ساسة العراق والتحايل على الذاكرة التاريخية بعد 2003

زيارة الى بغداد بعد 21 على سقوط صدام

رويترز
رويترز
سقوط تمثال الرئيس العراقي صدام حسين في ساحة الفردوس في بغداد في 9 أبريل 2003

ساسة العراق والتحايل على الذاكرة التاريخية بعد 2003

لم نشهد سنوات الحرب العالمية الثانية، ولكننا عندما نريد الاطلاع على أبطالها نعود إلى مذكراتهم الشخصية وما كتبوا عنها، أمثال ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الذي قاد بلاده من الهزيمة إلى النصر. وكذلك الجنرال الفرنسي شارل ديغول الذي كتب مذكراته عن سنوات الحرب وما بعدها في 4 أجزاء هي: النفير، والوحدة، والخلاص، والأمل. وعندما نريد التعرف على السياسيين الذين انتشلوا بلدانهم من ركام التخلف والفقر إلى مصاف الدول المتقدمة وحققوا نجاحات باهرة في التنمية والعمران، بالتأكيد نقرأ مذكرات رئيس وزراء ماليزيا (1981-2003) الدكتور مهاتير محمد، والتي كان عنوانها "طبيب في رئاسة الوزراء". وأيضا نقرأ مذكرات لي كوان يو، لنتعرف على "قصة سنغافورة" في التحول من العالم الثالث إلى العالم الأول.

الفكرة من استحضار هذه الأسماء ومذكراتها هي المقارنة مع مذكرات ساسة العراق بعد أكثر من عشرين عاما على تغيير النظام السياسي فيه. إذ لو افترضنا أن الأجيال اللاحقة تريد التعرف على ما حدث بعد 2003 وتطورات الأحداث السياسية، وكيف نفهم جدلية التحول نحو الديمقراطية التي أنتجت لنا فسادا وفوضى ودولة هشة؟ بالتأكيد هناك من يحاول البحث عن الإجابة في ما كتبه الساسة العراقيون في مذكراتهم أو كتبهم ومقالاتهم.

الملاحظة المهمة التي يجب استحضارها، أن مذكرات الساسة العراقيين منذ تأسيس الدولة العراقية يجب التعامل معها بحذر شديد، كما هو الحال مع أي مذكرات سياسية. ففي تتبع تاريخي للمذكرات الشخصية للسياسيين العراقيين، يشخّص عالم الاجتماع والمفكر العراقي عصام الخفاجي بدء سيل المذكرات الشخصية في الثمانينات بين رجال العهد الملكي الذين أحسوا متأخرين ربما بأن عودة الملكية إلى العراق باتت مستحيلة، فأخذوا يذكّرون أجيالا من القراء لم تعش حقبتهم بأدوارهم الوطنية في صناعة العراق الحديث ومحاولة إزالة ما علق بأذهان الناس العاديين عن علاقتهم بالدول الغربية بوصفها "عمالة" أو "تبعية". ثم جاء سيل ثان من المذكرات عن ثورة 14 يوليو/تموز 1958 التي أزالت الملكية في العراق. وكما هي العادة، قرأنا أعمالا لأناس من شتى الاتجاهات، كل يريد إقناعنا بأن الثورة علامة تجارية مميزة لشخصه أو لتياره السياسي. وفي الدفق الثالث من المذكرات، مسحة درامية أكبر مما نجد في الحالين السابقين، كما يعتقد الدكتور عصام الخفاجي. ويعني هنا نوعا من المذكرات، لم نعتد عليه، لقادة ينتمون إلى تيارات لا تزال ترى، أو تقنع الناس أنها جزء من الحاضر لا الماضي: شيوعيون وبعثيون وقوميون باتوا يتبارون في الحديث عن تجاربهم مع أحزابهم، وتجارب أحزابهم مع المجتمع العراقي، وروايات لأحداث لا نزال نعايش بعضها.

في الفترة الأخيرة، بدأت مذكرات الشخصيات السياسية العراقية تحضر في المكتبات وفي معارض الكتب في العراق، وهناك كتابات من شخصيات كان لها حضور فاعل في صناعة رأي عام مؤثر في عملية تغيير نظام حكم صدام حسين. ولكن أغلب ما تم الاطلاع عليه فيه الكثير من الشخصنة ومحاولة تحريف الحقائق والمواقف التي كنا شهودا عليها.

تؤكد مذكرات السياسيين العراقيين أنهم طارئون على ممارسة العمل السياسي كرجال دولة، وليس كسياسيين معارضين فقط

في الأسطر الأخيرة من مقدمة مذكرات مهاتير محمد، وبعد أن سرد مسيرة وصوله لمنصب رئيس الوزراء وتعقيدات الوصول لهذا المنصب، يقول: "غالبا ما تعجبت أثناء شغلي منصبي من وصول شخص عادي مثلي إلى هذا المنصب. وعند النظر إلى الوراء، يتبين أنها مسيرة مستبعدة للغاية بالنسبة إلى طبيب، فكيف بالنسبة إلى واحد من عامة الناس، ومع ذلك أصبحت رئيس الوزراء الرابع لماليزيا".
لا يتحدث ساسة العراق ممن تقلدوا المناصب العليا في الدولة بهذه اللغة التي تعبر عن الطموح والمثابرة في الوصول إلى المنصب، وتؤكد مذكراتهم أنهم طارئون على ممارسة العمل السياسي كرجالات دولة وليس كسياسيين يعملون في المعارضة فقط. إياد علاوي أول رئيس وزراء للعراق بعد 2003 خصص الجزء الثالث من مذكراته "بين النيران: مذكرات إياد علاوي"، عن تجربته في رئاسة الوزراء للمرحلة المؤقتة، وكأنما يريد أن يسرد المؤامرات الخارجية والداخلية التي منعت حصوله على ولاية ثانية، من دون أن يحدثنا على مشروع أو رؤية سياسية واقتصادية لإنقاذ البلاد من أزماتها. ولذلك لا يزال إياد علاوي مستمرا في سرد حكايات التآمر التي منعت عودته إلى منصب رئيس الوزراء، وعن رفضه لقرارات أميركية ولاشتراطات إيرانية، في كل لقاء تلفزيوني معه. ولحد الآن لا نعرف هل هو نادم على معارضة صدام حسين ونظام حكمه؟ وهل هو مؤيد للنظام السياسي بعد 2003 أم لا؟ إذ يبدو أن معايير مواقفه هو حصوله على المنصب التنفيذي الأعلى ونفوذه السياسي.  
في بعض المذكرات هناك من يتحدث بلغة متعالية وكأنه زاهد في المناصب، ولكن هناك مسؤوليات أخلاقية ودينية توجب توليه السلطة. ففي كتاب ينقل مقالات رئيس الوزراء الأسبق الدكتور إبراهيم الجعفري، نجده يتحدث بطريقة منفصلة عن الواقع. يقول في كتاب "تجربة حكم": "أما وجودي في أي موقع من مواقع الحكم، فالقرار عائد إلى الشعب، وهو وحده من يضعني في هذا الموقع أو ذاك" وحقيقة لا أعلم عن أية انتخابات جرت بعد 2003 تم فيها اختيار الجعفري من قبل الشعب، لاسيما أن الانتخابات الأولى في 2005 والتي أصبح بعدها الجعفري رئيساً للوزراء كان الاختيار فيها على أساس القائمة وليس اختيار الاشخاص. 
أما رئيس الجمهورية الأسبق الدكتور فؤاد معصوم، فقد كتب مذكراته وكأنما يريد تبرئة نفسه من حقبة السنوات الأربع التي قضاها داخل مقر الرئاسة العراقية في قصر السلام. ورغم أنه كان غائبا عن الأحداث السياسية المفصلية التي عصفت في مدة توليه المنصب، فإنه كان يتباكى على مصادرة صلاحيته من قبل رئيس الوزراء حيدر العبادي في تلك الفترة. لكن الطريف في مذكراته أنه يؤكد على أن وصوله إلى المنصب لم يكن أكثر من مجرد صدفة. بعد أن كان يقضي أيامه مع عائلته في فرنسا ويتجه نحو التقاعد من العمل السياسي.

أ ف ب
رئيس الوزراء العراقي الاسبق ابراهيم الجعفري

برهم صالح رئيس الجمهورية السابق، كتب مقالا في 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 أكد في خاتمته على رغبة العراقيين الشديدة في معالجات جذرية للخلل البنيوي في منظومة الحكم، وتجاوز ما خلفه العقدان الماضيان من إخفاقات... "وليس لنا خيار في العراق سوى تعزيز السياسة الخارجية القائمة على النأي عن الصراعات والمحاور المتقاطعة". والدكتور صالح يعلم جيدا أكثر من غيره كيف أن الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية أو منصب رئيس الوزراء في العراق مرتبط بالقوى الفاعلة في منظومة الحكم التي هي المنتج الرئيس للخلل البنيوي الذي يدعو إلى معالجته، ومدى فاعلية التأثير الخارجي المتحكم في تحديد من يكون رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء.
محاولة التعالي على وصف الأحداث السياسية والحديث برومانسية مفرطة أو تزوير التاريخ بعد 2003، لا تقتصر على من تسنم المناصب العليا في الرئاسات، بل هناك بعض الوزراء ممن حاول تقديم نفسه باعتباره ملاكا يعمل في حضرة شياطين! ويريد سرد الأحداث بطريقة تجعله بريئا براءة الذئب من دم يوسف، ومن العمل ضمن منظومة الخراب والفساد والفشل، ويريد التحايل على التاريخ من خلال انتقاد رئيس حكومته، من دون أن يملك هو قرارا شجاعا بتقديم الاستقالة أو احترام عنوانه كـ"تكنوقراط" كما يصف نفسه، إلا بعد خراب البصرة. ونموذج ذلك السيد علي عبد الأمير علاوي الذي يُعد من أهم شخصيات النظام السياسي الذي تشكّل بعد 2003، فهو وزير التجارة في حكومة مجلس الحكم المؤقت، ووزير الدفاع في الحكومة المؤقتة 2004، ونائب في الجمعية الوطنية عن الائتلاف الوطني عام 2005، ووزير المالية في الحكومة الانتقالية 2005، وأخيرا وزير المالية في حكومة مصطفى الكاظمي. كلّ هذه المناصب وفي الأيام الأخيرة المتبقية من عمر حكومة الكاظمي التي انحصرت وظيفتها في مهام تصريف الأعمال، اكتشف السيد علاوي أنَّ الدولة في العراق، هي دولة (الزومبي).

رئيس الجمهورية الأسبق فؤاد معصوم، كتب مذكراته وكأنما يريد تبرئة نفسه من السنوات الأربع التي قضاها في الرئاسة، رغم أنه كان غائبا عن الأحداث المفصلية أثناء توليه المنصب

وبعد أن عمل علاوي أكثر من سنتين في منصب وزير المالية، يقول في استقالته: "على عكس البشر، لا تموت الدول بشكل نهائي، ويمكن أن تبقى دولة (الزومبي) لسنوات بل حتّى لعقود قبل أن يتم دفنها، أعتقد أن الدولة العراقية التي ولدت بعد غزو 2003 تظهر عليها علامات مرض عضال... دستورنا في الغالب غير عملي ويتم إهماله بانتظام، ونظامنا السياسي يولد الجمود والانسداد. الحساب والعقاب لا يشملان الزعامات الكبيرة ويتم استغلال موارد الدولة بشكل غير فعال ومهدر أو يساء استخدامها أو تتم سرقتها، ولا أحد يحاسب على الكوارث التي حلت بهذه البلاد".

أ ف ب
رئيس الوزراء العراقي الاسبق أياد علاوي

ربما أتقبل هذا التوصيف من قبل سياسي عراقي، إذا كان لأول مرة يشخص هذه المشاكل في عمل المنظومة الحاكمة بعد 2003. وقد اعتبره بمثابة صك غفران عن خطيئة مشاركته في حكومة تشكلت بموافقة قوى السلطة التي شخصها السيد علاوي في أكثر من مناسبة، ولعل أهمها كانت رفضه الترشيح لمنصب وزير المالية في حكومة حيدر العبادي 2016. ففي لقائه مع محطة "بي بي سي" البريطانية يوم 8-8-2016 في برنامج "بلا قيود"، يعلّق علاوي على سبب رفضه ذلك الترشيح قائلا: "سحبت الترشيح لأنني بصراحة لم أجد أي جدية للإصلاح، ولا إمكانية للإصلاح في ظل التركيبة السياسية الحاكمة في العراق". ووصف النظام السياسي في العراق بـ"المتصلّب، وهناك علاقة توحد الأطراف السياسية المتناقضة ظاهرا، لكنها في الحقيقة تعمل وفق تنسيق فيما بينها لحماية بعضها الآخر، كلّ طرف يحمي الآخر للاستمرار في عملية نهب وسلب البلد لمصلحتها الخاصة ومصلحة أحزابها. هذه التركيبة جذورها عميقة، أنا غير مستعد للعمل مع أطراف همجية إرهابية لتغيير هذه المنظومة".
لكن تبقى مذكرات السياسيين وخطاباتهم ولقاءاتهم التلفزيونية بعد 2003 ظاهرة تحتاج إلى التأمل والتدقيق، فرغم غرابة كتابتهم لمذكراتهم وهم لا زالوا في السلطة أو فاعلين سياسيين يمكن لنا أن نحصل على اعترافات بنزعة التآمر بينهم وضعف البصيرة والرؤية الاستراتيجية وانعدام إرادة بناء الدولة. فكل ما يمكن أن نعثر عليه في مذكرات إياد علاوي بأجزائها الثلاثة وجلال طالباني وعمار الحكيم وسليم الجبوري وفؤاد معصوم هو خليط من الحياة الشخصية ببؤسها وفقرها زمن المعارضة وقصص التآمر والصراعات التي يخوضها سياسيو ما بعد 2003 فيما بينهم، ولا نكاد نعثر على قصة نجاح واحدة مثلما نقرأها في مذكرات الزعماء ورجال الدولة، ولعلنا نصاب بالدهشة من المبالغات والنرجسية العالية التي نجدها في مذكرات إبراهيم الجعفري وباقر الزبيدي وإطرائهم الغزير لدورهم في الحكومات المتعاقبة بعد 2003.

font change