نخشى الموت لأننا نحب الحياة أكثر من اللازم، أو ربما لأن تقييمنا لها مبالغ فيه، نعطيها قيمة أكبر مما تستحق. هل يمكن أن يكون حبها أكثر من اللازم؟ نعم، يحدث هذا عندما يتعلق نظرنا إليها بالجوانب التي نحبها فيها دون غيرها. ننظر إلى جانبها المفضل فقط فنتشبث بحياة خيالية من صنع تصوراتنا ورغباتنا، ونراها بألوان أكثر إشراقا مما هي عليه بالفعل.
عندما صوّر الفنان الإيطالي سيرجيو ليوني فيلمه الخالد "حدث ذات مرة في أميركا" قابله النقاد بقولهم إنه فنان جميل لكن تصوره لأميركا ليس حقيقيا، بل نبع من خياله المفتون بهذه الحضارة العظيمة. فنادق نيويورك في الثلاثينات كانت أكثر تواضعا مما تخيله. لقد كان يتصور كل الحياة هناك على غير حقيقتها.
التصور المزيف لأميركا يشبه التصور المزيف لحياتنا، ونحن مثل ليوني عندما نُصرّ على رؤية الحياة في شكلها الناقص من دون الموت الذي يكمل صورة الحياة فنراها حقا على ما هي عليه، في "هكذائيتها". لن تكون الصورة واضحة إلا بشرط أن لا نغفل عن وجهها الآخر الذي تتشوش أذهاننا عندما ننساه. التشوش لا يأتي من نسيان الموت لمدة يوم، بل يأتي ويستقر عندما نغفل، مع دورة الأيام والشهور والعقود فتصل إلى السبعين ولا تشعر أنك اقتربت من الرحيل، ولا تشعر أنك قد تصالحت مع الزائر الغازي الذي يطاردك منذ ثوانيك الأولى يوم ولدتَ، ولسوف يصل.
هذه الصورة المتحيزة والانتقائية وغير المكتملة للحياة تُنمي فينا تدريجيا رغبة قوية وأملا، بل وإيمانا راسخا بحياةٍ خالية من الموت، على الأقل في المستقبل المنظور الذي لا نكف عن تمديده وتبعيده.
من المتوقع أن نتجنب التفكير في الموت أو اعتباره شيئا سيُمزق الحياة ويدخلنا في دوامة العدم. ماذا لو حاولنا أن نتفلسف على العدم، ما هو العدم؟
إلا أن الواقع يُناقض هذا الاعتقاد الرخو. من الطبيعي أن نُفتن ونستسلم لهذه الهشاشة وأن نصاب بالرعب من الموت. من الطبيعي أن ترى عجوزا مريضا يبكي كالأطفال خوفا من الاختفاء. وليس صحيحا أن كل الناس تنزل عليهم الطمأنينة والسكينة والإيمانيات في لحظاتهم الأخيرة. ليس صحيحا أن يملكوا جميعا راحة العبور السلس. ليس صحيحا أن كل الناس يتعمق إيمانهم في دقائقهم الخاتمة.
عندما لا ننظر إلى الموت على حقيقته- كجزء لا يتجزأ من الحياة- ولا نعيش حياتنا وفقاً لذلك، فالذي سيحدث أن أفكارنا وأفعالنا ستمتلئ بعناصر متضاربة، مما يخلق خلافات وآلاما شنيعة. يموت أبٌ أو أم أو زوجة فيصاب الإنسان بصدمة العمر وينهار عاطفيا، لأنه لم يستعد ولم يفهم أن الموت جزء من الحياة. مع أن المعرفة الحقيقية لا تحدث بموت الآخرين، بل بموتك أنت فقط، كما يقول هايدغر. وعندما نغفل وننشغل بأهداف صغيرة وأغراض تافهة، فلا شك أننا سنعيش الصدمة العنيفة، وسنواجه الموت حين نموت وكأننا لم نعش قط.
من المتوقع أن نتجنب التفكير في الموت أو اعتباره شيئا سيُمزق الحياة ويدخلنا في دوامة العدم. ماذا لو حاولنا أن نتفلسف على العدم، ما هو العدم؟ إنه لا يشبه الألعاب التي تختار أن لا تشارك في واحدة فتجلس على مدرج المتفرجين، لكنك ترغب في المشاركة في اللعبة التي تليها، وتهرول تسخينا واستعدادا لها. هل هناك لعبة أخرى؟ قد تجد من لا يؤمن بحياة أخرى ويرفض هذه الفكرة بشدة. لكن حتى هذا قد نسي أمرا مهماً: ماذا بعد هذا الرفض؟ هل هناك شيء آخر يمكن أن يأمل فيه؟ مرهق هذا التصور الذي لا يصل إليه العجلان أبدا، ولا أدري إن كنت قد وصفت ما أريد قوله بقدر كافٍ، لكن الذي أعرفه هو أن العدم عندما يطويك فلن تكون موجودا حتى تختار لعبة ثالثة إذا عُدمت الثانية. ولن تتمكن من أن تعود إلى لعبتك الأولى، هذه الحياة. ولذلك فالأفضل أن تؤمن بحياة قادمة بدلا من محاولة فهم العدم. العدم عدم. شيء مخيف أكثر من الموت.
كل شيء في تغير مستمر، الجبال والجليد والبحر وكذا الإنسان. كل شيء يدور في صيرورة. والحرية ليست حرية أن نفعل ما نشتهي، لأن في ذلك عبودية أخرى
نخشى الموت أيضا لأننا مُتشبثون بوسائل الراحة والعائلة والأصدقاء ومتع دنيوية أخرى. ونرى الموت شيئا سيفصلنا عن الأشياء التي نتشبث بها. بالإضافة إلى ذلك، نخشى الموت لأنه يوحي بفقداننا للسيطرة، ونحن مفتونون بالسلطة والسيطرة. عادات الهوس تحديدا، وشعورنا بأهمية هذه تحديدا، والإصرار على هوية ذاتية مميزة، تفصلنا عن الكل الذي نُشكل جزءا لا يتجزأ منه. بل إنه لا يوجد جزء بل كل واحد. الأنانية هي سبب كل هذا الخوف. يبدو إذن أن عدم تقبلنا للعلاقة بين الحياة والموت هو أساس هذا الخوف. لأننا نفشل مرة بعد مرة في رؤية الواقع: حياة في الموت وموت في الحياة.
نحن بحاجة إلى الابتعاد عن ذواتنا بعض الشيء لكي نموت بسلام، عندما نتقبل ونستحضر حتمية الموت، وأن نتعلم تقبله على أنه متضمن في هبة الحياة. إذا تعلمنا أن نحتفي بالحياة لجمالها الزائل، بمجيئها وذهابها، بظهورها وزوالها، بقدرتنا على أن نضعها على الرف إذا شئنا. عندها يمكننا أن نتصالح معها ونتعايش معها.
كل شيء في تغير مستمر، الجبال والجليد والبحر وكذا الإنسان. كل شيء يدور في صيرورة. والحرية ليست حرية أن نفعل ما نشتهي، لأن في ذلك عبودية أخرى، بل هي ما نشعر به عندما نكون عقلانيين بقدر كافٍ وروحانيين بقدر كافٍ. كائنات أسمى من المادة تقدّر العقل برغم قصوره وتؤمن بالروح التي تعيش تجربة الحياة في هذا الجسد، ثم تغادر لتعيش تجربة أخرى. هنا قد نبصر إمكانية الارتياح وقبول حقيقة التغير المستمر، مع الاستمتاع باللحظة الراهنة. نحن لا نملك أي قدرة على صد الأشياء التي تؤذينا وليس أمامنا إلا التسليم وههنا يتوقف القلق.