ترمب وسياسة التعريفات... التأرجح بين الانتصار والكارثة (1 من 2)

إعادة تعريف النظام الدولي على أسس جديدة تعود إلى القرن التاسع عشر

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء توقيعه على أوامر التنفيذية في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 9 أبريل 2025

ترمب وسياسة التعريفات... التأرجح بين الانتصار والكارثة (1 من 2)

بعد اعلانه فرض تعريفات جمركية كثيرة ومختلفة، عقابية الطابع، على حلفاء أميركا وخصومها التقليديين، فضلا عن دول أخرى كثيرة ترتبط بأميركا بعلاقات طبيعية، كتب الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، تغريدة لافتة وكاشفة في الوقت نفسه: "العملية الجراحية انتهت! المُصاب عاشَ وهو يتعافى. التشخيص المستقبلي للحالة أن المصاب سيصبح أقوى وأكبر وأفضل بكثير، وبقدرة أعلى بكثير من السابق على التحمل وتحدي الصعاب. لنجعل أميركا عظيمة مرة اخرى".

عبر هذه الاستعارة الطبية المألوفة بخصوص نجاح العملية الجراحية ونجاة المريض من الموت، يقر ترمب ضمنا أن سياساته الجمركية ستقود إلى بعض الألم والعناء المباشرين في المدى القصير، بانتظار التعافي الكامل وبروز الولايات المتحدة كقوة اقتصادية أكبر وأشد تماسكا.

وتعليقا على التراجع الكبير في البورصة كرد فعل على فرضه التعريفات الجمركية الجديدة، حث ترمب الأميركيين على التحمل: "اصبروا، لن يكون الأمر سهلا، لكن النتيجة النهائية ستكون نصرا تاريخيا".

يكشف هذا الإقرار النادر من ترمب- الذي اعتاد المفاخرة بأن لديه حلولا ناجعة وسريعة المفعول للمشاكل الصعبة، كما في إصراره السابق على أن باستطاعته إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية خلال يوم واحد بأن أياما شاقة تنتظر أميركا والأميركيين- الحجم الهائل للتغيير العميق الذي يحاوله الرجل أميركياً وعالمياً: إعادة تعريف النظام الدولي على أسس جديدة تعود إلى القرن التاسع عشر، حيث التجارة، وعبرها بنية الاقتصاد، بوصفها تنافسا حادا ومتواصلا بين الدول الوطنية بما عناه هذا من ترتيب السياسة والأمن حول متطلبات الفوز الوطني بهذا التنافس التجاري، وذلك بعيدا عن النموذج الحالي العابر للدول الوطنية الذي يقوم على التنافس بين الشركات، وليس الدول، لإنتاج البضائع الأفضل بأرخص الأسعار الذي يحول كل سكان العالم، بغض النظر عن البلدان التي ينتمون إليها، إلى مستهلكين تتنافس هذه الشركات للفوز بهم عبر خدمة مصالحهم الشخصية كزبائن مخلصين.

نظام التعريفات العقابية الذي أدخله ترمب معقد، وباستثناء دول لم تشملها التعريفات الجديدة، مثل روسيا وبيلاروسيا وكوبا وكوريا الشمالية، فإن كل دول العالم الأخرى تقريبا، التي تستورد منها أميركا شيئا ما، شملتها تعريفات أساسية، تبلغ 10 في المئة (تغطي هذه التعريفة معظم الاستيرادات الأميركية مع استثناء المواد النفطية والدوائية). ثم هناك تعريفات إضافية اختلفت باختلاف الدول وحتى البضائع المستوردة، فبضائع كالسيارات وبعض أجزائها الاحتياطية والفولاذ والألومنيوم فرضت عليها تعريفات بحدود 25 في المئة.

أما بخصوص الدول التي فرضت عليها تعريفات إضافية فوق التعريفات الأساسية، فهذه بلغ عددها أكثر من خمسين بلدا، كانت حصة الدول الآسيوية منها هي الأعلى (الصين ما مجموعه الآن 54 في المئة تحولت تاليا إلى 125 في المئة وكمبوديا 49 في المئة وفيتنام 46 في المئة، والهند وكوريا الجنوبية بنسبة 26 في المئة لكل منهما، واليابان 24 في المئة). حتى البلدان العربية شملتها هذه التعريفات رغم قلة صادراتها لأميركا نسبيا، فكانت حصة سوريا منها هي الأعلى 41 في المئة، ثم العراق 39 في المئة، فالجزائر 30 في المئة. أما الاتحاد الأوروبي فشملته ككتلة اقتصادية واحدة تعريفات بنسبة 20 في المئة.

العوائد المالية لفرض التعريفات

تسعى إدارة ترمب لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية مترابطة من نظام الرسوم المعقد هذا. الأول هو حصول الحكومة الفيدرالية على عوائد تبلغ ستة تريليونات دولار على مدى عشر سنوات مقبلة، بحسب بيتر نافارو، مستشار ترامب للتجارة، والقوة الرئيسة الدافعة في البيت الأبيض لتبني فرض التعريفات.

يقول نافارو، ومعه الإدارة الحالية، إن هذه الأموال تأتي من الشركات الأجنبية التي تريد أن تبيع منتجاتها في أميركا، فيما يحاجج معظم الاقتصاديين بأنها ستأتي من جيوب الأميركيين عبر الزيادة المتوقعة في أسعار السلع في أميركا إذ ستضيف شركات الاستيراد الأميركية مقدار التعريفات الجمركية لسعر البضائع التي تبيعها.

لحد الآن لا تبدو حجة الإدارة هذه مقنعة، ففي واقع الأمر المدعوم بتقديرات اقتصاديين كثيرين وتجارب سابقة، التعريفات الجمركية هي عبارة عن ضرائب غير مباشرة على جمهور المستهلكين (الذي سيدفعها على شكل زيادة في أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة). وذلك التفافا على فرض ضرائب مباشرة على الجميع الذي يُعتبر فعلا سياسيا يضر انتخابيا بالقائمين عليه.

وتساعد هذه الأموال الإضافية المتحصلة من التعريفات الجديدة (على فرض صحة رقم التريليونات الستة الذي يشكك فيها كثيرون) على تحقيق أشياء كثيرة بينها تقليص الدين العام المتصاعد كثيرا (أكثر من 36 تريليون دولار) واستمرار الإدارة الحالية في تمويل الاستقطاعات الضريبية التي مررتها إدارة ترمب الأولى في 2017، وينتهي مفعولها نهاية هذا العام، في الوقت الذي يعمل فيه الجمهوريون على تمرير قانون لتجديدها لسنوات مقبلة.

يقول نافارو، ومعه الإدارة الحالية، إن هذه الأموال تأتي من الشركات الأجنبية التي تريد أن تبيع منتجاتها في أميركا، فيما يحاجج معظم الاقتصاديين أنها ستأتي من جيوب الأميركيين عبر الزيادة المتوقعة في أسعار السلع بأميركا

إبرام اتفاقات تبادل تجاري جديدة

الهدف الثاني هو إجبار الدول، خصوصا التي لديها ميزان تجاري فائض مع الولايات المتحدة، أي إنها تصدر لها أكثر مما تستورد منها، للتفاوض مع إدارة ترمب للتوصل إلى اتفاقات تبادل تجاري جديدة تسمح بتعديل الميزان التجاري، وتساهم في آخر المطاف في زيادة الصادرات الأميركية لهذه البلدان. يقول ممثل الرئيس ترمب لشؤون التجارة الدولية، جيمسون غرير، في جلسة استماع في مجلس الشيوخ إن خمسين بلدا، بينها الهند وفيتنام، قد تواصلت مع أميركا من أجل عقد مثل هذه الاتفاقات.

من جانبها، ذكرت الناطقة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أن عدد هذه البلدان وصل إلى 70 بلدا. أحد هذه البلدان هي إسرائيل التي لديها فائض تجاري بإزاء أميركا التي فرضت عليها تعريفة بـ17 في المئة مؤخرا. حسب الأرقام الرسمية لعام 2024، صَدَّرت إسرائيل لأميركا ما قيمته 22.2 مليار دولار من البضائع فيما كانت حصة أميركا من الصادرات لإسرائيل 14.8 مليار دولار.

وفي زيارته الأخيرة لواشنطن، واجه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ما بدا تظلماً أميركياً، علنياً ونادراً، من إسرائيل عندما قال ترمب أمام الصحافيين في البيت الأبيض بحضور ضيفه الإسرائيلي: "لا تنسوا، نحن نساعد إسرائيل كثيرا. نعطي إسرائيل أربعة مليارات دولار سنويا، هذا مبلغ كبير".

رويترز
ميناء بانكوك على طول نهر تشاو فرايا، بعد أن أعلن ترمب عن وقف مؤقت لمدة 90 يوما للتعريفات الجمركية على العديد من البلدان، في بانكوك، تايلاند، 10 أبريل 2025

وكان رد نتنياهو الذي حاول قبلها، دون جدوى، إقناع ترمب بإلغاء التعريفة التي فرضها الأخير على البضائع الإسرائيلية، إن إسرائيل: "ستزيل العجز التجاري مع الولايات المتحدة ننوي أن نفعل هذا بسرعة كبيرة. نعتقد أن هذا هو الشيء الصحيح. سنقوم أيضا بإلغاء الحواجز أمام التجارة... يمكن لإسرائيل أن تكون النموذج لبلدان أخرى للقيام بالشيء نفسه".

يعني هذا أن على الولايات المتحدة وإسرائيل إعادة التفاوض بخصوص "اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل"، التي وقعها الطرفان في عام 1984 ودخلت حيز التنفيذ في العام التالي (1985)، من أجل تعديلها لصالح أميركا.

ونظمت هذه الاتفاقية التبادل التجاري بين البلدين منذ ذلك الوقت. وإذا كانت إسرائيل مستعدة لتلبية المتطلبات الأميركية الجديدة بسبب حاجتها للولايات المتحدة كحامٍ أمني رئيس لها لا يمكنها الاستغناء عنه، فليس واضحا أن بلدانا أخرى لا تحتاج أميركا لأغراض أمنية، ستحذو حذو إسرائيل. 

ومع ذلك، تبدو إعادة التفاوض بخصوص اتفاقيات التبادل التجاري التي عقدتها أميركا مع دول أخرى قارب الإنقاذ الوحيد لاستمرار سياسة التعريفات الجمركية التي يتبعها ترمب، إذ تواجه هذه السياسة معارضة جمهورية، مترددة ومن خلف الكواليس غالبا، وأخرى ديمقراطية علنية وقوية.

تبدو إعادة التفاوض بخصوص اتفاقيات التبادل التجاري التي عقدتها أميركا مع دول أخرى قارب الإنقاذ الوحيد لاستمرار سياسة التعريفات الجمركية التي يتبعها ترمب

القلق الجمهوري من تعريفات ترمب

 بعيدا عن خلافهم الأيديولوجي العام مع فرض التعريفات الأحادية الجانب بوصفها تعيق التجارة الحرة التي استفادت منها أميركا كثيرا، يخشى المشرعون الجمهوريون من كساد اقتصادي مقبل يمكن أن تكون بوادره الخسارات الكبيرة التي تكبدتها أسواق البورصة الأميركية مباشرة بعد إعلان ترمب فرض التعريفات الجمركية، ومن مواجهة ناخبيهم في الانتخابات النصفية للكونغرس العام المقبل (2026)، الذين سيشتكون على الأغلب من ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية بسبب هذه التعريفات والتضخم الناشئ من هذا الارتفاع.

لهذه الأسباب، دعت اللجنة المالية في مجلس الشيوخ التي يقودها الجمهوريون جيمسون غرير للمثول أمامها والإجابة على أسئلة أعضائها. وفي مشهد غضب لافت في تلك الجلسة، وجه السيناتور الجمهوري ثُوم تيليز، عن ولاية نورث كارولينا، كلامه لغرير متسائلا: "عنق من سأخنق إذا ظهر أن هذه السياسة (التعريفات الجمركية) خاطئة؟".

أما السيناتور الجمهوري عن ولاية مونتانا، فأثار أمام غرير الأسئلة التي يتداولها بقلق الكثيرون، داخل الحزب الجمهوري وخارجه، "من سيدفع هذه التعريفات العالية؟ سيكون الزبون. أنا قلق من تأثير التضخم. أنا قلق إذا حصلت حرب تجارية، فإننا سننتهي بإغلاق الأسواق (الأجنبية) أمام المزارعين والمصنعين ورعاة الماشية الأميركيين".

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء توقيعه على أوامر التنفيذية في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 9 أبريل 2025

مع ذلك، لحد الآن يتجنب المشرعون الجمهوريون توجيه اللوم المباشر للرئيس ترمب، مع لومهم أحيانا لمستشاريه الذين نصحوه بهذه التعريفات، لكنهم يصرون، في الوقت نفسه، على إعطاء هذه السياسة بعض الوقت لاختبار فاعليتها بوصفها ليست هدفا بذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق الهدف المتمثل في رفع الميزان التجاري الأميركي مع دول العالم المختلفة.

من هنا تأتي الأهمية القصوى لإعادة التفاوض بخصوص اتفاقيات التجارة التي عقدتها أميركا مع تلك الدول. يعني هذا أن على تلك الدول أن توافق على إعادة التفاوض هذا، بدلا من اللجوء إلى فرض تعريفات عقابية مماثلة ردا على التعريفات الأميركية (كما فعل الاتحاد الأوروبي مثلا).

وإذا رفض عدد كبير من الدول إعادة التفاوض مع أميركا، فسيقود هذا إلى حرب تجارية مفتوحة وطويلة، أي الكابوس الأسوأ للجمهوريين ولإدارة ترمب نفسها. يدرك ترمب جيدا المخاطرة التي يخوضها بهذا الصدد، أي سياسة "حافة الهاوية" القائمة على دفع الأمور بإزاء الآخرين إلى أقرب نقطة للانهيار، على أمل أن يحاول الطرف الآخر تقديم التنازل المطلوب لمنع هذا الانهيار الذي يضره أيضا.

وفي لقائه مع مشرعين جمهوريين مؤخرا، حاول ترمب تبديد مخاوف الجمهوريين بهذا الصدد. في ضوء إبداء دول مثل كوريا الجنوبية واليابان وإيطاليا وإسرائيل، وربما أخرى غيرها مستقبلا، استعدادها لعقد صفقات تبادل تجاري جديدة مع أميركا، حاجج ترمب بأن "هذه البلدان تتصل وهي تظهر الإذعان. أنها متلهفة لعقد الصفقات". وأضاف الرجل بطريقته المعهودة القائمة على المبالغة أن الزعماء الأجانب يتصلون به ويقولون له: "رجاء، رجاء، سيدي، لنعقد صفقة. سأفعل أي شيء سيدي".

وبعد اتصالات كثيرة تلقاها أركان الإدارة من رؤساء شركات ورجال أعمال وصيارفة وممثلين سياسيين للتحذير من الآثار الكارثية المحتملة للمضى بعيدا في تبني سياسة التعريفات العقابية هذه، يفهم ترمب وأركان إدارته أنه لا بد من عقد هذه الصفقات التجارية الجديدة للحيلولة دون الدخول في حرب تجارية، وتجنب الأسوأ: كساد اقتصادي وتبخر الدعم السياسي والشعبي له.

لذلك يتغير خطاب إدارة ترمب تدريجيا بخصوص سياسة التعريفات من التهديد وإيقاع العقاب إلى التفاوض وعقد الصفقات الجديدة. لذلك لجأ ترمب موخرا جدا لتعليق التعريفات الإضافية 90 يوما لامتصاص الزخم السلبي الذي ولدته صدمة فرضها على الأسواق المالية مع استئنافها تاليا بشكل مختلف وربما تدريجي.

إذا رفضت عدد كبير من الدول اعادة التفاوض مع أميركا، فسيقود هذا إلى حرب تجارية مفتوحة وطويلة، أي الكابوس الأسوأ للجمهوريين ولادارة ترمب نفسها

إعادة الشركات إلى أميركا

أما الهدف الثالث لتبني سياسة التعريفات فهو إجبار الشركات الأميركية وغيرها على العودة إلى الولايات المتحدة، وبالتالي تشغيل الأميركيين الذين فقدوا أعمالهم جراء انتقال هذه الشركات، أو أجزاء منها، إلى دول أخرى كلفة الإنتاج فيها أرخص بكثير مما هي في أميركا. لهذا السبب، فرض ترمب مثلا تعريفات عالية على فيتنام (46 في المئة) وكمبوديا (49 في المئة)، إذ بدأت هذه الشركات في السنوات الأخيرة الانتقال من الصين إلى هذين البلدين، لاعتبارات مختلفة، الأهم بينها هو فرض إدارات أميركية متتابعة تعريفات جمركية عالية على الصين.

أ.ف.ب
بورصة نيويورك خلال التداول الصباحي، 10 أبريل

ويحاجج اقتصاديون بأن مثل هذا الأمر سيحدث في ظل التعريفات الأميركية العقابية العالية، لكنه سيستغرق سنوات لافتتاح وعمل خطوط إنتاج لصناعات معقدة تمثلها هذه الشركات كالسيارات والشاحنات. وسيمثل نجاح ترمب بهذا الصدد إيفاء لوعد انتخابي مهم لجزء كبير من جمهوره السياسي الشاب الذي فقد أعماله بسبب انتقال هذه الشركات من ولايات محافظة تصوت عادة جمهوريا إلى آسيا وأميركا اللاتينية منذ التسعينات فصعودا.

في هذه الأثناء، وإلى أن تتحقق هذه الوعود الاقتصادية والانتخابية التي يسعى إليها ترمب، سيكون على الرجل وإدارته القيام بالكثير كي لا تتجاوز الأشياء حدود الحافة وتنزلق نحو هاوية سريعة وكارثية تنهي مستقبل ترمب السياسي وحركته "أميركا أولا".

font change

مقالات ذات صلة