استغرقت المفاوضات أشهرا مؤلمة عدة قبل التوصل أخيرا إلى اتفاق، لكن "اتفاق الشراكة الاقتصادية" الذي وُقّع بين أوكرانيا وإدارة ترمب قد يترك آثارا عميقة في مستقبل النزاع الأوكراني.
ومنذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني لبدء ولايته الثانية، تسعى واشنطن وكييف إلى التوصل لاتفاق بشأن تقاسم الموارد الطبيعية الأوكرانية. وقد برز هذا التوجه نتيجة لموقف ترمب الحاد من دعم إدارة بايدن السخي لأوكرانيا خلال حرب روسيا عليها، وهو دعم بلغت قيمته نحو 100 مليار دولار عند بداية ولاية ترمب الحالية. لذلك، كانت الإدارة الأميركية الجديدة حريصة على استرجاع أكبر قدر ممكن من تلك الأموال.
في هذا السياق، أشارت تقارير أولية إلى أن ترمب طالب كييف بسداد 500 مليار دولار كتعويض عن الدعم العسكري الأميركي في النزاع، وهو رقم يتجاوز بكثير كل التقديرات الواقعية لحجم المساعدات الفعلية التي قدمتها الولايات المتحدة.
ووفقا لتفاصيل مسرّبة من مسودة اتفاق تجاري عُرض على كييف في فبراير/شباط، لم يكتف ترمب بالمطالبة بسيطرة أميركية كاملة على المعادن الحيوية في أوكرانيا، بل سعى كذلك إلى الهيمنة على معظم الأصول الاقتصادية الكبرى في البلاد، من الموانئ إلى إنتاج النفط والغاز، ولأجل غير مسمى. ولو تم توقيع مثل هذا الاتفاق، لكانت أوكرانيا- التي خاضت حربا مريرة على مدى ثلاث سنوات للحفاظ على استقلالها عن روسيا- على وشك أن تتحول فعليا إلى مستعمرة أميركية.
ومن الطبيعي أن تثير مقترحات بهذا الحجم رد فعل غاضبا من كييف، ويُفهم على نطاق واسع أنها كانت السبب الجوهري وراء الخلاف العلني الذي وقع بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وترمب خلال زيارته إلى المكتب البيضاوي في وقت لاحق من ذلك الشهر.
وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد توجه إلى واشنطن بناء على توقعات إدارة ترمب بأن يوقع على الاتفاق التجاري كجزء من الجهود الرامية إلى تنفيذ وقف إطلاق النار في أوكرانيا. غير أن رفضه التوقيع أدى إلى حدوث شرخ كبير في العلاقات بين البلدين، حيث أصدر ترمب أمرا بتعليق المساعدات العسكرية وتجميد تبادل المعلومات الاستخباراتية مع كييف.
يُنظر إلى توقيع الاتفاق بين الولايات المتحدة وأوكرانيا على أنه يضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موقف حرج، لا سيما أن الاتفاق يحمّل روسيا صراحة مسؤولية إشعال النزاع
ورغم هذا المنعطف الحاد، بدأت العلاقات بين الزعيمين في التحسن تدريجيا، ولا سيما بعد موافقة زيلينسكي على شروط اتفاق وقف إطلاق النار الذي تولى البيت الأبيض الوساطة بشأنه. وقد تكللت محاولات إصلاح العلاقات الثنائية بعقد اجتماع غير مجدول بين ترمب وزيلينسكي في الفاتيكان، على هامش وجودهما في روما للمشاركة في جنازة البابا فرانسيس. ووفقا لما أعلنه مسؤولون أميركيون، فقد جرى خلال هذا اللقاء القصير، الذي لم يتجاوز 15 دقيقة، الاتفاق على التفاصيل النهائية للاتفاق التجاري.
وبحسب الشروط التي كُشف عنها حتى الآن، أكد الطرفان أن الاتفاق يتضمن إنشاء صندوق استثماري للتنقيب عن المعادن، إلى جانب تحديد آلية لتقاسم العائدات الناتجة عن هذا النشاط. وقد جرى التوصل إلى الصيغة النهائية للاتفاق عقب زيارة قامت بها وزيرة الاقتصاد الأوكرانية، يوليا سفيريدينكو، إلى واشنطن يوم الأربعاء، حيث وقعت الاتفاق مع وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت.
وعقب مشاركتها بيسنت مراسم التوقيع، نشرت سفيريدينكو البنود الرئيسة للاتفاق على منصة "إكس" مشددة على أن الاتفاق ينص على إنشاء صندوق استثماري مخصص لإعادة الإعمار، بهدف جذب الاستثمارات الغربية إلى المشاريع الأوكرانية في مجالات المعادن والنفط والغاز.
وأكدت أن الموارد ستبقى ملكا لأوكرانيا، وأن كييف ستحتفظ بحق السيطرة على عمليات استخراج المعادن. كما أوضحت أن الشراكة بين الجانبين ستُقام على أساس تقاسم العائدات بنسبة 50 إلى 50.
تُقدّر حصة أوكرانيا بنحو خمسة في المئة من "المواد الخام الحيوية" عالميا، وتشمل هذه النسبة كميات ضخمة من الغرافيت، وهو عنصر أساسي في تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية، إلى جانب رواسب من التيتانيوم والليثيوم. وقد شكلت هذه الثروات المعدنية محور صراع شرس خلال الحرب مع روسيا، إذ استولت القوات الروسية على كميات كبيرة منها في المناطق الواقعة تحت سيطرتها في شرق البلاد.
ويُنظر إلى توقيع الاتفاق بين الولايات المتحدة وأوكرانيا على أنه يضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موقف حرج، لا سيما أن الاتفاق يحمّل روسيا صراحة مسؤولية إشعال النزاع، رغم أن إدارة ترمب تبنت سابقا موقفا أكثر حيادية بشأن جذور الحرب. وقد دافع ترمب عن الاتفاق باعتباره الوسيلة المثلى لضمان استمرار الدعم الأميركي لأوكرانيا، مشيرا إلى أن وجود متعاقدين أميركيين على الأرض قد يردع روسيا عن مهاجمة البنية التحتية، خشية أن يؤدي ذلك إلى رد فعل عسكري أميركي مباشر.
حاول بوتين التقليل من أهمية الاتفاق الأميركي-الأوكراني، معلنا أن موسكو لا تشعر بالقلق حياله لأن "روسيا تمتلك موارد من هذا النوع تفوق بكثير ما لدى أوكرانيا"
ورغم أن الاتفاق لا يتضمن على ما يبدو أي ضمانات أمنية صريحة- وهو ما كان زيلينسكي يطالب به بإلحاح خلال فترة المفاوضات- فإن المؤشرات ترجّح أن واشنطن ستقدم مساعدات إضافية، قد تشمل، على سبيل المثال، أنظمة دفاع جوي متطورة. وفي بيان رسمي، أكدت الولايات المتحدة أن الاتفاق "يوجه رسالة إلى روسيا" مفادها أن إدارة ترمب "ملتزمة بعملية سلام تتمحور حول أوكرانيا حرّة وذات سيادة ومزدهرة".
وعندما سُئل ترمب من قبل الصحافيين عما إذا كان الوجود الأميركي في أوكرانيا قد يُقيّد التحركات الروسية في المنطقة، أجاب بكلمة واحدة: "من المحتمل".
وكانت محاولات ترمب الأولى للتوسط في وقف إطلاق النار قد أثارت مخاوف من احتمال استعداده للتنازل عن أراض أوكرانية لصالح موسكو مقابل إنهاء القتال. لكن في الأيام الأخيرة، بدت لهجته أكثر حدة، إذ وجّه انتقادات مباشرة إلى بوتين لفشله في التوصل إلى اتفاق دائم، وندد باستمرار استهداف المدنيين في أوكرانيا.
من جانبه، حاول بوتين التقليل من أهمية الاتفاق الأميركي-الأوكراني، معلنا أن موسكو لا تشعر بالقلق حياله لأن "روسيا تمتلك موارد من هذا النوع تفوق بكثير ما لدى أوكرانيا". ومع ذلك، فإن التزام إدارة ترمب بحماية شراكتها طويلة الأمد مع كييف أثار قلقا متزايدا في موسكو من أن واشنطن باتت أقل استعدادا للاستجابة لمطالب الكرملين، التي تشمل تنازل أوكرانيا عن أراض في شبه جزيرة القرم وشرق البلاد كشرط لإنهاء الحرب.