200 يوم على الحرب... "حماس" أيضا تريد "المعركة بين الحروب"

من هم الحلفاء في هذه المنطقة ومن هم الأعداء؟

رويترز
رويترز
فتاة فلسطينية تسير بالقرب من مبنى استهدف بغارة إسرائيلية في رفح جنوب قطاع غزة في 25 أبريل

200 يوم على الحرب... "حماس" أيضا تريد "المعركة بين الحروب"

مر حتى الآن 200 يوم على حرب غزة، أطول الحروب بين الفلسطينيين وإسرائيل، وبين العرب وإسرائيل، ومع ذلك لا تزال الأسئلة بشأن كيفية انتهاء الحرب وما سيتمخض عنها في الأراضي الفلسطينية والمنطقة مفتوحة وبلا أجوبة واضحة. وبذلك تحول طول الحرب إلى عامل رئيس فيها وإلى أمر تترتب على أساسه مسؤوليات الحرب وبالتحديد في ما يخص حركة "حماس" التي لم تقدر تبعات هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. أي إنها لم تقدّر أن القطاع الفلسطيني المحاصر سيتعرض لحرب لا تشبه سابقاتها لا من حيث أعداد الضحايا ولا من حيث الدمار الهائل للبيوت والبنى التحتية. والأهم أن "حماس" لم تكن تتحسب أن إسرائيل ستشن حربا طويلة ضدها، أي بأفق زمني مفتوح وبمزيد من الضحايا المدنيين والدمار.

رويترز
دبابة إسرائيلية تناور بالقرب من الحدود مع قطاع غزة، 25 أبريل

قد يبدو التذكير بأن "حماس" شنت هجوم السابع من أكتوبر دون الوقوف عند أدنى رأي من سكان غزة ومن دون التحضر بالقدر الممكن للحرب تكرارا للأزمة مفصولة عن التعامل السياسي والأخلاقي مع الحرب الإسرائيلية الهمجية على القطاع الفلسطيني. لكن الواقع أنه بعد 200 يوم على الحرب فإن تجاهل تفرّد "حماس" بقرار الهجوم ذاك أصبح نكرانا لأصل التعامل السياسي والأخلاقي مع تلك الحرب، وهذا لا يعفي أبدا من إدانة الوحشية الإسرائيلية في الحرب، ولكن حتى هذه الإدانة نفسها أصبحت بلا جدوى سياسية إن لم تقترن بمساءلة "حماس" ومحاسبتها سياسيا.

وبعد 200 يوم على الحرب يخرج الناطق باسم "حماس" أبو عبيدة ليقول: "لن نتنازل عن حقوق شعبنا الأساسية وعلى رأسها إنهاء الحرب وعودة النازحين وإعادة الإعمار ووقف العدوان وإدخال المساعدات". أي أنه بعد 7 أشهر على الحرب فإن هدف "حماس" الرئيس كما عبّر عنه أبو عبيدة هو إنهاؤها وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبلها في القطاع، من دون أي هدف سياسي بعيد المدى يتعلق بالحقوق الفلسطينية الإجمالية والتاريخية.

هل من عبثية أكبر من أن يكون الثمن السياسي للحرب، هو إنهاء الحرب نفسها ليس إلا؟!

فلماذا خاضت "حماس" هذه الحرب إذن إن لم تكن مرتبطة بهدف سياسي فلسطيني واضح بعيد المدى؟ فهل قتل 34 ألف فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء لكي يعود النازحون ويعاد إعمار غزة ويتوقف العدوان وترسل المساعدات، كما قال أبو عبيدة؟ 
هل من عبثية أكبر من أن يكون الثمن السياسي لهذا العدد الهائل من الضحايا ولهذا القدر من الدمار، أي الثمن السياسي للحرب، هو إنهاء الحرب نفسها ليس إلا؟!

حسابات "حماس" و"المحور"

أما إذا كانت "حماس" لم تجر حسابات فلسطينية بحتة قبل قرارها الهجوم على غلاف غزة، أي إذا كانت قد أجرت حسابات متصلة بـ"محور المقاومة" والصراع طويل الأمد مع إسرائيل، فهذا أدهى وأخطر ويستدعي محاسبة سياسية وأخلاقية أكبر لـ"حماس"، لأنها تكون حينذاك قد أغفلت الحسابات الخاصة لأطراف هذا المحور وعلى رأسه إيران، وتكون قد أثبتت أنها تنظر إلى نفسها نظرة مضخمة داخل هذا المحور نفسه، أي أنها تكون قد تجاهلت أنها الطرف الأضعف فيه، وبالتالي فإن بقية الأطراف لن تتردد في التخلي عنها وتركها تواجه مصيرها وحدها، والأهم أن يواجه فلسطينيو القطاع مصيرهم وحدهم عزّلا في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية. وهذا كله قبل أن يقال إن "حماس" أخطأت التقدير في قراءة رد الفعل الإسرائيلي المتوقع على هجوم السابع من أكتوبر وحجم الدعم الأميركي لتل أبيب.
والواقع أنه منذ اليوم الأول للحرب فإن أطراف هذا المحور وعلى رأسها إيران تصرفت وفق استراتيجية أنه ينبغي عليها الاستفادة بأقصى حد ممكن من حدود القوة التي "تسمح" لهم الولايات المتحدة باستخدامها، أي إنهم حرصوا على البقاء تحت سقف الأولوية الرئيسة لواشنطن في هذه الحرب، أي عدم تحولها إلى حرب إقليمية شاملة.

الكلام عن الفشل الإسرائيلي في الحرب صادر بشكل رئيس عن جهات إسرائيلية معارضة لحكومة نتنياهو

ولذلك فإنه ومنذ اليوم الأول للحرب كان يمكن تقدير أن "حماس" ستترك وحدها في المعركة، والأهم أن فلسطينيي غزة وحتى الضفة سيتركون وحدهم في الحرب، من دون أي "إسناد" حقيقي يمكن أن يدفع إسرائيل إلى تعديل خطتها في اجتياح القطاع وفرض أمر واقع جديد فيه فوق الدماء والركام. وهذا ما يحصل عمليا رغم كل الكلام عن الفشل الإسرائيلي في الحرب وهو كلام صادر بشكل رئيس عن جهات إسرائيلية معارضة لحكومة بنيامين نتنياهو، أي إنه كلام خاضع لأولويات الصراع السياسي على الساحة الإسرائيلية ولمعايير إسرائيلية للنجاح والفشل، وهي معايير "خاصة" لا يمكن الاستناد إليها للقول إن إسرائيل فشلت في حربها ضد قطاع غزة.

أ ف ب
أطفال فلسطينيون يصطفون لتعبئة المياه في رفح بجنوب قطاع غزة، 19 أبريل

وغني عن القول إن إعلام "محور المقاومة" يرتكز في دعايته السياسية لإظهار نجاحاته وإخفاقات إسرائيل على أقوال هذه الجهات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية المعارضة عينها. وهذا وحده يضعف حجة هذا المحور ما دام يقطع مواقف هؤلاء من سياقها السياسي داخل إسرائيل. 
ولذلك فإن الحقيقة هي إحدى ضحايا هذه الحرب، أي إن المقدرة الكبيرة على تشويه الحقائق وبث الدعاية السياسية يقابلها تدن كبير في القدرة على دحض هذا المنحى من خلال إظهار الوقائع كما هي حتى لو كانت هذه الوقائع لمصلحة إسرائيل داخل قطاع غزة. فدعم الفلسطينيين وتجنيبهم مزيدا من القتل والدمار ينطلق أساسا من المعرفة الدقيقة لما يجري على أرضهم ومن القراءة الدقيقة لظروف الحرب ومستقبلها بالنسبة للفلسطينيين أولا وليس بالنسبة لمعادلات القوة في المنطقة بين إيران وإسرائيل، وكأنه يجب التسليم بأن مصلحة الفلسطينيين من مصلحة "محور المقاومة"، وهو ما دحضته هذه الحرب دحضا نهائيا. إذ إنه وفي لحظة الحرب الإسرائيلية القصوى ضدّ الفلسطينيين دفع هذا المحور بـ"عقلانيته" إلى أقصاها بالتزامه سقفا محددا من استخدام القوة، وهذا لا يمكن فهمه وتفسيره إلا بوصفه تواطؤا على قضيتهم ودمائهم، فكل التهديد والوعيد بإزالة إسرائيل خلال سبع دقائق، تحول لحظة ذبح الفلسطينيين إلى امتحان لمدى "عقلانية" المحور و"صبره الاستراتيجي"، تحت حجة أن موعد "المعركة الكبرى" لم يحن بعد. فمتى يحين هذا الموعد، وكيف ومتى تتجمع أسبابه الاستراتيجية وحتى "الأبوكالبتية"؟ إلا إذا أريد للفلسطينيين ولشعوب المنطقة أن يعتبروا أن دماءهم لا قيمة لها أمام الاعتبارات الاستراتيجية الكبرى التي يحددها سواهم.

"حماس" خاضت الحرب من دون أفق سياسي وهي تسعى للخروج منها من دون أفق سياسي أيضا

وهذا منطق في "تجاوز الواقع" لا تبدو "حماس" بعيدة عنه، بل هي في صلبه. فها هو أبو عبيدة في اليوم المئتين للحرب يقول إن "المقاومة لا تزال راسخة رسوخ جبال فلسطين"، وهذا كلام لا يمكن فهمه إلا بوصفه فصلا بين "حماس" وفلسطينيي القطاع الذين سقط منهم عشرات الآلاف بينما يصارع الأحياء للبقاء في ظل القصف المتواصل والكارثة الإنسانية المتفاقمة. وهنا أيضا يتحول بقاء "حماس" هدفا نهائيا للحرب بغض النظر عن ضريبتها الدموية الهائلة. أي إن بقاءها أهم من حياة فلسطينيي القطاع ومستقبلهم، خصوصا أن "حماس" خاضت الحرب من دون أفق سياسي وهي تسعى للخروج  منها من دون أفق سياسي أيضا، وهدفها أن تعود الأمور في قطاع غزة كما كانت عليه قبل الحرب، فلا يحكم القطاع أحد سواها ويظل الانقسام الفلسطيني قائما. وهو الوضع الذي كان مناسبا لنتنياهو قبل الحرب فحاول تأبيده إلى أن انفجر في وجهه في السابع من أكتوبر، ولكن رغم ذلك فهو لا يقبل البحث في "اليوم التالي" للحرب، وبالتالي فإذا كان يرفض أن تعاود "حماس" بناء نفسها وحكم القطاع مجددا، فهو يرفض أيضا القبول بحكم فلسطيني بديل في القطاع لأنه يرفض أساسا حل الصراع ويريد إدارته وحسب وبالطريقة الكارثية نفسها. وهذا وضع مناسب لـ"حماس" التي تسعى الآن لإعادة بناء نفسها ولو "مدنيا" بالحدود المتاحة، لكي تقول إنها هي من يقرر "اليوم التالي" لغزة كما قال القيادي في الحركة خليل الحية الأربعاء.

تكتيك أم تحول؟

 حتى أن كلام الحية عن استعداد الحركة لهدنة طويلة مع إسرائيل والانضواء في "منظمة التحرير" وصولا إلى إلقائها السلاح في حال أقيمت دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، لا يحسم التوجه الرئيس لـ"حماس" في التعامل مع الحرب و"اليوم التالي". إذ من المبكر الجزم في ما إذا كانت تصريحات الحية جزء من تكتيكات تفاوضية أو هي تؤشر إلى أن "حماس" في صدد إجراء تحول استراتيجي. ولعل ما ظهر من تناقض بين خطاب كل من الحية وأبو عبيدة يدل إلى أن الأمور غير محسومة بعد داخل الحركة التي يتشد عليها الضغط من الداخل والخارج.
بالتالي فإن اسنداد الأفق أمام تغيير حقيقي في مقاربات كل من "حماس" وإسرائيل للصراع يعني بقاء الوضع الذي كان قائما قبل الحرب بعدها وإن بصيغة معدلة قد تتحول في أي لحظة إلى مأساة جديدة كما حصل منذ السابع من أكتوبر الماضي. وفي السياق عينه فإن حديث الحية عن هدنة لخمس سنوات أو أكثر يصب في الاتجاه ذاته، خصوصا أن ترتيب أفكاره يؤكد أن هذه الهدنة تأتي على رأس أولويات الحركة. 
ولذلك فإن الخلاصة بعد 200 يوم على الحرب أن الجميع يفضل "المعركة بين الحروب"، ليس إسرائيل وحسب بل أيضا إيران و"حماس" و"حزب الله"، لأنها تتيح لأطراف "محور المقاومة" تحقيق أجندات خاصة لا علاقة لها بحياة الفلسطينيين ومستقبلهم. فإذا كانت "حماس" تطمح لاتفاق مع إسرائيل يناسب شروط بقائها كما في المرات السابقة، فإن الآخرين يريدون أيضا إبرام صفقات مباشرة مع الأميركيين وغير مباشرة مع الإسرائيليين تسعفهم في بسط نفوذهم كل ضمن نطاقه وفي إطار النفوذ الإيراني الكلي في المنطقة، وكل ذلك على حساب الفلسطينيين وشعوب المنطقة المغلوبين على أمرهم، في ظل تداخل أجندات الأعداء قبل أجندات الحلفاء، فمن هم الحلفاء في هذه المنطقة ومن هم الأعداء؟

font change

مقالات ذات صلة