كيف غيرت الحرب السلوكيات والمعتقدات في دمشق وأخواتها

في ظلّ زيادة مساحات التعبير وانتشار التشدّد

Eduardo Ramon_Alamy
Eduardo Ramon_Alamy

كيف غيرت الحرب السلوكيات والمعتقدات في دمشق وأخواتها

لم تؤثر الحرب على أنماط الحياة الاجتماعية والإنسانية والنفسية والاقتصادية السورية فحسب، بل حفرت عميقا في مسلك المعتقدات الأيديولوجية ودقّت مسامير الشك في المفاهيم الراسخة في الوعي الجمعي لدى فئات معينة خصوصا في مناطق الحكومة، كذلك عملت على زعزعة الحالة الإيمانية وتفكيك رمزيات، لتسمح بعبور نزعات جديدة وشيوع فئات ممن يعتبرون أنفسهم لا دينيين ولا أدريين. وإذ كانت هذه النزعات موجودة في الظل قبل الحرب، ووقفا على شريحة معينة من المثقفين، فقد اتسعت وباتت تظهر إلى النور بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح التعامل مختلفا مع المعطيات بريبة أكبر، لا سيما بالنسبة إلى جيل كامل بزغت براعم وعيه مع اندلاع الحرب السورية التي أجّجت نار الخطاب الديني المتطرف لصالح التنظيمات الجهادية والجماعات المتشددة، وتحول الإنترنت إلى مصدر معلومات أساسي لنهمهم المعرفي.

ملاذ "التواصل الاجتماعي"

قبل نحو عشر سنوات، انطلقت بخجل بعض المجموعات الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، داعية إلى الاحتكام إلى العقل، وإيلاء الإنسان الأهمية الأولى والأخيرة، إلا أن هذه المجموعات ظلت محدودة النطاق، حتى زاد انتشارها في السنوات الأخيرة، متيحة التعبير عن الآراء المختلفة حول الدين، وهو ما كان في عداد المحظور في المنازل والبيئات الاجتماعية المحافظة.

سعت هذه المجموعات إلى مناقشة مسائل وجودية أزلية وأشبعت فضول الباحثين عن المعرفة، واللافت أن بعضا منها تمكن من استقطاب فئات متدينة كانت في السابق لا ترضى حتى بالجلوس مع الآخر المختلف والمخالف لها، فما بالك بالنقاش معه وتبادل الآراء والانتقادات.

هذه المجموعات ظلت محدودة النطاق، حتى زاد انتشارها في السنوات الأخيرة، متيحة التعبير عن الآراء المختلفة حول الدين

وفي حين يرى بعضهم أن هذه المجموعات والنقاشات التي أتاحتها مواقع التواصل الاجتماعي تدفع بعض الناس إلى تقليب أفكارهم المتشدّدة وطهيها مجددا على موقد الاعتدال وتخفيف حرارة تعصبهم الديني، يرى آخرون أنها تساهم في تشكيل آراء إلحادية ونابذة لكل أنماط التديّن، حدّ المغالاة.

وقد ساهم الاستخدام الحر والواسع لمصادر المعلومات عبر الإنترنت والقدرة على اختراق المواقع المحجوبة، في تشكيل وعي جديد وإعادة إطلاق الأفكار القديمة في قوالب عصرية، لا سيما لأولئك الأشخاص الذين اعتادوا استقاء معلوماتهم من مصادر أحادية الجانب، إضافة إلى حدوث انقلاب في الموازين الاجتماعية كوصول أعداد  من الشباب الذين ينحدرون من عائلات محافظة إلى أوروبا، مما ساهم في تحررهم من بعض القيود الدينية والاجتماعية التي قد تكون فرضت عليهم منذ الصغر، سبيلا للاندماج في المجتمعات الأوروبية وتوسيع خياراتهم الفردية.

إذن، سمحت حالة الحرية التي وفرتها مواقع التواصل الاجتماعي، للأفراد بالتعبير عن الرأي والرأي المضاد، ولم يعد تداول المعرفة الدينية في سوريا، كما في العالم العربي، حكرا على المؤسسات الدينية الرسمية. هذا ويغلب على بعض المجموعات "الفيسبوكية" طابع السخرية على نحو واضح، فكثيرا ما تستعين بالرسوم الكاريكاتورية كأداة من أدوات التعبير عن الرأي وتوظيفها في أهدافها التي تنصب في السخرية والنقد من طبيعة دينية أو سياسية، وتصل أحيانا إلى حد الإسراف، وذلك لتحقيق أغراض التحجيم أو التقزيم وكسر حاجز الرهبة من مناقشة ما كان محظورا.

تشظي المشهد الديني

على الرغم من أن الديانة الإسلامية هي أكبر الأديان في سوريا وأكثرها انتشارا بغالبية ساحقة تصل إلى 70% من العرب وحدهم، كان المجتمع السوري يعتبر مجتمعا معتدلا دينيا باستثناء بعض المحطات التاريخية التي أثبتت العكس، بما فيها الحرب الأخيرة، إلى جانب عدم السماح للحقل الديني بالنمو والتوسع، وإحكام القبضة الأمنية عليه. عدا ذلك، اعتاد السوريون لعقود من الزمن استقاء معلوماتهم وتوجيهاتهم الدينية من المؤسسات الدينية التقليدية بوصفها الجهة الشرعية الموحدة للجميع، وتتمثل في وزارة الأوقاف وأذرعها، غير أن تحديثات جديدة طرأت على المشهد الديني السوري خلال سنوات الحرب، مفسحة في المجال لصعود سريع للحركات الدينية في البلاد وانتشارها في رقع جغرافية متنوعة ديموغرافيا، تناوبت على نشر الفتاوى الشرعية حدّ التفنن. فوجد السوريون أنفسهم أمام أطياف واسعة من أصحاب الخطاب والتفسير الدينيين بعدما كانوا معتادين على سلطة دينية واحدة، فلم تعد البرامج الدينية خلال شهر رمضان وخطب الجمعة المخصصة غالبا للسلوكيات الأخلاقية والاجتماعية، مصدرا ملهما لهم، لتتكاثر الاجتهادات الفقهية عبر تنظيمات سلفية متشددة، وليزداد عدد منتجي المعرفة الدينية، فبات كل فريق يروج لسلعته الدينية لجذب المريدين له. ففي حين شغل "الجهاد" ضد إسرائيل المشهد الديني لسنوات طويلة، بوصف إسرائيل عدوا واضحا صريحا، انتقل هذا العمل الحركي نحو الداخل المحلي وتفرّعت الفتاوى القتالية وفق مصالح كل جهة تقودها، ليأخذها بعض السوريين ممن كان لديهم استعداد فطري لذلك بحذافيرها ودقائقها، بينما أدار البعض ظهره للدين حتى إشعار آخر، فكانت حالة الحمى الدينية والتصارع المستمر لجميع الأطراف على المنهج الأصح وادعاء الصواب، وتنامي الخطاب الديني المتشدد، سببا رئيسا دفع بالكثير إلى تحميله مسؤولية تفاقم الحرب في سوريا.

إلى جانب ما ذكر، سيق المجتمع السوري إلى منحدر من الانقسامات الطائفية وحالة من التشتت الديني فرضها النزاع المستعر الذي وضع المجتمع في استقطابات دينية وطائفية سياسية يصعب الفكاك منها، بين مؤيد ومعارض، وإسلامي متشدد وعلماني متحرر، وبين داخل وخارج.

تجارب شخصية

أنتجت الحرب السورية نمطا فكريا مغايرا لم يكن سائدا إلا في دوائر معينة، وخلقت ردود أفعال متباينة إزاء الدين، بما يشبه حالة تمردية على السلطة الدينية، وتولّد عن ذلك سعي كثيرين من الشباب إلى الحصول على إجابات مختلفة عن أسئلتهم الوجودية، لتشيع نزعات لا دينية يغلب عليها طابع التشكيك، محملة الدين مسؤولية الحرب والعنف. لكن ما هي دوافع بعض السوريين للتخلي عن راية الدين على الرغم من نشأتهم منذ نعومة أظفارهم على الأفكار الدينية وارتياد المساجد وتحولهم الجذري إلى الضفة الأخرى؟ 

قطعت ولاء، وهو الاسم الذي ترغب هذه الفتاة في استخدامه دون اسم عائلتها، الخيط الأخير الذي يربطها بالدين منذ قرابة سبع سنوات بعد معاناة طويلة، جراء تطرف والدتها وعائلة زوجها الذي ازدادت حدّته مع اندلاع الحرب السورية، وتأثرهما المتطرف بالفتاوى الشرعية والانصياع الأعمى لشيوخ الفضائيات، فلم تكن عبارة "أنت كافرة" تمرّ مرور الكرام، بل كانت تترجم بالضرب المبرح مع كل نقاش تدافع فيه عن الآخر غير المبرمج على إعدادات التدين وتنتقد فيه محاولات التأجيج الطائفي. تقول الشابة العشرينية لـ"لمجلة": "فرض زوجي عليّ النقاب ومنعني من ارتياد الجامعة ومتابعة الدراسة بحجة أنه حرام ولا يجوز الاختلاط، وذلك بموافقة أمي التي اقتنعت أنه يلتزم حذافير الدين، كان يضربني عندما احتج على رأي ديني يفتي بسبي النساء اللواتي ينتمين إلى ملل دينية مختلفة. النساء بالنسبة إليه، خلقن لطاعة أزواجهن فقط وتنفيذ أوامرهم دون نقاش".

أتجنب البوح بأنني شخص لا ديني، فمحيطي لا يتقبل الأمر، بالإضافة إلى كون والدي رجلا مسنّا ولا أريد أن أتسبّب له بالشعور بخيبة الأمل

أنس

عدوى التعصب الديني انتقلت إلى سكان الحي الذي تقطنه عبير في مدينة حماه وسط سوريا، إذ أجبر الكثير من الفتيات على ترك مقاعد الدراسة، وزوّجت القاصرات بالإكراه، مما زاد نفورها من التطرف وجعلها تصف نفسها بالـ"ربوبية"، مكتفية بالاعتقاد بخالق واحد، لكنها لم تعد تؤمن بأي دين لإيمانها الشديد بأن "الأديان صناعة بشرية صممت لبث الصراعات وتأجيج النزاعات والحروب".

تركت التيارات الدينية المتشددة ندبتها العميقة في روح أنس قبل جسده، فتجربة اعتقاله على يد تنظيم "داعش" في دير الزور وإعدام شقيقه، كانا حدثين مفصليين في حياته غيرا موقفه من الدين. يقول الشاب (28 عاما) لـ"المجلة": "اعتقلني التنظيم منذ قرابة ست سنوات لمدة 18 يوما، مارسوا عليّ الضغوط النفسية وفرضوا على المعتقلين الصلاة تحت طائلة القتل في حال الرفض، في اليوم الذي أفرجوا فيه عني أعدموا أخي بحجة وجوده في المناطق التي كانت خاضعة للحكومة السورية، كما فرضوا الجزية على المسيحيين الأرمن المقيمين في دير الزور".

يخشى الشاب إعلان موقفه الصريح من الدين، فعلى الرغم من انتقاله إلى تركيا فإن هذه القضايا لا تزال محظورة وغير مرحب بها، لكنه وجد في مجموعات النقاشات الدينية على مواقع التواصل الاجتماعي مساحة للتعبير الحر وتبادل الآراء ضمن الحدود الدنيا من قواعد الاحترام ونبذ الكراهية للطرف الآخر مهما بلغ اختلافه. يعلق قائلا: "أتجنب البوح بأنني شخص لا ديني، فمحيطي لا يتقبل الأمر، بالإضافة إلى كون والدي رجلا مسنّا ولا أريد أن أتسبب له بالإزعاج أو الشعور بخيبة الأمل، أطرح أفكاري عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تشكل متنفسا حقيقيا وأداة معرفية جيدة".

احتجاج وليس إلحادا فلسفيا

تتسبّب الأزمات الكبرى والحروب الضخمة في تغيير زاوية النظر، إذ تدفع إلى المزيد من التدقيق في الثوابت الدينية التي كانت محسومة دون نقاش لتعاد قراءتها بمزيد من التمعن والتأمل. سألت "المجلة" الباحث في الفلسفة الأستاذ يوسف سلامة (الذي توفي في المنفى في الفترة الاخيرة)، عن مدى تأثير الحرب السورية على ظهور الحركات اللا دينية، يقول: "إن الأحداث الكبرى تفرض على البشر إعادة صياغة الأسئلة الوجودية وإعادة التفكير في معتقداتهم الدينية بصورة جذرية محاولين إقامة علاقات بين معتقداتهم والأحداث الجارية التي تعصف بالوجدان، لا سيما إذا كانت أحداثا مدمرة وإجرامية، فيذهب الكثير من المؤمنين إلى التشكيك في إيمانهم ويعتقدون أن الإله تخلى عنهم، وبالتالي لمَ لا يتخلون بدورهم عنه".

يرى الباحث أن "هذه النزعات لا تعكس إلحادا فلسفيا أو معرفيا عميقا، بل هي موقف ظرفي أقرب إلى الإلحاد النفسي والسلوك الاحتجاجي على الأحداث والظروف التي مرّ بها السوريون، ولا تشكل خطرا حقيقيا لأنها محصلة لأحداث سياسية واجتماعية واقتصادية مؤقتة".

هذه النزعات لا تعكس إلحادا فلسفيا أو معرفيا عميقا، بل هي موقف ظرفي أقرب إلى الإلحاد النفسي والسلوك الاحتجاجي على الأحداث

يوسف سلامة

يجد سلامة أن "هناك علاقة وطيدة بين السياسة والإلحاد، فالنزاعات الطائفية وحالات الإفقار وعدم الاستقرار التي عصفت بسوريا جميعها ظواهر اجتماعية وسياسية في آن واحد، من شأنها أن تؤثر على المعتقدات الدينية لكن تأثيرها مؤقت ويبدأ بالزوال عندما تتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية الطارئة التي يعيشها السوريون".

ندرة الدراسات

على الرغم من أهمية الظواهر الاجتماعية كالإلحاد الذي يتصف بطابعه الإشكالي والمعقد، تندر الدراسات ومراكز الأبحاث في العالم العربي التي ترصد هذه الحركات ومؤشراتها الموضوعية وتدرس أسبابها الجوهرية وتقيس اتجاهاتها على الرغم من ازدياد مؤشرات انتشارها عربيا، يشير يوسف سلامة إلى أن السبب يعود إلى "نقص مناخات من الحرية وتقبل النقد والمراجعة بوصفها شروطا أساسية للرصد ولقيام هذا النوع من المراكز، ليظل التعامل مع تلك المظاهر نظريا فقط".

يضاف إلى ذلك، غياب تحديد أنماط الإلحاد وتمييز دلالاته الكثيرة، فالمفهوم يرتبط بمعاني الربوبية والتشكيك واللا أدرية واللا دينية، فنجد أن هناك نقصا فادحا في الدراسات النفسية التي تتناول وضع الملحدين كفئة اجتماعية لها خصوصيتها وظروفها وبنيتها التي تستوجب فهمها، في حين تقتصر النظريات الأخلاقية التي يتبناها بعض الباحثين المناهضين للظاهرة على طبع الملحدين بصفات من الخلل العقلي والصحي، في مقابل رؤى مضادة لها تنظر إليهم بأنهم جماعة تتسم بالصحة النفسية والعقلانية والذكاء المفرط والقدرات التحليلية، حيث يميل الاتجاه الجديد من نبذ التديّن إلى الارتكاز على العلم والحجج العلمية المبنية على فكرة التطور.

font change

مقالات ذات صلة