حياة الأفلام وموتها داخل "الاستديو"

السينما والواقع وجهان لعملة واحدة

Apple TV+
Apple TV+
مشهد من المسلسل

حياة الأفلام وموتها داخل "الاستديو"

قبل ثلاثة أعوام، أصدر المخرج الهوليوودي ستيفن سبيلبرغ فيلمه الذي يسرد علاقته بالسينما، "آل فابلمن"، مسجلا لحظات الاكتشاف الأولى منذ أن انطلق قطار الأخوين لوميير على شاشة ضخمة، مثيرا الفزع بين المتفرجين، مرورا بقطاره الشخصي هدية والده في عيد الميلاد وبوابة عبوره من أحلام البدايات كأي عاشق للسينما، إلى مرحلة الاحتراف ومعترك الصناعة.

تعامل الفيلم مع الفن السينمائي من منظور حيادي، يحتفي بكل ما هو مقدس ولا يخجل من التعرية والفضح في كثير من الأحيان، ذلك العالم التطهري الذي يروق لعدد كبير من محبي السينما، بدليل نجاح أفلام مثل "سينما باراديزو" للإيطالي جيوزبي تورناتوري، أو "بحب السيما" لأسامة فوزي، دون أن ننسى ثلاثية يوسف شاهين الشهيرة.

ويبدو أن الولع بهذه العوالم أصاب بعدواه الفنان المتعدد المواهب سيث روغن، الذي كان ضمن فريق إنتاج فيلم سبيلبرغ، حين واتته فكرة مسلسل يخترق العالم الخفي لهوليوود، منطلقا من الفضاء السحري لمفارخ الأفلام، أي الأستديوهات، وفق ما أدلى به أخيرا في لقاء مع صحيفة "هوليوود ريبورتر" حول المسلسل الأميركي "الأستوديو"، من تأليفه وإخراجه، بالمشاركة مع صانع الأفلام الكندي إيفان غولدبرغ، كما يقوم روغن بدور البطولة الى جانب مجموعة كبيرة من نجوم هوليوود كضيوف شرف.

وسرعان ما أصبح المسلسل الذي يعرض حاليا على منصة "أبل"، أحد أنجح إنتاجات عام 2025، لا بوصفه دراما عن صناعة السينما فحسب بل عملا يناقش فلسفة حياة الأفلام وموتها ويقتحم المطبخ السري لهوليوود حيث تُطهى الأكاذيب والحقائق على حد سواء ويُعاد تدوير السحر بوصفه سلعة، وربما تُعاد كتابة التاريخ داخل غرف تضاء بالكشافات الصناعية بالاعتيادية نفسها التي تستمد بها ضوء النهار.

يقتحم "الاستوديو" المطبخ السري لهوليوود حيث تُطهى الأكاذيب والحقائق على حد سواء ويُعاد تدوير السحر بوصفه سلعة

يتتبع المسلسل كواليس الصناعة، الشيطانية والملائكية على حد سواء، لذلك لم يكن من الغريب أن يقوم روغن في مراحل التحضير بزيارة ميدانية لعدد كبير من مديري الأستوديوهات في مكاتبهم. أثناء ذلك، لم تفته معايشة الواقع عن قرب، واختبار الفكرة لديهم، ويبدو أنه نجح في الأمرين، حيث حظي العمل بزخم جماهيري ونقدي، وربما يكون بهذا حجز لنفسه نصيبا من جوائز "آيمي" في دورتها المقبلة، نهاية العام الجاري.

Apple TV+
سيث روغن في مسلسل "الاستديو"

بين الإحلال والتجديد

يسخر المسلسل في ظاهره من النموذج الهوليوودي العتيق ومن القوانين الغابرة التي شكلت، ولا تزال، عوالم الأستوديوهات على مدار عقود، كما ينتقد حالة التراجع التي تشهدها الصناعة حاليا بتحولها نحو الأعمال التجارية على حساب المعايير الفنية، وفي الوقت ذاته لا يفوت السيناريو الاحتفاء بتلك التجربة الفريدة من عمر السينما، الكلاسيكية منها على وجه الخصوص، التي شكلت بدورها أحلام وآمال ملايين المشاهدين ومحبي السينما حول العالم، وعبر مختلف الأجيال. علاوة على ذلك، يدعو العمل إلى البحث عن أسباب حب أو كره فيلم دون آخر. ويظهر ذلك منذ الحلقة الأولى التي نتابع فيها ترقي مات ريميك ليصبح الرئيس الجديد لأستديوهات "كونتيننتال" المتعثرة، على أثر ذلك ينطلق وفريقه في مواجهة التحديات من داخل الصناعة وخارجها، وفي مقدمتها تأتي أزمتهم الرئيسة في تحقيق التوازن بين الطموحات الفنية والضغوط التجارية.

كان على مدير الأستوديو الجديد تقديم فروض الولاء والطاعة لتوجهات قوى رأس المال، منطلقا من رغبة المالك في إنتاج فيلم تجاري عن مشروب شعبي يمثل الفئات الكبرى في المجتمع ويحمل اسم "كولايد". فكر ريميك للحظات، وسرعان ما أثنى على فكرة المدير، مؤكدا أهميتها الفنية والإنسانية، خصوصا أن ابنة المدير تعشق هذا الشراب رغم سمعته السيئة. ومن باب تأكيد حسن النية، يتواصل مات ريميك مع المخرج مارتن سكورسيزي كونه واحدا من أكبر المعمرين في هوليوود وأهمهم عند كثيرين، للاستعانة به في إخراج العمل. المفارقة أن سكورسيزي كان انتهى لتوه من سيناريو فيلم يتخذ من "الكولايد" منطلقا لدراما ترصد إحدى حالات التطهير العرقي، علاوة على أنه لا يمانع في أن يتخذ الفيلم من المشروب الشهير عنوانا له، وهنا تتولد السخرية من المفارقة بين ما يقصده سكورسيزي وبين السياسة الإنتاجية، في إشارة تبلور عبثية معايير الصناعة اليوم.   

كذلك نجح المسلسل في استثمار التاريخ الطويل لعدد من رموز هوليوود ومنهم سكورسيزي الذي يفاجئنا بالبكاء في أحد المشاهد، حزنا على مشروع سيناريو فيلمه الذي اشتراه مات وجمده لصالح مشروع فيلمهم التجاري. الطريف أن سكوسيزي في مشهد سابق، يطلب منه استعادة السيناريو ليتمكن من بيعه لمنصة "أبل"، الشركة المنتجة للعمل، وتتفاقم الأزمة حين يتبين لنا أن ذلك الفيلم كان بمثابة مباراة الوداع لسكورسيزي بعد أن قرر التقاعد.

نجح المسلسل في استثمار التاريخ الطويل لعدد من رموز هوليوود ومنهم سكورسيزي الذي يفاجئنا بالبكاء في أحد المشاهد، حزنا على مشروع سيناريو فيلمه

كان لظهور سكورسيزي حضور مميز في مشاهده القليلة، لعله كان دافعا لغيره مثل المخرج الأميركي رون هوارد، ضيف الحلقة الثالثة، الذي أبدى إعجابه بتجربة الظهور أمام الشاشة على الرغم من أنها ليست المرة الأولى له في التمثيل.

Apple TV+
مارتن سكورسيزي

ويوازن الإخراج بين الكوميديا الساخرة ولمسة خفيفة من الدراما، كما يظهر في العلاقة مع شخصية المديرة السابقة للأستوديو وتجسد شخصيتها الممثلة كاثرين أوهارا، بطلة الفيلم الشهير "وحيدا في المنزل" (1990). فأمام التحديات التي يواجهها مات، لا يجد بدا من الاستعانة بها للاستفادة من علاقاتها المتشعبة مع أرباب الصناعة. هنا يتجلى تشابه المسلسل واختلافه أيضا مع أعمال حظيت هي الأخرى بانتشار واسع مثل "اتصل بوكيل أعمالي".

 لم يكن حضور هؤلاء النجوم أو استدعاء العديد من أسماء الأفلام وصناع السينما مقتصرا على الفكاهة أو لكسر الإيهام –الحائط الرابع- بل ساهم في تفكيك الصورة البراقة لأساطير الصناعة، كأنما السينما تحاكم نفسها وتنتقد المنظومة التي تستهلك ذاتها في صراع دائم بين الأجيال، فهل لا يزال في وسعها صنع الأحلام؟ 

Apple TV+
مشهد من المسلسل

هوليوود في غرفة المونتاج

في المقابل، لا يعتمد سيناريو العمل على تصاعد درامي تقليدي أو حبكة مركزية واضحة، بقدر ما يتكئ على تتبع رحلة السعي المتكرر لشخصياته داخل فضاء الأستوديو المشترك بوصفه مسرحا عاما للأحداث، يتحول هذا الحيز المكاني إلى بطل خفي يتفاعل معه الجميع عن غير قصد، سواء داخل الأفلام الجاري تصويرها أو في الكواليس، في حين تأتي كل حلقة بعنوان منفصل لا يسرد حدثا بقدر ما يُجسد حالة تشبه في تقلبها المراحل المختلفة لصناعة أي فيلم في الواقع، بما فيها من أزمات ومفاجآت تتوالى على نحو غير متوقع كثيرا ما ينتج عنها سرديات متعددة عن المشروع الواحد، كانت مادة هي الأخرى لصناعة عمل جديد في العديد من الحالات، ربما من أحدثها فيلم "الموجة الجديدة" للمخرج الأميركي ريتشارد لينكليتر المقرر عرضه لأول مرة في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، ويتناول وقائع صناعة الفيلم الفرنسي "لاهث"(1960) والذي يعد واحدا من أشهر أفلام رائد الموجة جان لوك جودار.     

لا يعتمد سيناريو العمل على تصاعد درامي تقليدي أو حبكة مركزية واضحة، بقدر ما يتكئ على تتبع رحلة السعي المتكرر لشخصياته داخل فضاء الأستوديو المشترك بوصفه مسرحا عاما للأحداث

على ذكر جودار، يراهن المسلسل على مُشاهد من نوع خاص بوسعه ملاحقة الإيقاع اللاهث المسيطر على الشخصيات والأحداث على حد سواء، وكذلك البناء المتشظي الذي يراوح بين الحاضر والماضي فيختلط الحلم والواقع، والحقيقي بالمتخيل في بعض الأحيان. إلا أن ثمة عينا مراقبة لا تغيب عن المشهد تنقل الحدث وتسجله من زوايا متلصصة غير محايدة، وغير مريحة أحيانا، حيث توظف الكاميرا اضطرابها المقصود، خصوصا في مشاهد الأماكن المغلقة مثل المكاتب أو غرف الاجتماعات، والحركة التبادلية للكاميرا، في لقطة قد تعزل الشخصية عن محيطها، مما يعكس حالة العزلة التي يشعر بها البطل، حتى وهو داخل منظومة يفترض أنها تكرس التعاون، وهو ما يخلق تعاطفا معه رغم أننا لا نتيقن إن كان صانعا حقيقيا للأفلام، أم مجرد بقايا حلم رومانسي، مما يزيد غموض الخط الفاصل بين الحقيقة والفانتازيا.

Apple TV+
مشهد من المسلسل

في حلقة أخرى، يخبرنا الاستهلال بأزمة مات الحقيقية أثناء متابعته دوران شريط فيلم خام داخل حجرة المونتاج، حيث يتساءل بإعجاب طفولي أمام معاونه "أليست شرائط الأفلام سحرية؟"، مستعيدا بذلك وهج الأيام الخوالي، حين كانت مشاهدة أمتار "السيلولويد" مصدرا للبهجة، بما تحمله من تفاصيل متناثرة داخل كل لقطة تجمع بين الحركة والسكون لبث الحياة عبر الشاشة. في زمن بات فيه المخرجون ينفرون من الأفلام الخام ويستبدلونها بالرقمي، يجد مات نفسه كمن يقف على حافة الانقراض، خصوصا بعدما أصبح المسؤول الوحيد عن "إبقاء شرائط الأفلام على قيد الحياة". الأمر الذي يعلنه بجدية تشبه قسم الفارس النبيل في "دون كيخوته"، يغامر بفعل ذلك وإن كان بمرآة مكسورة تعكس السخرية والخذلان معا. وهنا لا يحتفي المسلسل بالماضي كمجرد حالة من النوستالجيا فحسب، بل يضعه في مواجهة حادة مع الحاضر تطرح التساؤل حول ما إذا كنا مقدمين على عصر ما بعد السينما.

Apple TV+
مشهد من المسلسل

حياة الأفلام وموتها

اعتمدت الفلسفات الأولى في التنظير السينمائي على تأويل الوسيط المحسوس المتمثل في المادة الخام للفيلم "السيلولويد"، والذي ارتبط لسنوات طويلة بآلة "الموفيولا" التي تتم من طريقها مرحلة المونتاج وفق التفسير البدائي لمنهج تولد ظاهرة الحركة، من خلال توالي صورتين ساكنتين لجسم متحرك، وهو ما خلق حالة من حرمان صناع السينما آنذاك من المتابعة الفعلية لحركة الشريط السينمائي. الأمر الذي تغير تدريجيا رغم بقاء الآلة نفسها التي تتعامل مع الشريط بحسابات الأمتار. حتى بدأ الرواد الأوائل في وضع قوانين جديدة للغة السينمائية وذلك للتحرر من قيود قوانين المسرح التي لم تجد السينما في بدايتها بديلا منها.

لا يزال هاجس فكرة موت السينما بمفهومها الأصيل يلاحق صناعها ومحبيها، حتى وإن كان في صورة تحول جوهري في الهوية السينمائية

ويأتي مفهوم الإخراج والمونتاج في مقدمة هذه اللغة الجديدة، حيث تولد الأول من تحريك الكاميرا التي كانت عادة ما تأخذ وضعا ثابتا في منتصف الشاشة، يتوالى من أمامه الممثلون، فيما نتج الثاني من طريق تحرير اللقطات وترتيبها في سياق درامي مقصود. وهنا نلاحظ تميز الفن السابع عن بقية الفنون بأقصى درجات المرونة، فهو "الفن الأكثر تقلبا بين الفنون كافة"، كما يصفه الرائد الروسي سيرغي آيزنشتاين في كتابه "الشكل الفيلمي".

Apple TV+
مشهد من المسلسل

في العودة إلى المسلسل، نكتشف أن "الأستوديو" يغازل هذه الإشكالية ضمن سياقه الدرامي بطرح محايد، يكتفي بالرصد دون إصدار أحكام، متتبعا في ذلك رحلة الوسيط السينمائي (الفيلم) منذ ظهور السينما حتى العصر الرقمي المتعدد الأبعاد، حيث نجحت التكنولوجيا بالفعل في تغيير طريقة صناعة الأفلام، إلا أنها كما يقول مدير التصوير الأميركي روبرت مالاكلان: "لا تصنع فنا وإنما الفنان هو الذي يصنع الفن، ربما يستخدمونها ليجعلوه أسهل أو أسرع أو مختلفا، أو جديدا". رغم ذلك، لا يزال هاجس فكرة موت السينما بمفهومها الأصيل يلاحق صناعها ومحبيها، حتى وإن كان في صورة تحول جوهري في الهوية السينمائية، فقد تنبهر من مؤثرات فيلم بتقنيات عرض ثلاثي أو رباعي الأبعاد، وتعجب بحالة التجسيم الرهيبة، حيث تنعشك فكرة رذاذ الماء المتطاير الذي تكاد تشعر به وأنت جالس على كرسيك المتحرك، بل وتخشى أن يبلل ملابسك، لكنك في النهاية قد تتساءل لوهلة: أين السينما في فيلم كهذا؟

اذا كانت المادة الخام للفيلم تمثل في مدلولها الرمزي فكرة الحفاظ على أصالة السينما، أو طهرها قبل أن تتلوث بالتقنيات كما يرى الحالمون، فمن المؤكد أن الفن السينمائي الآن يخوض مرحلة هي الأخطر في تاريخه، فلم يعد السحر مقتصرا على التجسيم فحسب، خصوصا مع التغول المتنامي للذكاء الصناعي وما يحمله من استنساخ لنجوم راحلين بدأت إرهاصاته تظهر في العديد من الأعمال الفنية عربيا وعالميا، مع توقيع عقود بالفعل لاستغلال حقوق ملكية تخص مشاهير من هوليوود، ووروا الثرى منذ زمن بعيد، بينما لا تزال أسماؤهم تبرم العقود.

font change

مقالات ذات صلة