عن تجربة توفيق الزايدي التي أوصلته إلى "كان السينمائي"

"نورة" أول فيلم سعودي يعرض ضمن مسابقة "نظرة ما"

فيلم "نورة" أول فيلم سعودي طويل يتم تصويره في العلا

عن تجربة توفيق الزايدي التي أوصلته إلى "كان السينمائي"

الرياض: قوبل اختيار "مهرجان كان السينمائي الدولي" الفيلم السعودي "نورة" للمخرج الشاب توفيق الزايدي، للمشاركة ضمن فئة "نظرة ما"، في فعاليات الدورة السابعة والسبعين للمهرجان التي تقام في منتصف مايو/ أيار المقبل، بحفاوة في الوسط السينمائي السعودي والعربي. ولعل جزءا كبير من أسباب هذا الاحتفاء هو كون "نورة" أول فيلم سعودي يشارك في مسابقة مهرجان "كان" الدولي، بعد محاولات عديدة عن إعلان ترشيحات سعودية سابقة، وبهذا شكل العمل مصدر فخر للوسط الثقافي والسينمائي في السعودية، نظرا لما يمثله من نقلة مهمّة في مسيرة السينما في المملكة التي تشهد في السنوات الأخيرة طفرة نوعية، سواء في إقبال الجمهور، أو في الإنتاجات الجديدة، أو في الدعم الذي تلقاه هذه الصناعة وظهور عدد من المواهب الشبابية اللافتة.

انطلق مشروع "نورة" بعد حصوله عام 2019 على جائزة أفضل سيناريو ضمن مسابقة "ضوء" للأفلام التي تنظمها هيئة الأفلام السعودية، وهي مبادرة أطلقتها وزارة الثقافة السعودية لدعم الجيل القادم من صانعي الأفلام السعوديين وتشجيعهم.

وفي نهاية 2023، حصد "نورة" جائزة أفضل فيلم سعودي بعد عرضه الأول ضمن مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته السابقة، والآن يصل العمل إلى المحطة التي يتنافس فيها مع 15 فيلما اختيرت للمشاركة في مسابقة برنامج "نظرة ما"، في الحضور الدولي الأهم للفيلم.

شكل "نورة" مصدر فخر للوسط الثقافي والسينمائي في السعودية، نظرا لما يمثله من نقلة مهمة في مسيرة السينما في المملكة

إذا ما نظرنا عن كثب إلى سيرة المخرج توفيق الزايدي، فسنرى أن حكاية "نورة" هي امتداد لتجربته التي بدأت عام 2006 من خلال الفيلم الوثائقي، "معاً من أجل السلام"، من إنتاج قناة "الإخبارية" التي عمل فيها، ثم توالت بعدها التجارب بين الأعمال الوثائقية والروائية القصيرة، ليحصل فيلمه الوثائقي، "الجريمة المركبة"، على جائزة أفضل مونتاج في مهرجان جدة السينمائي، ليأتي من بعده فيلما "الصمت" (2010) و"خروج" (2011) وكلاهما حصلا على جوائز عربية مهمة. كانت إذن مرحلة إرهاصات وتحديات على الرغم من كل الظروف المعاكسة، وفي كل تجربة ومخاض تتكرس لدى توفيق علاقة الفن بالناس، وسبل تقصير المسافة بينهما.

المخرج السعودي توفيق الزايدي

عندما تبلورت فكرة فيلم "نورة"، اقترب الزايدي، ابن المدينة المنورة، من عالم الفن التشكيلي ورواده، وحين اكتملت أركانها، عاد إلى مسقط رأسه ليجسد الحكاية فيها، فكان من أوائل المخرجين الذين نفذوا عملهم السينمائي في مدينة العلا الأثرية.

وذكر الزايدي في تصريحات سابقة أنه أولى اهتماما كبيرا للحيز المكاني منذ بداية تأسيس القصة وشخصياتها. وقبل كلّ  شيء، قرّر أن تكون العلا المكان الذي ستدور فيه أحداث الفيلم. فقد شعر بأنه لا يرغب في بناء ديكورات خاصة، بل أراد استخدام المكان كما هو، إذ لا تزال قرى العلا تحمل روح التسعينات، وهي الحقبة التي يدور في إطارها الفيلم ويسعى إلى تجسيدها.

إلى هنا تبدو المسألة طبيعية ضمن مسار العمل الفني من حيث الدعم وتوفر الفرص واكتمال الإمكانات الفنية. لكن لماذا ذهب "نورة" إلى مهرجان كان؟

حكاية "نورة" استعراض للحياة كما هي، لا كما يمكن تخيلها، فهي تسلط الضوء على قسوة الواقع في المناطق النائية خلال تسعينات القرن الماضي، ولعلّ تجارب الزايدي في السينما التسجيلية ساهمت في منح الفيلم هذا الحسّ  الواقعي.

لا ينشغل الفيلم بالبناء المكثف للشخصيات، بقدر ما ينشغل بنسج العلاقة بين الفن والتصحر، التصحر بمدلولاته المكانية والتعليمية والثقافية والعاطفية، وفي المقابل الفن بجميع أشكاله وبأثره الجمالي، الذي يُقدم ممارسوه كطبقة منبوذة في تلك الحقبة، حتى لو اقتصر إنتاجه على شكل مخطوطة ورقية لطفل.
يتمثل الفن في شخصية نادر (يؤدي دوره يعقوب الفرحان) الذي قدم إلى الصحراء في مشهده الأول بصمت العارفين وبؤس الحالمين. أما التصحر فنراه في شخصية الفتاة نورة (تؤدي دورها ماريا بحراوي) ومحيطها الجاف، والفيلم هو قصة هذا اللقاء بين عالمين، وفي حين لا تتكشف لنا الخلفية الاجتماعية التي آلت إليها شخصية نادر من فردانية وتوحد وإحباط وتقشف في الحديث، فإن نورة تبدو نقيضا له، إذ تنهمر في التعبير عن توقها للعيش في المدينة وجموحها نحو عالم الصور البراقة والفنون.

الممثلة ماريا بحراوي أثناء تصوير الفيلم

ليس من ثنائية رومانسية في أفق هذا اللقاء، على الرغم من كثافة مشاهد البطلين، نادر ونورة، بسبب الخوف الذي يكبلهما ويحجّم قدرتهما على التعبير، وهنا يجد المتلقي نفسه مضطراً إلى التغاضي عما يدور من لقاءات متكررة بين البطلين، لا تركن إلى شيء. وهذا اللا شيء في ظاهره يعلن انتصار الفكرة الظلامية نحو الفن وممارسيه، وقد تجلى ذلك بوضوح في نهاية الفيلم.

باتت السينما هي المسكن الذي تستظلّ فيه الأحلام لجيل جديد من السينمائيين من بينهم توفيق الزايدي

إذن، تدور أحداث الفيلم حول هذين المحورين، الفن بأشكاله المتعددة: الرسم والموسيقى والسينما، والقفر الفكري والتنويري، وما بينهما جسر متهالك هو بذرة الحب الخفي المهزوم. لكن هل كان يجب أن نقف عند هذا الحد؟

ريادة محلية

 تتراوح الانطباعات عن فيلم "نورة" بين حدّين: جمال القصة وإتقان الصنعة الفنية، وطريقة المعالجة وبناء الشخصيات. وإذا كان بعض النقاد تحفظ على هذا الجانب الأخير، فقد عاد وقلص لاحقا تحفظه لمصلحته، إذ أن ريادته المحلية وتسليط الضوء على اليقينيات القديمة، وصولا إلى ما وصلت إليه السعودية اليوم من طفرة نوعية، تجعل من الفيلم نقطة جذب للجمهور العالمي.

فيلم "نورة" أول فيلم سعودي طويل يتم تصويره في العلا


 كما أن السرد الذي يحكي قصة فتاة تولد في منعطف تلك الظروف القاسية ستكون لاحقا أداة خرق لهذه الظروف، وهذا الإطار العام لمناخ الفيلم وشخصياته الأساسية، يوسّع قابلية تبنيه في المهرجانات السينمائية الكبرى، وهو ما حدث مع تجربة سعودية سابقة في فيلم وجدة" للمخرجة هيفاء المنصور . 


في هذا المعنى،  يبدو الفيلم شديد المعاصرة، إذ يعكس خوض المخرج توفيق الزايدي نضاله وبحثه الفكري جنبا إلى جنب جودة العناصر الفنية الأخرى، مثل الموسيقى التصويرية والإضاءة و التلوين.
السينما، التي كانت منذ سنوات مضت بالنسبة إلى المخرجين الواعدين رحلةً وعرةً مليئة بالصخور الناتئة، وفي منتصف الرحلة هي السكن المتنقل بما فيه من تحديات ومغامرات، باتت اليوم هي المسكن الذي تستظلّ فيه الأحلام لجيل جديد من السينمائيين، من بينهم توفيق الزايدي.

font change

مقالات ذات صلة