كما أدى نهب "قوات الدعم السريع" لمستودعات ومخازن صندوق الغذاء العالمي في ولاية الجزيرة والتي كانت تحتوي مخزونا يكفي لإطعام ما يقرب من 1.5 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد، بالإضافة إلى أغذية متخصصة تهدف إلى الوقاية ودعم علاج سوء التغذية لأكثر من 20 ألف طفل وامرأة حامل وأم مرضعة إلى إيقاف أعمال الإغاثة التي كان يقوم بها الصندوق في المنطقة. ذلك غير أن الهجوم على ولاية الجزيرة أدى إلى إيقاف وتعطيل حصاد وزراعة نحو مليونين و200 ألف فدان بالمحاصيل الغذائية وهو ما ساهم بشكل مباشر في كارثة المجاعة التي يعيش فيها السودان حاليا، كما برز نمط إفساد المحاصيل الزراعية ونهج قوات الميليشيا في محاولة تدمير الأراضي الزراعية بشكل منهجي بعد اجتياحها لولاية الجزيرة.
سردية "الهامش والمركز"
يتزايد تخوف جميع المراقبين للحرب في السودان، من أن يؤدي اجتياح "قوات الدعم السريع" لكارثة مماثلة. خصوصا مع تصاعد نبرة خطاب سياسي يحاول تبرير حرب "الدعم السريع" عبر سردية ارتباط حرب "قوات الدعم السريع" بقضية الهامش والمركز في السودان والذي يحاول منح الميليشيا نبل تمثيل الهامش السوداني وثوراته- السلمية منها والمسلحة، على حد تعبير أحد قيادات تحالف "تقدم".
هذه السردية المتهافتة تحاول إيجاد مبرر أخلاقي لحرب الميليشيا في سياق الارتباطات الداخلية والخارجية التي تجمعهم بها. وتهافتها لا يحتاج إلى كثير من الحبر لتعريته، فجرائم وانتهاكات "الدعم السريع" المستمرة ضد مجتمعات المساليت والزغاوة وغيرهما من مجتمعات الهامش السوداني والتي شملت التهجير المنظم والقتل الجماعي والاغتصاب والاستعباد الجنسي والاضطهاد وحصار التجويع وغير ذلك كفيلة بتعريتها. ناهيك عن أن الثورة التي شارك فيها سودانيون من مختلف الأطياف السياسية هي تراكم فعل جماعي يهدف لتحقيق مصالح جمعية لأهل السودان، وليس لنهب وتشريد واغتصاب وتهجير فئات اجتماعية بعينها في السودان. فالثورة فعل بناء إيجابي وليست ممارسة للانتقام، وبالتأكيد ليست لممارسة الإجرام الذي شهدناه عيانا بيانا من ميليشيا "قوات الدعم السريع".
محاولة تصوير "الدعم السريع" كأداة عمل ثوري، أو تصوير جرائمها وأفعالها في خضم هذه الحرب كخطوات في طريق الإصلاح الهيكلي لمؤسسات الدولة، واستلاف الخطاب اليساري عن نقد منتجات دولة ما بعد الاستعمار، هو سعي حثيث لإطالة أمدها وبالتالي إطالة أمد المعاناة المترتبة عليها والناتجة بشكل أساسي من الانتهاكات التي ترتكبها الميليشيا. وكما أن الترويج لهذه السردية يمهد لإيقاف الحرب عبر معادلة تقاسم جديد للسلطة بين الأطراف التي تحمل السلاح، واعتبار أفعالهم- أو بالأصح انتهاكاتهم وجرائمهم من قبيل المقبول القابل للتبرير السياسي.
التعريف الصحيح لهذه الحرب أنها تدور بين طرفين سيئين، يتصارعان على السلطة التي شاركا في الانقلاب على المدنيين من أجل الانفراد بها، وكلاهما من منتجات دولة الاستعمار التي أنتجت أيضا النظام الصحي في السودان وجامعة الخرطوم ومدرسة خور طقت الثانوية، وهذه مؤسسات دولة تحتاج إلى إصلاح، وإصلاح فسادها وانحرافها عن أداء الأدوار الموكلة لها لا يتم باستبدالها بقطاع خاص.
كما أن الجيش- وهو أيضا مؤسسة دولة تحتاج إلى إصلاح للقيام بمهامها ودورها المطلوب منها- لا يمكن أن يتم استبداله بميليشيا قطاع خاص، مملوكة لفرد واحد وأفراد أسرته، وذات امتدادات اقتصادية خارجية وسياسية، ناهيك عن طبيعتها الفاشية المتأصلة فيها منذ تأسيسها كأداة قمع في خدمة نظام البشير الذي ثار عليه السودانيون لإسقاطه ومحو آثاره.
لقد اندلعت الحرب في 15 أبريل 2023، عندما حاولت هذه الميليشيا الاستيلاء على جهاز الدولة بأكمله للزود عن استمرار بقائها المؤسسي المستقل بكل ما يوفره لها هذا الاستقلال المؤسسي من امتيازات لا تخدم الشعب السوداني في شيء، بل يتم تسخيره لخدمة محاور ومصالح إقليمية، لم تتوان في دعم استمرار هذه الحرب.
هذه الحرب لا تدور بين طرف نبيل يمثل الهامش وطرف شرير يمثل المركز. هذه الحرب تدور بين طرفين سيئين، ميليشيا ذات طبيعة فاشية تعتمد على العنف والقهر والإجرام المنهجي والتغنيم والتجنيد العابر للحدود لخدمة مصالحها ومصالح رعاتها الإقليميين، ومؤسسة جهاز دولة فاسدة، تحتاج إلى إصلاح عميق وهيكلي.
لاجئون سودانيون ينتظرون دورهم لجلب المياه من الآبار التي وفرتها منظمة أطباء بلا حدود في مخيم فرشانا للاجئين بالقرب من الحدود مع تشاد
محاولة تبرير ممارسات هذا الطرف أو ذاك بسبب تعقيدات التاريخ السياسي في السودان هو مشاركة في إطالة أمد الحرب عبر "دغمسة" أو طمس التشخيص الواضح لطبيعة الأزمة في السودان. وهذا التشخيص المضلل لا يختلف عما تفعله منصات إعلامية محسوبة على ميليشيا "الدعم السريع"، والتي تسعى لتزييف سردية إعلامية وتصوير مالك الميليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) على أنه جون قرنق جديد، في تصوير فاسد يضر بالسودان والسودانيين وبقاء الدولة السودانية. وهذا خط سياسي تجب محاربته من أجل إنهاء هذه الحرب والحفاظ على وجود البلاد والاستقلال.
الاستسلام لمثل هذه السردية والتحليل، يطمح لفرض واقع جديد لقسمة سلطة بين أولئك الذين يحملون السلاح وحلفائهم وهذا هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لمستقبل السودان. وإصلاح المؤسسة العسكرية- وكافة أجهزة الدولة- لا يحدث عبر دمج العناصر الفاسدة مع بعضها البعض في مزيج فاسد كبير.
وكما أن اختزال عملية الإصلاح الأمني العسكري في مجرد دمج القوات وتوحيد قيادتها، ليس صحيحا ولن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقلابات العسكرية ومزيد من عسكرة الحياة.