ارتفاع الروح وانخفاضها

اصبح الفلاسفة ضحايا غير متعمدين لمعتقداتهم الشخصية

ارتفاع الروح وانخفاضها

يبدو أن اسم "الفلسفة الأميركية المتعالية" (American Transcendentalism) غير معروف في الساحة الثقافية العربية. لكن المثقفين العرب يعرفون بلا شك رالف والدو إيمرسون وهنري ديفيد ثورو، وهما أساس هذه المدرسة الفكرية. إنها نوع من الممارسة التي يتم بموجبها استبدال عالم الأفكار ومقولات الخيال بعالم الواقع اليومي والقوالب الفكرية للفهم المشترك.

الهدف من هذا الاستبدال هو جعل الحياة أفضل من خلال رفعنا فوق الصراعات التي تثقل كاهل أرواحنا. وعندما تتلاشى هذه القيود، ترتفع الروح إلى تجارب أعلى، حيث الحرية والاتحاد مع الخير. ولذا صاروا قدوة لواين داير، ومنظّري تطوير الذات.

النظر إلى العالم من خلال (المقولات) القوالب الفكرية للحس المشترك، مثل الزمان والمكان والسببية يؤدي إلى حدود صارمة يمكن أن تتعسنا، إذ يبدو أن السببية تجعل بعض النتائج غير قابلة للتحاشي سواء أحببنا ذلك أم لا. ويفصلنا المكان عن الأشخاص الذين نحبهم والمواقع التي نفضل أن نكون فيها. وعندما يقوم الزمن بعمله، فسيجلب نهاية لكل الأشياء الجميلة ويحول الأحياء إلى أموات.

الخيال هو من يقدر على تحريرنا من هذه الحدود البغيضة. يمكننا أن نتخيل عالما، من حيث المساحة، ليس أكثر من مجرد فكرة، يمكّننا من الانتقال من مكان إلى آخر بحسب سرعة أفكارنا. ثمة نور صوفي يشكل بديلا للسببية، لأنه لا يولّد إلا ما هو حقيقي وجميل وصالح. حتى الزمن لا يمثل مشكلة للخيال، لأننا نستطيع بسهولة أن ننظر إلى كل الأشياء بعيون الأبديين. وكان إيمرسون واثقا بأن الفرد وليس الجماعة هو العامل الحاسم للتقدم الأخلاقي.

وقد ظهرت المشكلة عندما حاول المتعالون تأسيس ممارساتهم العفوية على نظرية ترسخ قيمهم في طبيعة الأشياء. وقال إيمرسون عدة مرات إن الطبيعة نفسها هي النموذج الأسمى والأساس النهائي للأخلاق، لأنها مظهر من مظاهر القوانين الأخلاقية الخالدة. كل الشر "تعليم"، يوجهنا إلى عالم أفضل. لا شك أنه تبنى هذا الرأي بكل صدق، ولكن آثار الشرور التي حلّت به خلقت اضطرابا في روحه. فلم يستطع أن ينكر حقيقة أن بعض الشرور بلا قيمة تربوية. لم يكن من الممكن أن ينظر إلى موت ابنه البالغ من العمر خمس سنوات باعتباره تعليما لتحسين الحياة. ولم يكن من السهل عليه أن يرى في الحريق الذي التهم منزله درسا عن العالم الأجمل.

كان المتعالون ينجذبون إلى جمال الأفكار، لكنهم كانوا يعلمون أن عليهم أن يشقوا طريقهم في عالم يتضمن أيضا حقائق مزعجة

نظرة المتعالين للعالم باعتباره أخلاقيا بطبيعته، مثل المثالية التي حاولوا تطويرها، خلقت لديهم صدعا مؤلما بين النظرية والأحداث والأفعال والعواطف الأسيفة التي ملأت حياتهم. وهكذا صارت مواقفهم فيما يتعلق بالأخلاق أكثر واقعية من مواقفهم فيما يتصل بالميتافيزيقا. 
ثمة فائدة من هذه المدرسة، ألا وهي دروس التأمل في الجمال. رد إيمرسون على نظرية أفلاطون القائلة إن الجمال والحقيقة والخير واحد، بقوله إن الجمال هو الأفضل في الثلاثة. في بعض الأحيان يجد الكبار أنفسهم وكأنهم أطفال مرة أخرى في حضرة الجمال. الجمال أبدي، لأن مجرد نظرة خاطفة إليه كانت كافية لجعلهم يتخلون عن كل شيء ويستوعبون ببساطة ما سمعوه أو رأوه دون دوافع أو نوايا. 
ربما كان التأمل في الجمال هو الممارسة التي جاءت بشكل طبيعي إلى المتعالين. لقد كانوا مستعدين، مثل سقراط، للجمال الذي يمنحهم الأجنحة التي يستطيعون من خلالها الصعود إلى السماء ورؤية الحقائق بعيون إلهية. الواقع، بكل ما يحمله من حدود قاسية، سرعان ما يتحول إلى صور أو أفكار تحت تأثير الجمال الإلهي. لقد كانت التأملات التي خلقتها هذه التجربة مرضية للغاية، ولكنها كانت خادعة أيضا. هل ذابت الحقائق فعلا أم إنها كانت تبدو وكأنها ذابت فقط؟
حاول إيمرسون توسيع نطاق تأثير الجمال إلى ما هو أبعد من مجرد ابتهاج لحظي. وقد توصل إلى نتيجة مفادها أن كل شيء جميل من خلال القول بأن الجمال ينبع من غرض. الطبيعة عبارة عن نظام واحد شامل تحكمه قوانين أخلاقية ثابتة. وفي مثل هذا النظام، كل شيء له غرض فيما يتعلق بالكل، ويُقدَم بشكل جميل من خلال هذه العلاقة. 
هذه الفكرة تضعف عند تطبيقها على الأشياء أو الأحداث التي تكون أغراضها شريرة، وتفشل تماما في حالة الوقائع غير ذات الغرض. فأسلحة الدمار الشامل لا تكون جميلة في ضوء غرضها، وقد تحدث الزلازل التي تضرب المدن من أجل الحفاظ على التوازن البنيوي للكوكب، ولكن هذا لا يضيف إليها الكثير من الجمال. لكن جمال ذلك العالم الخيالي كان ساحرا لدرجة أن أعماهم عن كل الحقائق الخارجية، وقد ذهب إيمرسون إلى حد القول بأن هناك جمالا معينا في الجثة. 
كان المتعالون ينجذبون إلى جمال الأفكار، لكنهم كانوا يعلمون أن عليهم أن يشقوا طريقهم في عالم يتضمن أيضا حقائق مزعجة. محاولة إيمرسون لإثبات أن كل الأشياء جميلة جعلت القبح أكثر قبحا وحزنا. وعندما تتسلل حقيقة عادية أو غريبة إلى عالم أفكاره الجميل، فإنه يكرهها أكثر فأكثر لأنه لا يستطيع فهم هذا التطفل.

كان المتعالون معلقين بين الخيال والفهم المشترك. ولو كانوا تجريبيين أو ماديين متسقين، لربما تأسست نظرياتهم بشكل آمن على الوقائع

يبدأ معظم الفلاسفة بالنظريات، باحثين عن طرق لممارسة ما يبشرون به، بينما عكس المتعالون الأمر فبدأوا بالممارسات ثم حاولوا تأسيسها على أسس فكرية متينة. ولكن كل هذه الممارسات تضمنت رفض حقائق معينة لصالح أفكار قادتها دائما إلى نظريات متضاربة وغامضة. إن صدقهم لا يسمح لهم بقبول كل الحقائق، لذا فإنهم سيعملون على إعادة تشكيل نظريات الحقائق المستعصية لتناسب نظرياتهم، أو توسيع نسيج آرائهم لتغطية الحقائق المخالفة. لقد أصبحوا ضحايا غير متعمدين لمعتقداتهم الشخصية، فوجدوا أنفسهم يكرهون الحقائق التي لا تتناسب مع قوالبهم الفكرية، ويشعرون بالإحباط من النظريات التي كانوا يعرفون أنها فشلت في امتلاك الحقائق، وكانت الضحية الأخيرة هي الفلسفة المتعالية نفسها، فقد تجاهل النقاد، الذين كانوا حريصين على استخدام سيف النقد، كل الممارسات التي تعمل على تعزيز الحياة في جوهر الفلسفة المتعالية، وركزوا جهودهم على الشقوق في بنائهم النظري، وهي كثيرة. 
كان المتعالون معلقين بين الخيال والفهم المشترك. ولو كانوا تجريبيين أو ماديين متسقين، لربما تأسست نظرياتهم بشكل آمن على الوقائع. ولو كانوا مثاليين أو عقلانيين كاملين، لربما ركزت نظرياتهم على العلاقات المنطقية. في الواقع، لم يكونوا من المنظرين المتسقين. الأكثر قيمة في إرثهم ليس نظريا، بل هي الممارسات التي تمكنوا من خلالها، على الأقل في بعض الأحيان، من إعادة تشكيل العالم على صورة ما أحبوه.

font change