"آخر سھرة في طریق ر"... لیلة في نسیج جدة

شخصيات حائرة في زمن التغيرات

"آخر سهرة في طريق ر".

"آخر سھرة في طریق ر"... لیلة في نسیج جدة

ثمة اتفاق غیر ممھور بأي توقیع، ولكن يتوافق علیه الجمیع في احترام تجلي الصورة المثالیة، وتكثیف حضورھا حتى یظن المشاهد أنھا الإیقاع المتعارف علیه، والقانون السائد المھیمن على نسیج الحیاة الیومیة. هذه الصورة عادة ما تكون مرضیة في مواضیعھا، ومعدودة في مصطلحاتھا، ومقننة تختصر العناصر جمیعھا في مفردات محدودة تصنع منھا تلك الصورة المتفق علیھا، وھي الصورة التي ینتخبھا صناع المسلسلات التلفزیونیة. ھذه الصورة المثالیة ھي التي تلتقط لتروج في وسائل التواصل الاجتماعي.

ولكن عندما ننغمس في عتمة قاعات السینما ویختفي كل شيء إلا تلك الشاشة الضخمة التي تعكس ضوءا وسط ھذا الظلام، لا بدّ من أن یكون ما نشاھده مغایرا لھذا الیومي، یتخطاه وینظر أبعد منه لیمدّنا بحكایات وشخصیات ومفردات تجافي تلك المثالیة المصنوعة، وتلتقط موجة الحقیقة وتبثھا إبداعا قد یستفز المتلقي وینتزع دھشته من خلال نفض التجاھل عن شخصیات لم تعتد الصورة العادیة إبرازھا. وھنا تتفوق السینما في كونھا ضد العادي، ولھذا لا نشاھدھا إلا في الظلام.

رحلة ليلية

یتجـلّى ھـذا فـي الـرحـلة الـلیلیة للنجـم البحـري، ضـابـط إیـقاع السھـرات الـصاخـبة ووارث مـقامـات الـفن الـشعبي، وفي شخصية كـولا سـالـمین، الـصوت الجـدیـد الـذي یسـتعید مـاضـي عـصر جـدة الـذھـبي فـي الأمـاكـن الـلامـعة، فـیما تـتغیر الـمدیـنة، وتـسكنھا أرواح غـیر تـلك الـتي كانت.

یـذھـب بـنا صباغ إلى أماكن أنضج مـن تـجاربـه الـسابـقة، مـلتقطا روح الـمدیـنة ومـا طـرأ عـلیھا من تغيرات

ربـما یـكون ذلـك ھـو الـعنصر الـمضاعـف لأثـر تجـربـة مـشاھـدة "آخـر سھـرة فـي طـریـق ر"، تـلك الـحالـة مـن ثـنائـیة الـزمـن، والأرواح الـتي تـصطدم بـالـواقـع الجـدیـد وتـحاول تـطویـعه من دون أن تتخـلى عـن مـاضـیھا، فـیقودھـا الإیـمان بـالـماضـي نـحو الھـلاك. ھـذا مـا یـلتقطه بـبراعـة، الـعمل السـینمائـي الـثالـث لمحـمود صـباغ، بـعد "بـركـة یـقابـل بـركـة" و"عـمرة والـعرس الـثانـي"، والـذي یـذھـب بـنا إلى أماكن أنضج مـن تـجاربـه الـسابـقة، مـلتقطا روح الـمدیـنة ومـا طـرأ عـلیھا من تغيرات. نـحن أمـام رحـلة نـحو حاضر جدة منطلقین من ماضیھا، نحمل الماضي ونغوص في هذا الحاضر.

"آخر سهرة في طريق ر."، ثالث أفلام محمود صباغ.

لا یصارحنا العمل باتجاهه ولا یكشف لنا عن سره من البدایة، فنحن نشاھد لقطات ومشاھد ترصد واقع الیوم، لكنھا محملة نسائم تشي بھا الشخصیات وتحملنا إلى تسعینات جدة، فنجد أنفسنا في زمنین، تحفز اللمسات المتقنة على الشاشة ذاكرتنا لتستدعي اللحظات اللامعة القدیمة للمدینة، فیما تورطنا الصورة في واقعنا الحالي المتغیر، فنلبس منذ المشاھد الأولى ثوب الحنین الذي یؤرق الأبطال.

نعم؛ نحن أمام حكایة حنین، لكنھا تعیش صخب الواقع كذلك، لیبدو الفیلم أشبه بفیلم طریق، لكنه لا یعبر طریقا، بل یقطع حالة التغیر.

تراكم

لذا، فإن تناول فیلم "أخر سھرة في طریق ر" من ناحیة سردیة محضة، قد لا یكون مناسبا للتعاطي معه. التعاطي النقدي مع ھذا الفیلم مشھدا وراء مشھد، ھو فعل یتضاد مع فكرة وجوده، فھو لیس كأي فیلم، والطریقة المثلى لتناوله ھي أن نفھم حالته التراكمیة ونعبر معه إلى أسباب وجوده، ونفھم اختیاراته السینمائیة، موقعا وفكرة ومنطلقا، فھذا فیلم یجب أن يُقرأ على مھل.

نحن أمام حكایة حنین، لكنھا تعیش صخب الواقع كذلك، لیبدو الفیلم أشبه بفیلم طریق، لكنه لا یعبر طریقا، بل یقطع حالة التغیر

النجم البحري أو أبو معجب (عبدالله البراق)، ھو شخصیة البطل التراجیدي المكتملة الأركان كما وضع قواعدھا سادة المسرح الإغریقي، فھو عالق بین زمنین، یحمل ذكرى الماضي التي تلعب دور النبوءة أو اللعنة التي تلاحق البطل ویحملھا دون وعي منه، متنقلا بھا بین دروب حاضر الیوم، وذلك على الرغم من أن مسارات الیوم تتماشى مع اتجاھاته، إلا أن الطریقة التي یعد بھا الحاضر وصفته للعیش، لیست طریقة مثالیة حسب مقاییسه.

الفنان عبد الله البراق يقدم دور بطل الفيلم نجم البحري.

ولا شك أن كل متابع یقظ للسینما السعودیة، سیجد توازیا أو تقاطعا بین عمل بطلي "مندوب اللیل" و"آخر سھرة في طریق ر" (فھد القضعاني والنجم البحري)، فكلاھما في مواجھة تغییر، مدینة تنقلب رأسا على عقب أمامھما، ففھد في "مندوب اللیل" یواجه التغییر بذاتیة شدیدة ویضع الحفاظ على ذاته وكرامته في مواجھة العالم، أما أبو معجب فھمّه ھو العالم، أن یبقیه على صورته فیھاجم التغییر بما یؤمن به، ینبسط في خیاله ویخوض معركة ضاریة لا سبیل للفوز بھا ضد الزمن.

في تمثلھما السینمائي، نجد فھد في "مندوب اللیل" أكثر اتزانا، لكن أبا معجب أكثر تعدیا، أكثر ھیاجا في مواجھة الواقع، ھو الطیب والقبیح، لا ینحو في اتجاه خلق أي نوع من الموازنة، ھو غاضب وغیر مكترث وغیر ملتفت للتعاطف، ولا یكترث الفیلم سوى إلى تأكید وجوده، لخلق حالة من التموضع في أنحائه والانبساط على ساحته حتى لو كان الظھور طاحنا.

تقدم المغنیة الممثلة مروة سالم أداء قويا یخلق حضورا مبھرا من خلال طاقة لا تكبح

ما ینشط ھذا الوجود لـ"النجم البحري"، ھو المحیط الذي صنع ھذا التفاعل وولّد ذلك الغضب، فخلال تنقلاته بین أماكن مختلفة في المدینة في ھذا اللیل الدامس، تمر السیارة عبر التغییر المتسارع ویؤكد ركابھا حضور ذلك التغییر ووعیھم به، ویصبغ كل عنصر بصري من عناصر ذلك التغییر المشھد السینمائي بحضوره. نرى في الرحلة ومن خلال حضور سیلفر، المسن الساخر الذي یحمل فكاھة زمن مضى، منازعة الحاضر، وحكم الزمن القاطع باندثار الماضي وما یمثله من شخوص. أما كولا، فھي الجوھرة، تنتمي في تكوینھا الى الماضي بلا شك، لكنھا تحمل مستقبلا معھا، العنصر الوحید الذي یرید الحاضر أن یأخذه من ذلك الماضي. وهي على طریقة أبي معجب لا تقل عنفا وتضیف إلیه المكر في أخذ ما ترید، وابتعادھا عما تعافه وتتجنبه. لكن ما یجعل كولا حقیقة، ھي حالة سینمائیة تبعثھا مروة سالم، المغنیة الممثلة، مقدمة أداء قويا یخلق حضورا مبھرا من خلال طاقة لا تكبح، وتتفجر بمجرد أن یتقدم الفیلم.

المخرج محمود الصباغ.

تطور أسلوبي

في "آخر سھرة في طریق ر"، نحن أمام تطور فعلي في الأسلوب السینمائي الذي لا ینعكس فقط على الخلفیة التي تتحرك فیھا الأحداث والشخصیات، لكنه یحكم عملیة التفاعل مع كل نقطة في العمل الفني. الإیقاع یحكمه المكان بشخصیته الحاضرة ومعالمه التي یسھل تمییزھا، على الرغم من لیلیته البحتة التي تجعل المكان على إظلامه یبدو لامعا. لكن ما یجعل التفاعل ھنا أكثر سینمائیة معززا بذلك التفاعل الاستثنائي مع ھذه الرحلة، هو تلك الضبابیة المتعمدة في تبیان الزمن، ألا تعالج الحاضر والماضي بتسلسل، أن لا تحیلنا إلیه من خلال إشارات، وإنما تحملنا إلیه بقدر ما یرغب أبو معجب في إقحامه على الحاضر غصبا، أن تقنع المشاھد به من دون وضع أي تفعیلات سردیة مبتذلة، فنخوض عقودا من الزمن في لمحة واحدة: أن تصنع بإقناع تیه الزمن لدى الشخصیات داخل فضاء واضح المعالم.

ھناك عملیة سحریة نعیشھا داخل مجریات ھذا العمل. ثمة كلاسیكیة یخلقھا جلیا أسلوب الفیلم البصري فیما یخوض تلك العوالم السفلیة، إلا أنه یرتقي لیحمل طابعا فانتازیا داخل ھذا الواقع، وكما ذكرت سابقا عن شخصیة "النجم" فإن نزواته الشكسبیریة وصرخاته تأتي كأنما من تراجیدیا أوبرالیة. تنطق الشخصیات بمختلفھا سجعا كأنها جاءت الى ھذا العالم نزولا من عالم آخر. ھذا الانفصال الذي تصنعه الشخصیات بین وھمھا وواقعھا باستخدام اللغة، یشترك في خلق قیمة الرحلة، ویصنع مزیجا تتشكل منھ للفیلم لغة خاصة.

قد لا یستسیغ البعض وجود ھذا النوع من المعالجات، ھذه الجرأة في الطرح، والعنف الكامن في السرعة الخاطفة للسرد، والمصطلحات غیر الشائعة واللغة الملائكیة، لكن ھذا ما یحكیه "آخر سھرة في طریق ر" وھذا ھو موضوعه الذي یجعله قطعا أنضج أفلام محمود صباغ وأفضلھا، وأحد أجمل الأفلام التي تحكي عن جدة، من جدة وإليها.

font change

مقالات ذات صلة