من بين كل السلالات والدول التي مرّت في التاريخ العربي–الإسلامي، ظهر بنو أمية كمرشحين لحمل مشروع إحياء الهوية العربية. وقد كثُر الحديث عنهم بعد سقوط بشار الأسد ونظامه حتى بات هناك من يروج لسياسة وثقافة أمويتين.
لا يصعب استنتاج السبب وراء اختيار الأمويين لرفع راية المشروع. فهو ليس أكثر من إعلان نهاية "محور المقاومة" الذي نشأ في ظله تحالف أقليات ضم نظام الأسد و"حزب الله" وقسما كبيرا من السلطة العراقية والحوثيين في اليمن. وجلس "التيار الوطني الحر" (العوني) اللبناني على مقاعد المشجعين، عندما كان المحور في ذروة قوته بقيادة إيران.
لكن "الأمويين الجدد" يمتنعون عن القول إن الأمر لا يتعلق فقط باستعادة السيطرة العربية على تقرير مصير المشرق، بل يصل إلى تولي المسلمين العرب السنّة هذه المهمة، وتنحية الطوائف والمذاهب التي تصدرت "محور المقاومة"، جانبا، بعد هزائمها الأخيرة وانهيار نظام الأسد.
غير أن الأمويين "التاريخيين" يبدون خيارا غير واضح. وهذا أقل ما يقال. ثمة إجماع على أن ما بين أيدينا من أخبار الأمويين كُتب جله بعد سقوط دولتهم ولا يخلو من عداء ظاهر لهم. ولعل أقدم ما وصلنا عنهم هو كتاب خليفة بن الخياط الذي ولد أواخر العصر الأموي ووضع مؤلَّفَه في بدايات العصر العباسي. ناهيك أن الدولة الأموية لم تكمل قرنا واحدا من العمر وكان قادتها مشغولين في أمور الفتح من جهة وفي الحروب الأهلية والقبلية من جهة ثانية. في حين أن الأركيولوجيا الحديثة وعلم المسكوكات يقدمان رواية عن الأمويين تختلف عن المتداول. ومن دون الغوص في تفاصيل التناقضات بين الروايات المتداولة عن التاريخ الأموي، يمكن الاكتفاء بما كشف عنه قصير عمرة في الأردن، لوضع كل التاريخ الأموي المعروف موضع تساؤل.
الإحيائية الأموية تنهل من المورد ذاته الذي نهلت منه الأيديولوجيا البعثية التي جعلت الماضي– أيضا– حلما يجب أن يكون الدليل إلى المستقبل
أما دينيا، فانتماء الخلافة الأموية إلى المذهب السني، لا يتحدد إلا من خلال الصراع مع الإمام علي بن أبي طالب الذي ينظر إليه كمؤسس للتشيع. وفي هذا تجاهل لحقائق عدة منها أن التسنن والتشيع لم يظهرا كمذهبين سوى في عصور لاحقة. وصحيح أن إسلام بني أمية اعتمد الجبرية كعقيدة دولة لتبرير الحكم المطلق والوراثي، إلا أن العصر الأموي بأسره لم يشهد بروز تيارات فقهية محددة. فهذه تأخر ظهورها إلى العصر العباسي.
هذا على المستوى الديني–الفقهي. وإذا اعتمدنا المراجع المتوفرة، فلا نجد أن المشروع الإمبراطوري الأموي يستند إلى ما يكفي من مقومات استمرار الدول. وإلى جانب الدهشة من السرعة التي جرت فيها فتوحات العصر الأموي، سنجد مثلا أن الخلافة التي "امتدت من الأندلس إلى السند" إنما قامت على نظام جبائي يقع في صلبه توزيع الغنائم المتأتية من الفتوحات التي توقفت بدورها بسبب نضوب الموارد وتقلص قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها حيال جندها على ما هو معروف من تقليص يزيد بن الوليد الرواتب، ما حمل الناس على تسميته بـ"الناقص" لتتفاقم حركات التمرد والاستياء.
المهم، هل يصلح مشروع إمبراطوري يحاكي رومانسية قومية وينطوي على نزعة إحيائية تبسيطية وفهم طفولي للتاريخ، كشعار لدولة تواجه قيامها عقبات ضخمة من النوع الذي نراه في سوريا اليوم؟
واضح أن من اقترح بعث "الأموية" كفكرة سياسية، لم يأخذ من الشعار غير ظاهره الذي ينحصر برايات الدولة الأموية تخفق في الأندلس والسند من دون الأخذ في الاعتبار معنى التغني بالفتح في الوقت الذي لا تزال الدبابات الإسرائيلية تتقدم في جنوب البلاد وحيث لا تبدو حظوظ إعادة توحيد الدولة والمصالحة الداخلية مشجعة، حتى الآن، والاقتصاد الذي لم يشهد تحسنا يذكر.
وليس في الأمر افتئاتا على التراث ولا على التاريخ (حتى لو كان متخيلا) ولا على تطلعات الجمهور وأحلامه. بل جل ما ينبغي قوله هو أن ما يفصلنا عن تلك العصور يزيد على ألف ومئتي سنة جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسور وأن العودة إلى الماضي هي في الغالب استثمار في أوهام لا أساس لها عند النظر الموضوعي إلى التاريخ، بل تشير إلى أن الإحيائية الأموية تنهل من المورد ذاته الذي نهلت منه الأيديولوجيا البعثية التي جعلت الماضي– أيضا– حلما يجب أن يكون الدليل إلى المستقبل. وانتهى أمر "البعث" بحزبين في بغداد ودمشق دمرا الماضي والحاضر والمستقبل قبل أن يسقطا شر سقوط.
عليه، هلّا سأل "الأمويون الجدد" أنفسهم عما يبقى من شعارهم إذا أُخرجت منه محفوظات المقررات المدرسية وقصائد سعيد عقل التي غنتها فيروز؟