تونس "دولتشي فيتا" المتقاعدين الإيطاليين

"هروب الأجداد" من إيطاليا تقابله "هجرة الشباب" التونسي بقوارب الموت في مفارقة لافتة

Shutterstock
Shutterstock
سيدي بوسعيد هي مدينة تقع في شمال تونس، على بُعد نحو 20 كيلومترًا من العاصمة.

تونس "دولتشي فيتا" المتقاعدين الإيطاليين

أثارت جموع الإيطاليين الغفيرة المشاركة في ذكرى رحيل رئيس الوزراء الإيطالي بيتينو كراكسي المدفون في مدينة الحمامات شمال شرق تونس الانتباه منذ مدة. فهذه الأعداد الكبيرة غير المألوفة لأجانب في أي من المناطق التونسية تعكس، بحسب تفسير مسؤولين إيطاليين، ارتفاع نسبة المتقاعدين ممن اختاروا تونس لقضاء شيخوخة مريحة وهانئة. ويتوقع استمرار "طفرة" إقبال "الأجداد" الإيطاليين على الوجهة التونسية لأسباب عدة أبرزها نظامها الضريبي التفاضلي الذي يجعل البلاد أقرب إلى ملاذ أو جنة ضريبية.

فقد أصبحت تونس، التي يتركز الاهتمام الأوروبي عليها عادة في ملف الهجرة غير النظامية، توصف بـ"الظاهرة " و"الاستثناء"، سواء في تقارير ومذكرات رسمية أو تلك الصادرة عن مراكز بحوث أو في وسائل الإعلام. ومرد هذين التوصيفين أولا، الارتفاع الكبير في أعداد المتقاعدين الإيطاليين المقيمين فيها، الذي ارتفع بنسبة 113,5 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة وفقا لمذكرة للمعهد الإيطالي للتقاعد والضمان الاجتماعي. وثانيا، باعتبار أن هذا الارتفاع تزامن مع تراجع ملحوظ لمختلف الوجهات الأخرى على غرار إسبانيا والبرتغال.

هيا الى تونس

كما قفزت الوجهة التونسية، وفقا للمذكرة نفسها، إلى المركز الثاني في قائمة تضم 165 دولة في مختلف قارات العالم يُصرف عبر مصارفها أكثر من 1,5 مليار يورو سنويا تحت عنوان رواتب تقاعد لما يفوق 350 ألف متقاعد إيطالي اختاروا الاقامة بعيدا عن دولهم، في ما بات يعرف في إيطاليا بعملية "هروب الأجداد" التي تحسب بمعدل متقاعد يوميا وفق آخر الاحصاءات الرسمية.

تعتبر الضريبة ركيزة قرار "الهروب" من إيطاليا، كما أنها تعد في الوقت نفسه، أهم مؤشر جاذب عند اختيار بلد "المستقر" الجديد كملاذ

فتحت هذه الظاهرة الباب لتشكّل سوق تديره "مؤسسات تجارية" ضخمة، كما أشار إليها المعهد الإيطالي للتأمينات الاجتماعية، الذي أكد في تقرير حديث أنه تم توظيف هذه الشبكات التجارية التي تضم وكالات سفر تعمل على مختلف المستويات الوطنية (الداخلية) منها والدولية بهدف حث المتقاعدين على الهجرة. وأبرز التقرير أن ذلك يتم من خلال الترويج للميزات الاقتصادية والاجتماعية للاستقرار ونقل راتب التقاعد إلى وجهات خارج إيطاليا.

البحث عن ملاذ ضريبي تونسي

يتوزع المتقاعدون الإيطاليون الذين قرروا مغادرة بلادهم بين أكثر من 160 وجهة، لكن الانتشار الأهم عدديا يتمركز بين جزر البحر الأبيض المتوسط والمدن الأوروبية الكبرى. وتمثل هذه الفئة نحو 2,5 في المئة من مجموع المتقاعدين (17 مليونا). وتحظى هذه الظاهرة في إيطاليا باهتمام متزايد سياسي واجتماعي وأكاديمي وإعلامي، على الرغم من بروزها في سياق تشعبات عدة يعرفها ملف الهجرة غير النظامية الذي يمثل أحد أكثر الملفات حساسية على الاطلاق خلال السنوات الأخيرة.

رويترز
سياح يتبضعون في أسواق مدينة تونس القديمة، 13 يونيو 2023

لذلك تتعدد زوايا النقاش حول هذه الظاهرة، منها الاجتماعي والثفافي والأخلاقي، وهذا مفهوم باعتبار أن الفئة المعنية هم كبار السن. كما تناقش الظاهرة التي تسمى تارة بـ"سياحة المتقاعدين" وتارة أخرى بـ"هروب الأجداد"، من منظور اقتصادي أيضا. فقد نبهت دراسة نشرتها "الصحيفة الديبلوماسية" الإيطالية من آثار اقتصادية واجتماعية "بالغة الأهمية" أكدت أنه قد ينتج منها ارتفاع أعداد المغادرين.

خسارة اقتصادية لإيطاليا

تعتبر الدراسة أن دفع راتب التقاعد في الخارج يمثل خسارة اقتصادية لإيطاليا، مستندة في ذلك إلى أن المبلغ المدفوع لا يعود في شكل استهلاك او استثمارات في إيطاليا، بما سيؤدي إلى انخفاض حجم الضرائب باعتبار أن المتقاعدين يدفعون الضرائب في البلد الجديد الذين قرروا الاستقرار فيه.

وتمثل الضريبة ركيزة قرار "الهروب" من إيطاليا، كما أنها تعد في الوقت نفسه، أهم مؤشر جاذب أو محدد عند اختيار بلد "المستقر" الجديد. يعني ببساطة، الهجرة هي عملية هروب من نظام التقاعد الإيطالي "المتوحش" بحثا عن نظام أكثر مرونة أو ملاذ ضريبي.

خلال العامين الأخيرين، سجلت تونس استقرار 2000 متقاعد إيطالي، وبحسب أرقام المعهد الوطني للتقاعد الإيطالي لعام 2023، استقبلت إسبانيا 536 متقاعدا إيطاليا في مقابل استقرار 268 في تونس و114 في رومانيا و114 في البرتغال

لفهم ذلك، من المهم التذكير بأن الدولة الإيطالية تفرض ضريبة بنسبة 23 في المئة على راتب التقاعد الذي يقل عن 15 ألف يورو سنويا، أي ضريبة بـ3450 يورو، فيما تُفرض ضريبة بنسبة 25 في المئة لمن راتبهم بين 15 و28 ألف يورو سنويا و35 في المئة للفئة بين 28 و50 ألف يورو. وتصل الضريبة إلى 43 في المئة لمن يتجاوز راتبه 50 ألف يورو سنويا.

حسابيا، تقتطع الدولة مثلا نحو 300 يورو شهريا لمن له راتب تقاعد بـ1000 يورو، وهو راتب متواضع للغاية لا يكاد يغطي متطلبات العيش الدنيا.

ولخصت صحيفة "السولو 24 أوري" في مقال حول "هروب المتقاعدين الإيطاليين" سبب الهجرة الجديدة باكتشاف العديد من المتقاعدين إمكان ارتفاع رواتبهم من خلال عدم دفع الضرائب في إيطاليا. وتقول إن ذلك وراء التدفقات المهمة للمتقاعدين نحو وجهات ذات نظام ضريبي أكثر ملاءمة على غرار البرتغال وإسبانيا وبلغاريا وكرواتيا وألبانيا وتونس.

وداعا البرتغال... تونس الجنة الجديدة

فخلال العامين الأخيرين، سجلت تونس مثلا استقرار 2000 متقاعد إيطالي، وبحسب أرقام المعهد الوطني للتقاعد الإيطالي لعام 2023، استقبلت إسبانيا 536 متقاعدا إيطاليا في مقابل استقرار 268 في تونس و114 في رومانيا و114 في البرتغال و100 في ألبانيا.

يمكن القول، واستنادا الى الأرقام الرسمية، إنه تم تسجيل "طفرة" في أعداد المتقاعدين الإيطاليين القادمين الى تونس، ونجد عناوين في صحف إيطالية تشير إلى هذه الطفرة وتربطها مثلا بالتراجع الكبير المسجل في البرتغال.

أقرت السلطات التونسية منذ عام 2006 نظام إعفاء ضريبيا على 80 في المئة من رواتب التقاعد التي يتلقاها المتقاعدون الأجانب المقيمون في تونس القادمون من دولة لها اتفاقية منع الازدواج الضريبي كحال إيطالي

فبحسب صحيفة "نون سولو كونتر" الإيطالية، وفي مقال تحت عنوان "وداعا البرتغال.. تونس الجنة الجديدة للمتقاعدين الإيطاليين الهاربين من ارتفاع تكاليف المعيشة"، حوّل المتقاعدون الايطاليون اهتمامهم من البرتغال إلى تونس التي أصبحت تعتبر ملاذا ضريبيا واعدا. وذكرت الصحيفة أن "تونس هي الدولة المغاربية الوحيدة التي سجلت نموا قويا في استقطاب المتقاعدين الإيطاليين خلال السنوات الأخيرة". وأكدت استقرار 2000 متقاعد في تونس خلال العامين المنصرمين.

تونس "الوجهة الشعبية الأولى"؟

تشير الاحصاءات الأخيرة عن "هجرة المتقاعدين الإيطاليين" إلى تسجيل تراجع في أعداد المغادرين نحو مختلف الوجهات التقليدية باستثناء تونس وألبانيا. واستفادت الوجهة التونسية من ثلاثة عوامل رئيسة مكنتها من التحول إلى ما يسمى اليوم بـ"الوجهة الشعبية الأولى" و"الظاهرة" و"الاستثناء".

تتلخص هذه العوامل الثلاثة في أولا، قرار البرتغال إنهاء العمل انطلاقا من سنة 2024 بسياسات إعفاء المتقاعدين الأجانب من دفع الضريبة على الدخل التي اعتمدت منذ عام 2009 ثم صارت تعتبر في ما بعد "ظلما ماليا"، وذلك فرض على السلطات البرتغالية وقف اعتمادها إثر ضغط شعبي مرده تأثير الامتيازات الضريبية الممنوحة للمقيمين الأجانب في ارتفاع أسعار العقارات وأيضا بعد شكاوى رفعها عدد من دول الاتحاد الأوروبي، علما أن حجم الدخل الذي لم يخضع للضريبة بلغ 1,5 مليار يورو عام 2022، بحسب بيانات حكومية برتغالية.

Shutterstock
منطقة سوسة السياحية في تونس، 26 يونيو 2016

ثانيا، الاستفادة من تشدد اتفاقية التعاون الاقتصادي والتنمية الإيطالية مع فئة المتقاعدين الإيطاليين من القطاع العام من خلال حرمانهم من نقل راتب تقاعدهم إلى الخارج مع التمتع بإجراء منع الازدواج الضريبي. تمنح الاتفاقية استثناءين اثنين، لمن لهم جنسية في بلد الإقامة الجديد أو ان كانت الوجهة الجديدة لإقامة المتقاعد الإيطالي هي دول أوستراليا أو تشيلي أو تونس أو السنغال.

ونقلت صحيفة "أورينو" الإيطالية اليومية عن سارة مارتورانا من وكالة "توك توك تونس" أن الوكالة تتلقى العديد من طلبات المتقاعدين لتحويل إقامتهم إلى تونس، مؤكدة أن معظمها من متقاعدين من جهاز الشرطة الإيطالية. طبعا، اختيار الوجهة تونس مفهوم باعتبارها واحدة من الوجهات القليلة التي تسمح لمن اختارها بحسب القانون الإيطالي، إمكان التمتع باجراء عدم الازدواج الضريبي.

القرب الجغرافي وعدم الازدواج الضريبي

بلا شك، يمنح القرب الجغرافي الأسبقية لتونس عند الاختيار بين الوجهات الثلاث الأخرى أي تشيلي وأوستراليا والسنغال، إذ لا تتجاوز رحلة الطائرة من روما مثلا إلى تونس ساعة و15 دقيقة.

ثالثا، الامتيازات الضريبية والتكلفة المعيشية المنخفضة. فقد أقرت السلطات التونسية منذ عام 2006 نظام إعفاء ضريبيا على 80 في المئة من رواتب التقاعد التي يتلقاها المتقاعدون الأجانب المقيمون في تونس القادمون من دولة لها اتفاقية منع الازدواج الضريبي كحال إيطاليا.

في منطقة الحمامات، يوجد اليوم 6000 مقيم إيطالي و1500 آخرين يتوزعون بين مدن ساحلية على غرار سوسة والمنستير والمهدية، اختاروا جمال البحر والشمس والطعام القريب من المطبخ الإيطالي 

هذا النظام الذي تم اعتماده لتعزيز مخزون اقتصاد تونس من العملات الأجنبية، يفرض ضريبة بنسبة 5 في المئة على 20 في المئة فقط من راتب التقاعد الإجمالي. فعلى سبيل المثل، بالنسبة لراتب تقاعد سنوي بـ20 ألف يورو، يحتسب 20 في المئة فقط من الراتب الإجمالي، أي 4000 يورو، وتوظف على هذا المبلغ ضريبة بـ5 في المئة، بما يعني أن مقدار الضريبة الصافية الذي يجب سداده سنويا لا يتجاوز 558 يورو، أي تقريبا عشر الضريبة (5000 يورو) الواجب دفعها لو كان راتب التقاعد خاضعا للنظام الضريبي الإيطالي الذي يفرض ضريبة بـ25 في المئة على رواتب التقاعد بين 15 ألف يورو و28 ألف يورو.  

تكلفة المعيشة أقل في تونس

يضاف الى ذلك، تراجع تكلفة المعيشة في تونس مقارنة بإيطاليا إلى الامتيازات الضريبية التي تصل إلى الثلث بحسب دراسات إيطالية. ونقلت صحيفة "كورييري" الإيطالية عن جيوفاني سيماروسا، وهو متقاعد إيطالي مقيم مند سنتين بالحمامات، تأكيده أنه "يعيش بشكل جيد للغاية في تونس". وأضاف "راتبي التقاعدي يبلغ 1350 يورو، لدي منزل يطل على البحر ويحتوي على غرفتي نوم وحديقة وهذا يكلفني 450 يورو شهريا وأدفع 10 يورو في المطعم لو أردت تناول الطعام خارج المنزل".

.أ.ف.ب
سياح في جزيرة جربة التونسية، جنوب البحر الأبيض المتوسط، 25 مايو 2024

في منطقة الحمامات، وهي إحدى أهم المناطق السياحية في تونس، يوجد اليوم 6000 مقيم إيطالي و1500 آخرين يتوزعون بين مدن ساحلية على غرار سوسة والمنستير والمهدية، اختاروا جمال البحر والشمس والطعام اللذيذ القريب من المطبخ الإيطالي على غرار "السباغيتي" و"البيتزا" باسعارها المعقولة جدا. وهناك شهادات يقدمها المقيمون في تونس عن جودة الحياة في عدة مناطق يتناقلها المتقاعدون الإيطاليون خصوصا، الذين منحوا تونس علامة "دولتشي فيتا" (الحياة الحلوة). كما يشارك العديد منهم في رحلات تسمى بالاستكشافية للترويج لمميزات نقل الإقامة الى الوجهة التونسية.

هجرة الأجداد في مقابل هجرة الشباب

لكن يبدو أن هجرة الأجداد الإيطاليين إلى تونس متواصلة بالتوازي مع هجرة الشباب التونسي إلى سواحل إيطاليا في "قوارب الموت"، في مفارقة تبدو من المضحكات المبكيات، مثلما كتب الخبير الدولي سابروس مادالوني في مقال في صحيفة "جورنال ديبلاماتيكو" يحمل عنوان "حتى المتقاعدون يفرون من إيطاليا لكن لا أحد يتحدث عن ذلك".

إنفوغراف: الهجرة الهاجس المقلق للاتحاد الأوروبي

وختم المقال "هذه الظاهرة لو لم تكن مأسوية لكانت مضحكة. كثير من المتقاعدين الإيطالين يتنقلون إلى تونس حيث تكلفة المعيشة أقل بكثير من إيطاليا (...) ها نحن الآن في حالة ذهول حيث يهرب التونسيون من بلادهم بسبب الجوع ويهرب المتقاعدون من إيطاليا الى تونس للسبب نفسه".

font change

مقالات ذات صلة