العراق... الصدر يطلق "الدخان الأبيض" لقرار العودة السياسية

"التيار الوطني الشيعي" بدلا من "التيار الصدري"

أ ف ب
أ ف ب
أنصار مقتدى الصدر يسيرون حاملين صوره خلال احتجاج للدعوة لمقاطعة الانتخابات المحلية لعام 2023 في مدينة النجف، 14 ديسمبر 2023

العراق... الصدر يطلق "الدخان الأبيض" لقرار العودة السياسية

يتفرد "التيار الصدري" بخصائص قد تختلف عن نماذج الإسلام السياسي الفاعلة والمؤثرة في المنطقة، والتي تكون غالبا فاعلة اجتماعيا لكنها غير مؤثرة في القرار السياسي. فهو تيار جماهيري ذو امتداد أفقي في مجتمع المناطق الشيعية، وفي الوقت ذاته يتغلغل عموديا في جميع مؤسسات الدولة. ولذلك كان يسعى دائما للبقاء ضمن دائرتَي السلطة والنفوذ الاجتماعي، ولا يريد أن يضحي بأحدهما، وقد تكون هذه أهم النقاط التي أسهمت في بقائه قويا داخل الوسط الاجتماعي والسياسي وفي بلد تحكمه المعادلة القائلة: النفوذ الاجتماعي لا يتم إلا من خلال بوابة النفوذ السياسي.

زعامة مقتدى الصدر لـ"التيار الصدري"، أيضا، من أهم مميزات هذه الحركة الدينية- السياسية. إذ يرتكز التيار على الرمزية الدينية في تنظيم علاقته مع جمهوره، ويعتمد على مبدأ السمع والطاعة لزعيمه. ولذلك هو لا يريد مخادعة الرأي العام بعناوين حزبية ومؤتمرات تجدد الثقة لزعامته، فالقرار الأول والأخير للسيد مقتدى الصدر، والقضايا التنظيمية مرتبطة بهيئات يختار الصدر من يجد فيه الثقة لإدارتها.

الخاصية الأخرى التي تفرد بها "التيار الصدري"، هي تحولات خطابه السياسي نحو القضايا الوطنية. فقد بدأ تيارا يحمل لواء مقاومة الوجود العسكري الأميركي في العراق، ويحاول أن يفرض نفوذه على جغرافيا جمهوره. ليتحول فيما بعد إلى تيار يحمل شعارات ترفض النفوذ الأجنبي حتى وإن كان يتشارك معه الانتماء المذهبي، وأخيرا محاولته الانقلاب على بنية نظام الحكم التوافقي والتوجه نحو حكم الغالبية الوطنية.

"التيار الصدري"، منذ بداية تشكيله حتى انسحابه من البرلمان بعد انتخابات 2021 من أبرز ما يميزه أنه كان دائما يقف وحده في مواجهة القوى السياسية الشيعية الأخرى، ولذلك كان دائما يعتمد مناورة التمرد على إجماع الضد النوعي السياسي الشيعي. ولعل السبب في ذلك يعود إلى البيئة السياسية التي نشأ فيها هذا التيار بعد 2003. إذ نشأ ونما في معزل عن الحركة السياسية للشيعة العراقيين خارج العراق، تيار مستقل عن "حزب الدعوة"، وعن "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق". وربما ثنائية سياسيي الداخل والخارج تتفاعل بقوة في كثير من المواقف السياسية لـ"التيار الصدري" إزاء منافسيه السياسيين الشيعة.

عنوان جديد

يعد الإعلان عن تغيير عنوان "التيار الصدري" إلى "التيار الوطني الشيعي"، بمثابة انطلاق "الدخان الأبيض" من حي الحنانة (المنطقة التي يسكن فيها السيد مقتدى الصدر في محافظة النجف الأشرف) الذي يعلن عودة التيار إلى العمل السياسي.

اللحظة المفصلية في التاريخ السياسي لـ"التيار الصدري"، تجسدت في قرار انسحاب نوابه من البرلمان في الشهر السادس من 2022. إذ كان قرار الانسحاب تحديا لخسارة النفوذ السياسي الذي عمل الصدريون على ترسيخه في القرار السياسي ومؤسسات الدولة من مشاركتهم السياسية بعد 2003. بيد أنه يمثل مكسبا لتغيير الصورة النمطية عن المواقف السابقة لزعيم "التيار الصدري"، بالانسحاب والتراجع وعدم الثبات على موقف سياسي.

أما هذه المرة فالثبات على رفض المشاركة في حكومة توافقية يعد موقفا يحسب للصدر. ومن جانب آخر، استثمر الصدر انسحابه من تشكيل الحكومة بعد انتخابات 2021 بتثبيت موقفه في الرد على المشككين في خطابه نحو الإصلاح السياسي ومعارضته لمبدأ التوافقية السياسية التي يحملها مسؤولية الخراب والفساد والفوضى.

الصدر رقم صعب في مناطق نفوذه، ولا يمكن التكهن بخطواته اللاحقة

بانسحاب "التيار الصدري" من البرلمان، أنهى ثنائية خطيرة كانت تعبر عن ملامح تناقضات العمل السياسي في المواقف السياسية للصدريين، ألا وهي مشاركتهم بقوة في العمل السياسي وفاعليتهم وتأثيرهم في تطورات الأحداث السياسية، ولكنهم يقدمون أنفسهم كمعارضين لمنظومة الحكم، في حين كانوا هم من أهم أقطاب المنظومة السياسية التي تحسم الجدل بشأن تشكيل الحكومات السابقة. 
كانت غالبية التوقعات، تشير إلى أن بقاء الصدريين خارج الحكومة، سيكون أهم مأزق تواجهه منظومة السلطوية الشيعية، لأن الصدر رقم صعب في مناطق نفوذهم، ولا يمكن التكهن بخطواته اللاحقة. فرغم نشوة الانتصار التي ظهرت جليا في خطاب بعض قيادات "الإطار التنسيقي" بتعطيلهم حكومة الغالبية التي أراد تشكيلها مقتدى الصدر وشركاؤه، فإن الجميع كان يدرك أن غياب تمثيل الصدر عن الحكومة والبرلمان سيبقى تهديدا بانقلاب على المسرح الشيعي العراقي برمته، إذ إنه سيهدد المكاسب المؤقتة التي يمكن أن تحصل عليها قوى "الإطار التنسيقي" في الحكومة التي يشكلونها، أو ربما يستخدم ورقة تحشيد الشارع كتهديد ضدهم.

أ ب
أنصار مقتدى الصدر يحتفلون بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في ساحة التحرير ببغداد، 11 أكتوبر 2021

وعلى العكس من ذلك، لم يشكل الانسحاب السياسي للصدريين أي تهديد لمنظومة الحكم. ولعل هذا الموقف يشير إلى نوع من التحول الإيجابي نحو العمل السياسي في سلوك وتفكير الصدريين. حيث إنه على خلاف نظرية تفسير اللجوء إلى العنف السياسي بين النخب الخاسرة لنفوذها والنخب الصاعدة إلى السلطة، فإن الصدريين لم يلجأوا إلى العنف بعد تشكيل حكومة "الإطار التنسيقي" وشركائه، ولم يستخدموا ترسانة الأسلحة التي يملكها فصيلهم المسلح (سرايا السلام). بل ركزوا على نشاطهم وحضورهم الاجتماعي ولم يشاركوا حتى في انتخابات مجالس المحافظات نهاية 2023. وربما يكون المؤثر الأساسي في هذا التوجه هو عامل خارجي، أو الالتزام بضوابط تحددها مرجعية النجف، لكنه في النتيجة كان أكثر العوامل مساهمة في ترك خيار اللجوء إلى العنف، والذي يعد تطورا في السلوك السياسي لـ"التيار الصدري" الذي يملك السلاح والجمهور ولكنه يفضل الالتزام بالعمل السياسي.

لا يمكن أن يعود الصدريون برفع شعار "التيار الوطني الشيعي" فحسب، لأن حلبة الصراع السياسي لم تعد مثلما كانت قبل انسحابهم من البرلمان

رفع "التيار الصدري" شعار "التيار الوطني الشيعي"، ودلالته الأهم تكمن في أن مقتدى الصدر يرفع هذا الشعار ردا على خصومه السياسيين الشيعة. إذ كانت توجه الدعاية السياسية لقوى "الإطار التنسيقي" نحو تحالف "التيار الصدري" مع "حزب تقدم" بقيادة محمد الحلبوسي و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود برزاني، كونه تفريطا في حق المكون الشيعي في الحكم، وأن "التيار الصدري" لا يمثل كل الشيعة، ناهيك عن خطابات التخوين والاتهام بالعمالة لتنفيذ أجندات أميركية وخليجية لإضعاف الدور السياسي الشيعي من خلال دعم طرف على حساب طرف آخر. 
كل هذه الاتهامات تبخرت، وتحول الأعداء إلى أصدقاء وحلفاء وشركاء استراتيجيين، وبات المنجز الأهم الذي يتحدث عنه قادة "الإطار التنسيقي"، هو الحفاظ على حقوق المكون الشيعي في تقاسم السلطة مع الأصدقاء-الأعداء. وهنا تأتي خطوة الصدر في الرد على كل هذه الاتهامات ليعلن عودته إلى ميدان التنافس السياسي حاملا راية جديدة عنوانها "التيار الوطني الشيعي" يرد فيها على خصومه من أبناء المكون المذهبي. وربما حسابات الصدر هذه المرة تنطلق من مناورة تعتمد مبدأ سد الذرائع أمام خصومه السياسيين الشيعة عندما يتضمن شعاره السياسي عنوان "الشيعة"، وكذلك ضد من يحاول أن ينتقد هذا العنوان الطائفي، عندما يسبقه عنوان "الوطني". وهنا يبرز تحدٍ أكبر أمام الصدر وتياره في قادم الأيام، حول كيفية المواءمة بين ما هو وطني وما هو مذهبي. 

بدايات قوية ونهايات متوقعة

يعد انسحاب "التيار الصدري" من البرلمان، أول مواقف الصدريين الذي خالف جميع التوقعات. إذ كان السيد مقتدى الصدر يرفع شعارات تعبر عن صدمة للمنظومة الحاكمة وتوافقاتها، ثم يعود الصدريون مرة أخرى ويجلسون إلى طاولة الحوار وتنتهي حركة احتجاجهم بالتوافق مع الأطراف السياسية التي يرفعون شعاراتهم ضدها. لكن، هذه المرة جاء قرار الاستقالة من البرلمان على خلاف جميع المواقف السابقة. 
حتى الآن يستشعر خصوم الصدريين نوعا من الارتياح لغياب "التيار الصدري" عن الساحة السياسية. فبعضهم يعده فرصة لتوسيع مكاسبه في دوائر السلطة، ويلمح في خطابه إلى الفاعل الجديد والأكثر تأثيرا في الساحة السياسية الشيعية. أما البعض الآخر فرغم أنه يشعر بالارتياح من غياب الصدريين فإنه يعتقد أن ضرر هذا الغياب أكثر من فوائده، لأن القوى الجديدة التي استغلت هذا الغياب بدأت المنافسة مع القوى التقليدية في مساحات النفوذ السلطوي الشيعي، وهو ما يمكن أن يزعزع توازن القوى بين الأقطاب السياسية الشيعية. وهنا أصبح التعامل مع الصدريين الذين يؤمنون بحدود معينة من الشراكة، أفضل من قوى سياسية صاعدة لا تعرف أن تخطط للاستحواذ على كل الدولة ومفاصلها. 
في المقابل، التحدي الذي يفرض نفسه على السيد مقتدى الصدر، في حال قرار المشاركة في الانتخابات القادمة، يكمن في الجديد الذي يمكن أن يراهن عليه لكسب التأييد الشعبي من خارج جمهوره، ويحرج فيه خصومه؟ 
لا يمكن أن يعود الصدريون برفع شعار "التيار الوطني الشيعي" فحسب، لأن حلبة الصراع السياسي لم تعد مثلما كانت قبل انسحابهم من البرلمان. الصدريون الآن مطالبون باستحضار تجربتين مهمتين، الأولى تقييم تحالفهم مع القوى المدنية في انتخابات 2018، ومعالجة الخلل في ذلك التحالف وتجاوزه. والثانية، مراجعة خطاب حكومة الغالبية والتفكير في إشكاليته وكيفية ضمان تطبيقه.

"التيار الصدري" الآن بحاجة إلى المراجعة ورسم استراتيجية واضحة لاستقطاب الجمهور

الصدريون- برفع شعار الوطنية- بحاجة الآن إلى مشروع وطني يتم رسم خارطة طريقه، حتى يكون نقطة استقطاب لكل من يؤمن بالمشروع الوطني من القوى السياسية الشيعية ومن خارجها. وهذا المشروع يجب أن تكون ملامحه واضحة وتبتعد عن الشعارات المستهلكة التي ترفع في كل انتخابات، ويعاد تكرارها من قبل كل القوى السياسية. حتى الإصلاح السياسي الذي يرفعه الصدريون كشعار يحتاج إلى توضيح تفاصيله، فالنظام السياسي لا يمكن إصلاحه برفع شعار الإصلاح فحسب، ولا يستقطب الجمهور المتردد. ولعل رفع شعار تعديل الدستور أو تغيير شكل نظام الحكم في العراق هو الشعار الأقوى للإصلاح.

أ ف ب
أنصار مقتدى الصدر يتجمعون في ساحة التحرير ببغداد في 26 مايو 2022، للاحتفال بإقرار مشروع قانون يجرم تطبيع العلاقات مع إسرائيل

أما حكومة الغالبية، فالتحدي الآن أمام الصدريين هو عدم التراجع عنها، ولكن يجب التفكير في الخاصرات الرخوة التي كانت فيها. وهنا يمكن أن تكون حكومة الغالبية قائمة على شراكة الفاعلين الكبار في العملية السياسية، وتكون الشراكة قائمة على برنامج سياسي واضح وصريح يعطي الأولوية لإعادة الاعتبار للدولة وليس لهيمنة الزعامات عليها. 
"التيار الصدري" الآن بحاجة إلى المراجعة ورسم استراتيجية واضحة لاستقطاب الجمهور، وفي الوقت ذاته هو بحاجة إلى التعامل مع معادلة النفوذ السياسي للقوى السياسية الشيعية بمنطق يستفيد من الخصومات بين القوى الصاعدة والقوى التقليدية، وإعادة ضبط معادلة الزعامات السياسية. وربما يكون رسم ملامح خارطة جديدة للتحالفات بعد الانتخابات القادمة تتوافق مع ما يطرحه الصدريون هو الموضوع الأكثر أهمية في قرار العودة إلى المشاركة في الانتخابات وتشكيل الحكومة.

font change

مقالات ذات صلة