مشعان المشعان لـ"المجلة": أدب اليوميات يأخذ الفرد نحو تجربة غواية الذات

كتابه فاز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة

الكاتب السعودي مشعان المشعان

مشعان المشعان لـ"المجلة": أدب اليوميات يأخذ الفرد نحو تجربة غواية الذات

في كتابه "ما أحمله معي: حياة وأسفار وتصورات أخرى" الحائز جائزة فرع اليوميات ضمن جائزة ابن بطوطة (الجائزة العربية لأدب الرحلة)، يتعامل الكاتب السعودي مشعان المشعان مع "أدب اليوميات" على أساس أنه كتابة تلتقط الواقع في حرارته وتسهم في خلق نوع من المحاورة عن طريق اللغة. وفق هذا المعطى الإجرائي تأتي كتابة اليوميات بوصفها عملا أدبيا خالصا يضمر الكثير من الخصائص الفنية والسمات الجمالية التي نعثر عليها في القصة أو الرواية.

يرى المشعان أن أهمية الكتابة تكمن في تحرير الواقع والذاكرة، فيسعى من خلال هذه اليوميات إلى خلق نوع من الطباق البصري بين الواقع والمتخيل.

عن اليوميات والأسس المعرفية التي تؤسس لما يسمى بـ"أدب الرحلة" قديما وحديثا، كان لـ"المجلة" هذا الحوار مع الكاتب مشعان المشعان في العديد من قضايا وإشكالات أدب اليوميات والرحلة المعاصرة عموما.

  • كيف تشكلت فكرة كتابك الجديد "ما أحمله معي" الفائز مناصفة مع الكاتب المغربي محمد محمد خطابي بفرع اليوميات في جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة 2024- 2025؟

بداية أشكر اللجنة القائمة على هذه الجائزة لإيمانها بهذا الكتاب. لقد قمت برحلات عدة ولم أفكر يوما بأن أسجل وقائعها في كتاب مستقل، إلى أن وقع بين يدي كتاب "ما أعرفه على وجه اليقين" لأوبرا وينفري. في الكتاب تتحدث عن لقائها الناقد السينمائي جين سيسكيل الذي سألها: "أخبريني ما الشيء الذي تعرفينه على وجه اليقين؟"، فتقول: "وجدت نفسي عاجزة عن الرد تماما. أعاد عليّ السؤال ثانية: ما الشيء الذي تعرفينه يقينا من حقيقة نفسك وحياتك، أي شيء وكل شيء؟. قلت له: يلزمني وقت لأفكر في هذا السؤال يا جين". إن سؤال "ماذا أحمل معي؟" لم يكن حاضرا في ذهني، إلى أن وصلت إلى نهاية المقدمة.

قصة التجوال تشجع على الاستطراد والتداعي، بخلاف الشكل الأكثر صرامة للخطاب أو التقدم بتسلسل زمني في السرد السيري أو التاريخي

كانت وينفري توصيني: أملي أن تبدأ بطرح السؤال نفسه الذي طرحه علي جين منذ سنوات عدة. أعرف أن الشيء الذي ستجده في الطريق سيكون رائعا، لأنك ستجد نفسك. بدأت بطرح السؤال نفسه، لأستمتع برحلة استكشاف نفسي بما يمكن أن يقدمه الجواب عن ذلك السؤال، فكان هذا الكتاب. إن الرحلات المذكورة في كتابي، استحضرتها كبنية أدبية أمرر بها أجوبة ذلك السؤال. وهو ما فعله جان جاك روسو في كتاب "هواجس المتنزه المنفرد بنفسه"، إذ لستخدم النزهات في الكتابة لأن المشي يوفر له مكانا موضوعيا يتكلم منه. كبنية أدبية، فإن قصة التجوال، كما تذكر مؤلفة كتاب "شهوة التجوال" ربيكا سولنيت، تشجع على الاستطراد والتداعي، بخلاف الشكل الأكثر صرامة للخطاب أو التقدم بتسلسل زمني في السرد السيري أو التاريخي.

غلاف "ما أحمله معي"

  • ماذا تبقى في ذاكرتك من مخاض هذه اليوميات بعد الانتهاء من فعل كتابتها؟

لم تبتعد كثيرا. أنت دائما موجود في مكان ما، لن تجد ذكريات دون أمكنة. فحينما يسود الواقع الخارجي من حزن مشترك، لا يسعني إلا أن أبدأ بالتجول عبر الخيال في أماكن داخل رأسي رغبة في إحداث التوازن من خلال إعادة الاعتبار للخصوصيات والتفرد، متجاوزا بذلك الواقع، أحمي نفسي من الوقوع في التماهي الجمعي الذي أصبح من سماته الأساسية توحيد الآراء والتصورات الواحدة تجاه الحياة. كان الفرنسي غزافيي دوميستر يفعل ذلك أيضا، أراد أن يلوذ بالخيال ويرتحل في مكان آخر، يقول: "سوف نسافر في مسيرات قصيرة، نستسلم بمرح لخيالنا، وسوف نتبعه حيثما يشاء أن يقودنا". هناك، في الغرفة التي أشبه بالزنزانة، قادته الملذات الخيالية إلى رحلات حول العالم في مسيرات اختزنتها ذاكرته وبقيت في نفسه. وكذا أفعل، وحينما أيضا يفيض الزمن بالضغوط الهائلة، التي من شأنها أن تقوض إنسانية المرء وتحيله إلى كائن منهك، فإنني ألوذ بالخيال مرتحلا، مستدعيا تلك اليوميات. بالسفر خيالا، توكيدا أن الحرية ليست حرية الجسد، إنما حرية الأفكار والخيال.

جنس اليوميات

  • إلى أي حد يمكن اعتبار أدب اليوميات جنسا أدبيا خالصا مثل الشعر والرواية؟

أدب اليوميات هو أدب معيش، يقترب من حقيقة الواقع ليس من خلال الكشف عنه فحسب، إنما أيضا عبر التفاعل معه. فهو لا يتحرك من خلال المكان، بل الزمان الذي يبدعه، يلائمه، ويستجيب لاحتياجاته واحلامه. وهو زمن يقتنص فيه الفرد يومه، ويعيش الحياة إلى أقصاها. كتابة أدب اليوميات تأخذ الفرد نحو تجربة غواية الذات، بين الواقع وما يمكن أن تتشبع به من تجارب الحياة اليومية خارج النطاق المادي والملموس، والمعرفة الحسية المباشرة، إلى معرفة وجودية عميقة.

ما نراه من تعطش الناس إلى الخروج من المنزل، وإحياء علاقة مع الأمكنة الأخرى عبر قراءة أدب الرحلة، هو محاولة لخلق توازن بين السكون والحركة

  • حظي أدب الرحلة في السنوات الأخيرة، بمكانة بارزة جعلته يلقى بالاهتمام، ما الدور أو القيمة المعرفية التي تقدمها الرحلات المعاصرة إلى القارئ؟

أدب الرحلة أدب حركي. أزعم أننا نعيش في عصر الحركة. في السابق كان التأمل مقرونا بالسكون، ومع التحولات التي نشهدها، بات التأمل مقرونا بالحركة كما نرى في الأدب الآسيوي.

الكاتب السعودي مشعان المشعان

وهو ما نجده في شكل أوضح مع كتاب "وسادة من عشب" لتاتسومي ساسوكي، تحاول إحدى شخصياتها أن تكتب قصيدة، لكن الإلهام لا يأتي من خلال السكون ووضع ساق فوق الأخرى، والتحديق في الفراغ، إنما بالحركة: تسلق الصخور، والمناورة بين الأعشاب، وزيارة الأكواخ. بهذا تتولد معاني القصيدة وتكتمل. وأدب الرحلة ليس بعيدا عن هذا الدور، فهو يعيد فاعلية الحركة في المشهد الراهن. وأهمية الحركة في إدراك الواقع والتفاعل معه. نحن في سفر دائم. فما نراه من تعطش الناس إلى الخروج من المنزل، وإحياء علاقة مع الأمكنة الأخرى عبر قراءة أدب الرحلة، هو محاولة لخلق توازن بين السكون والحركة.

خصوصية

  • كيف تتصور خصوصية الرحلة المعاصرة مع نظيرتها الحديثة أو القديمة؟

على أدب الرحلة أن يعي تحولات الواقع حتى يصبح غير شائع، أما إذا اكتفى بالوصف فقط فهو تقليدي وشائع. نعيش في كوكب واحد، وأصبح العالم قريبا. وبرغم ذلك نعيش في وفرة معلوماتية، ودور العقل أمام هذه الوفرة هو العمل على الانتقاء. في الرحلة أسأل نفسي: ما الذي سوف أركز عليه، وما الذي أهمله أو أبعده؟ أذكر حين سألت أحدهم أن يدلني الى كتب في الروحانيات؟ توقعت أن يرسل لي قائمة طويلة من العناوين، عوضا عن ذلك، قال لي كلمة واحدة: "افتح قلبك وسيصلك الكتاب المناسب".

لا نستطيع النظر إلى الواقع بشكل مباشر، إنما من خلال أطر ومنهج، وبهذا تتشكل المعاني

أظن أن الرحلة يجب أن تنطلق من هذا المبدأ، يجب أن أفتح للمكان قلبي حتى أميز بين الأصوات الدخيلة وبين صوتي الحقيقي. حينما لا أفتح قلبي وأستمع إلى حقيقة صوتي، ما الذي يحدث؟ سوف أركز على وصف المشاهد بوصفها ملئا للصفحات فقط، أو سد فرغات للجمل. جواب ما يجب أركز عليه، وما لا يجب، ليس ممنهجا أو اعتباطيا أو حتى اختياريا، إنما يظهر المعنى تماشيا مع حالتي الشعورية الآن، وحركة التفاعل بين ما نحمله في داخلنا، وبين ما يتجلى لنا في الخارج. هذا ما نجده مثلا في كتاب فرناندو بيسوا "اللاطمأنينة"، وهو يصحبنا معه إلى "الرحلة الثامنة" كما أسماها: "لا تهمني أي رحلة من رحلات العالم السبع، الرحلة الثامنة هي رحلتي التي أقطعها الآن". تطوف صور رحلاتي في ذهني، بينما أتأمل مع فرناندو: إنها الرحلة التي تتم عبر ذواتنا نفسها. ما يحاول بيسوا أن يخبرنا به أن الواقع لا نستطيع أن ننظر إليه بشكل مباشر، إنما من خلال أطر ومنهج، وبهذا تتشكل المعاني... وظيفة العقل كما ذكرنا أن يركز على شيء ويهمل شيئا أخر.

الكاتب السعودي مشعان المشعان

هكذا نجد الرحالة ابن بطوطة في كتابه "الغرائب والعجائب"، فهو منصرف الذهن من الأساس، وقبل أن يرحل، إلى هاتين الكلمتين. فنجده يتحدث عن أكلة لحوم البشر في أفريقيا، وعن الصوفية حينما زارهم ووجد أناسا يقفزون إلى السماء ثم يعودون إلى الأرض. الخلاصة أننا  "لا نرى الأشياء كما هي، بل نراها كما نكون نحن"، كما تقول آذر نفيسي. ويقول الإيطالي إيتالو كالفينو: "إن المدن مقبرة خيال الرحالة، هي صورة متخيلة عن أنفسنا".

أدب اليوميات

  • إلى أي حد يستطيع أدب اليوميات أن يقدم وعيا حقيقيا تجاه الآخر؟

هنا أيضا فائدة الإطار ثانية، فعلاوة على كونه يحررنا من النظر إلى الأشياء بشكل مباشر، إنه يجعلنا متسامحين، لا نلقي أحكاما جاهزة على الواقع، فهو يحررنا من الحكم على الآخرين. هذه الملاحظة لم أعها إلا في زيارة كوريا الجنوبية. أتذكر اللحظة التي قررت فيها الاستيقاظ أبكر من عادتي، كان علي مغادرة الفندق حالا، فطائرتي إلى هونغ كونغ ستقلع بعد ساعتين. خرجت إلى الشارع العام، وقبالة الرصيف وقفت منتظرا الحافلة. في الشارع كان الصباح لطيفا ودافئا، ولم يعد هدير السيارات سوى طنين بعيد. لم يمض وقت طويل حتى رأيت الحافلة آتية من بعيد. وبينما انسللت إلى الداخل، وهممت بالارتماء على أحد المقاعد المجاورة، طلب مني السائق رسوم التوصيل، فأخبرته أن ليس لدي أوراق نقدية، ولكني وعدته بالمال حينما نصل إلى المطار، إذ ليس هنا أي ماكينة "صرف آلي"، إلا أنه أمرني بالنزول حالا، حاولت استعطافه: "ليس لدي متسع من الوقت، طائرتي سترحل من دوني، ثم أين أجد آلة الصرف؟!، ولكنه لم يعطني فرصة.

الحياة العامة لا تحكمها سوى الروح التعاقدية من تبادل المنفعة والمصلحة، أما الحياة الخاصة، فيحكمها التراحم واللطف والتعاون

نزلت مستسلما، حانقا ومستاء من القوانين، والبلد، والناس. جبت المكان، كان شبه مقفر، ومشيت في شوارع ضيقة لا أرصفة لها بحثا في زوايا الأمكنة، ولكنني لم أعثر على الماكينة. ثم عدت إلى الرصيف نفسه، فوجدت وجها جديدا، استوى واقفا هناك، وعلى كتفه حقيبة سفر، اقتربت منه سائلا عن الآلة، فأخبرني أنه ليس هنا أي آلة، ثم سألني: "كم بحوزتك من المال؟". أجبته "ربع مبلغ التذكرة".

طلب أن أعطيه المبلغ الذي بحوزتي، فمددت يدي في داخل الحقيبة، وأخرجت محفظة النقود، وأعطيته المال من دون سؤال عن السبب. وبعد لحظات، أخرج يده من جيب بنطاله الأزرق، وقدم لي قيمة التذكرة بالكامل من ورقة واحدة. قلت له شاكرا: "حينما نصل إلى المطار، سأسحب لك المبلغ". غارت عيناه: "لا داعي للقلق، لا أحتاج إليه". أدركت في تلك اللحظة أن الحياة العامة لا تحكمها سوى الروح التعاقدية: من تبادل المنفعة، والمصلحة، والأخذ والعطاء. أما الحياة الخاصة، فيحكمها التراحم واللطف والتعاون والمساعدة. في حالة سائق الحافلة كانت توجه سلوكه الحياة التعاقدية، أما الشاب فكان مأخوذا بالتراحم وهو متحرر من السياسات المادية.

font change