآخر من الصورة "لأن أرصفة بيروت مخترقة بتعديات واضحة، إن لم يكن بسبب المحلات التجارية، وفرضها مواقف للسيارات، فبسبب أكوام النفايات التي تحاوط القمامات أو التي قرر سكان الأحياء رميها على الرصيف".

في نهاية المطاف، تعود سميرة عزو إلى مساهمة الدولة بالضرر، "لأن سياسة الافلات من العقاب مستتبة، وأكثر من يستفيد منها المحظيون بـ "واسطة" بفعل النفوذ والعلاقات مع كيانات رسمية. وفي دولة مصابة بالوهن والعجز، ساهم تدهور رواتب الموظفين الرسميين في تراخيهم بمراقبة تطبيق القانون، وإعطاء الحق لأصحاب الحق في المجال العام".  

font change

مقالات ذات صلة