هل سيغير اليمين المتطرف وجه القارة القديمة؟

الانتخابات الأوروبية في يونيو ٢٠٢٤

أ ف ب
أ ف ب
ناشطون يلوحون باعلام الحزب الاشتراكي الفرنسي وحزب "الساحة العامة" قبيل انتخابات البرلمان الاوروبي قرب مدينة نانت في 13 ابريل

هل سيغير اليمين المتطرف وجه القارة القديمة؟

يتوجه الناخبون في دول الاتحاد الأوروبي إلى صناديق الاقتراع بين يومي 6 و9 يونيو/ حزيران المقبل، لاختيار ممثليهم في البرلمان الأوروبي. وسيكون هذا الاستحقاق مناسبة لرصد التحولات في المشهد السياسي داخل البلدان السبعة والعشرين، خاصة انه الأول بعد الحرب الاوكرانية، وعلى ضوء تدهور القدرة الشرائية وازمة قطاع الزراعة والجدال حول الهجرة والسيادة وما عداها من موضوعات تنقسم حولها القوى المتنافسة.

وأبرز ما سيوضع تحت المجهر، هو نسبة اصوات اليمين المتشدد وموقعه في برلمان ستراسبورغ ومدى تأثير ذلك على سياسات أوروبا الداخلية والخارجية. والأرجح ان توقع صعود اليمين المتطرف وانهيار حزبي الخضر والليبيراليين لن يغير بشكل جذري تكوين البرلمان الأوروبي بعد انتخابات يونيو/حزيران ولن يؤثر ذلك على سياسات الاتحاد، بل سيتم على المدى المتوسط تلمس اثار هذا الانزياح الحاد نحو اليمين في وجهيه التقليدي والأقصى.

اعادة رسم المشهد الأوروبي ؟

عشية الانتخابات الأوروبية، لا تزال القارة القديمة تعاني من آثار عودة الحرب إلى شرقها ومن انعكاسات جائحة "كوفيد -١٩" بالرغم من خطة الانعاش الاقتصادي التي تم العمل بها والتي بلغت قيمتها ٧٥٠ مليار يورو. وتفاقم الوضع الاقتصادي مع انهاء الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي؛ والدعم المالي والإنساني والعسكري لأوكرانيا.

بالإضافة إلى ذلك، تزايدت التحديات: بلورة استراتيجيات جديدة لتنظيم التجارة والسوق الرقمية والذكاء الاصطناعي، أزمة القدرة التنافسية، وضعف التحول في الطاقة (التقنيات الجديدة والانتقال إلى الاقتصاد الاخضر)، الأخطار الجيوسياسية والتكنولوجية، وسياسة الهجرة المثيرة للانقسام والمتنازع عليها.

وفي الخلفية، كانت أوروبا منقسمة حول مقاربة السيادة بين مؤيدي الانطواء الوطني ومؤيدي تعزيز الوحدة السياسية للاتحاد الأوروبي، حيث لم يعد النقاش يدور حول الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه، بل حول أوروبا وبنائها ومستقبل موقعها في العالم.

من دون شك، ستؤثر نتائج الانتخابات على جدول أعمال البرلمان للسنوات الخمس المقبلة (مدة ولاية البرلمان الذي انطلق عام ١٩٧٩). لكن الاهم سيتمثل في الاحاطة بالانعكاسات على اعادة رسم المشهد السياسي الأوروبي.

أظهر آخر استطلاع للرأي أُجري في 18 دولة من دول التكتل، أن الغالبية البرلمانية الأكثر حظاً في البقاء (398 مقعداً من أصل 720)، هي أكبر ائتلاف مؤيد للاتحاد الأوروبي، وينتمي إلى يمين الوسط، وحزب الاشتراكيين الديمقراطيين وحزب الشعب الأوروبي، والديمقراطيين الليبيراليين في حركة تجديد أوروبا، وهم المعسكر ذاته الذي حاز الغالبية في الهيئة التشريعية المنتهية ولايتها، حيث يتمتع "حزب الشعب الأوروبي" ( يمين الوسط) بالغالبية النسبية (177 مقعداً)، يليه الاشتراكيون والديمقراطيون الليبيراليون.

لا تزال القارة القديمة تعاني من آثار عودة الحرب إلى شرقها ومن انعكاسات جائحة "كوفيد -١٩" بالرغم من خطة الانعاش الاقتصادي

 ويشار إلى انه حسب  الاستطلاعات يمكن ان يتصدر النتائج اليمين المتطرف والمحافظون المتشددون في فرنسا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا، وهي من الدول الأساس في  الاتحاد الأوروبي.

أ ف ب
رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور اوربان في مؤتمر صحافي في بودابست في 21 ديسمبر 2022

ومن المتوقع ان ينخفض عدد ليبيراليي التجديد والخضر، خاصة في معاقلهم في فرنسا وألمانيا، ومن المتوقع أيضا أن يصاب حزب الرئيس ايمانويل ماكرون، بانتكاسة في يونيو/حزيران المقبل ويصبح الحزب الثاني او الثالث في فرنسا بعد حزب "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبان (يرأس لائحته الانتخابية جوردان براديلا). وهذا هو الحال أيضاً بالنسبة الى حزب الخضر في ألمانيا، الذي يتنافس على المركز الثالث متعادلاً مع "حزب البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، حيث سيصبح حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" هو الحزب الأول، يليه "الحزب الديمقراطي الاشتراكي" الألماني في المركز الثاني.

انعكاس صعود اليمين المتطرف 

هكذا، وفقاً لآخر التوقعات، من الممكن أن يصبح اليمين المتطرف الطرف الثالث في البرلمان الأوروبي (بعد وسط اليمين، ووسط اليسار) على حساب الليبيراليين واليسار والمدافعين عن البيئة.
بعيداً من أرقام الاستطلاعات ونسبها، قد ترى النور تحالفات قابلة للبقاء، مثل تحالف اليمين الواسع. لكن هذا يتوقف على نتائج المفاوضات المعقدة التي من المرتقب أن تجري بين التيار الشعبوي المحافظ ويمين الوسط الأوروبي والتي يمكن أن تسفر عن قبول تنظيم "فيديش" وهو حزب رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان داخل يمين الوسط والإصلاحيين الأوروبيين الذين يحتضنون حليف أوربان وهو حزب "فراتيلي دي إيتاليا" (أخوة ايطاليا) الذي ترأسه جورجيا ميلوني رئيسة الحكومة الإيطالية و"حزب العدالة والقانون" البولندي.
انطلاقاً من المعطيات أعلاه، لا ينبغي أن يتغير ميزان القوى بشكل كبير خلال الولاية المقبلة. وسيكون لدى الأحزاب المؤيدة للاتحاد الأوروبي: حزب الشعب الأوروبي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب تجديد أوروبا، المتسع من الوقت لإيجاد أرضية مشتركة لتبني النصوص الأوروبية في المستقبل. لكن تقدم أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب القومية يمكن أن يؤدي إلى مضاعفة تأثير الفئة المعرقلة من اليمين في شأن نصوص معينة، خاصة في شأن قضايا المناخ والبيئة.
سيترتب على هذا الانعطاف اليميني تعزيز قوة الجماعات السياسية الأكثر راديكالية والأكثر عدائية للمشروع الأوروبي، في وقت تبدو فيه الحاجة ماسة إلى بلورة "أوروبا القوة" والقطب الجيوسياسي في ظل موازين القوى العالمية الجديدة وارتسام القطبية الثنائية الاميركية – الصينية. 

 مستقبل التجربة الأوروبية 

تجرى الانتخابات الأوروبية وفق النظام النسبي، وتشكل محطة لفهم تطور الرأي العام والتفاعل بين المسائل الوطنية والبعد الأوروبي. وفي آخر انتخابات أوروبية، تراجع الامتناع وتزايد معدل الاقبال عليها نظراً الى صلة قرارات المفوضية الأوروبية بحياة الناس اليومية واقتصادهم، ولأن الاهتمام تضاعف بعد استفتاء الخروج البريطاني من الاتحاد في 2016. 
وفي السنوات الأخيرة، تم كسر اثنين من المحرمات الأوروبية منذ "البريكست" (الخروج البريطاني) هما: امكان مغادرة  احد الاعضاء الاتحاد، وسقوط فكرة السلام الدائم والاستقرار التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية وترادفت مع البناء الأوروبي المشترك. اذ تبين بعد حرب أوكرانيا في 2022 ان فكرة استدامة السلام قد تزعزعت مع ادراك الاوروبيين أن الحرب قد تندلع في القارة. ونظراً الى جسامة التحديات وعدم الرد عليها، لم يتردد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في القول إنه "من الممكن أن تموت أوروبا" وذلك في خطابه الذي ألقاه في جامعة السوربون في الخامس والعشرين من إبريل/نيسان، والذي خصصه لرؤيته الأوروبية وأطروحاته حول القطب العسكري الأوروبي وربطه الردع النووي بالبرامج المضادة للصواريخ حتى لا يستمر انكشاف أوروبا الاستراتيجي واعتمادها على المظلة الاميركية. 

في السنوات الأخيرة، تم كسر اثنين من المحرمات الأوروبية منذ "البريكست" (الخروج البريطاني) هما: امكان مغادرة احد الاعضاء الاتحاد، وسقوط فكرة السلام الدائم والاستقرار التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية

وقد تمحورت النقاشات في الحملات الانتخابية للبلدان الـ 27 على مسائل متنوعة وبعضها حساس ومثير للانقسام. لكن كل ذلك يدلل على ان عامل الوقت يعمل لصالح تعزيز التجربة الأوروبية، اذ ان الفكرة الأوروبية ترسخت تدريجياً، واصبح الاتحاد الأوروبي حقيقة واقعة ومعيشة وهو يتدخل في العديد من المجالات (البيئة، السياسة الزراعية المشتركة، تعزيز الصناعة، الدفاع المشترك، الطاقة، العمل…) وقراراته تؤثر على حياة الناس. وغالباً ما يسمو القانون الأوروبي على القوانين الوطنية.

 أي بي أيه
زعيمة حزب "التجمع الوطني" مارين لوبان ثاناء مؤتمر صحافي في 24 نوفمبر

في مقاربة لأولويات الاهتمام عند الناخبين الأوروبيين، تطغى مسائل لها صلة بالملموس في الحياة اليومية مثل الهجرة والامن، الإصلاحات الاجتماعية والتغيير المناخي، قبل التركيز على امتلاك أوروبا كل مقومات "القوة" وتحولها إلى قطب جيوسياسي مؤثر على المسرح الدولي. 

لا يبدو ان هذا الاستحقاق الانتخابي المقبل سيساهم في حسم الجدال حول مستقبل التجربة الأوروبية التي يمتدح البعض مكتسباتها في السوق المشتركة والوحدة الاقتصادية، بينما يريدها البعض مجرد "اتحاد أمم ودول" والبعض الآخر يطمح لتكون "الولايات الأوروبية المتحدة" وليس منظمة امم متحدة مصغرة لا تقرر كلياً مصيرها. ووراء كل ذلك تكمن الاولويات الوطنية والتناقضات الايديولوجية التي تقف حائلاً أمام بلورة أوروبا القادرة.

font change

مقالات ذات صلة