اشتهرت كتابات فيلسوف فرنسا في القرن العشرين جيل دولوز بأنها من أعسر كتابات الفلاسفة، وأن نصه يشبه ما أسماه المفكر الكبير عبد الرحمن بوقاف مجموعة "النصوص الهاربة" التي تستعصي على التأويل. كان هذا الرجل لغزا في نصه وفي طريقة موته كذلك، حيث انتحر في تسعينات القرن الماضي بإلقاء نفسه من النافذة، خارج شقته في باريس. هذا الأمر بدوره نال نصيبا من تحليل المحللين الذين حاولوا أن يجدوا فيما وقع له شيئا فلسفيا، والغالب أنه ليس كذلك. أوجاع المرض التي ما عادت تطاق أدت إلى تلك النهاية المأساوية. يشهد لذلك وصفه المرير لحاله: "كلب يعيش بجوار جهاز الأكسجين".
لو حاولنا أن نفكك الطلاسم التي كتبها فيبدو لي أن ما كتبه عن البداوة يمكن أن يكون مدخلا صالحا لتصور الاتجاه، ولا أقول الخطوط العريضة، لفكر هذا المفكر، لأنه لا توجد خطوط عريضة ولا نحيلة.
"فلسفة البداوة" عند دولوز ليست عن البدو كجماعة اجتماعية فقط، بل هي مفهوم فلسفي شامل يشير إلى نمط وجود، وتفكير، وحركة، يواجه وينقض النماذج الثابتة، والمركزيات، والهويات المغلقة. البداوة فلسفة الحركة والتفكيك والانفلات، وهي بلا شك ضد الثبات والتنظيم الصارم. ما المقصود بـ "البداوة" فلسفيا؟
البداوة عند دولوز تعني الخروج الدائم من المراكز والحدود والخطوط المحددة، نحو فضاء مفتوح للحركة والتكوين. ليست البداوة سلالة ولا مكانا، بل أسلوب وجود، لا يخضع للحدود، ولا يبحث عن هوية مغلقة، ولا يعيش وفق مركز أو سلطة، ولا يُصنف ضمن الأنظمة الصلبة.
الفنون البدوية عشوائية وغير ممأسسة، تشبه إلى حد، فنون الشارع، أو الجاز ومطربيه في لويزيانا. فلسفة البداوة عند دولوز هي تفكيك لكل ما يُطلب منك أن تكونه، وانفتاح على الحركة، والإمكان، والخروج من "الحدود التي تُعرفك"
الخط السلطوي يحد ويُصنف ويفرض هوية ويقيم دولة، بينما يتحرك البدوي ويبقى عابرا هاربا من المدينة التي يراها قبرا، ويظل حُرا لكنه يعيش في الهامش حيث لا مكان. والبدو لا يميلون إلى الصدام، بل إلى الهروب من المركز، بإنشاء فضاء غير قابل للضبط، لأنهم لم يُعرفوا بطاعة القوانين.
البداوة تسكن في الفوضى الخلاقة، وتُبدع خارج كل هندسة سياسية، وتميل إلى الانفلات من المركزية، مركزية العقل والدولة والحقيقة الواحدة. مع أنها لا تطمع في السلطة ولا تفكر فيها، إلا أنها لا تطيق القيود.
في كتابه، "ألف هضبة" (مع فليكس غواتري) يقدم دولوز "البدوي" في مقابل رجل الدولة، كمَن يُفكك الشبكات بدل أن يُحكمها. وفي عمدة كتبه، "الاختلاف والتكرار"، يشير إلى الفكر البدوي بوصفه فكرا لا يبدأ من الحالة الأساس، بل من الاختلاف. والفكر البدوي تفكير صوفي متحرر لا ينطلق من دوغما جامدة، مثل ابن عربي أو هايدغر في حقبته المتأخرة. ودين البدوي تجربة صوفية شخصية لا تقبل التمثيل ولا المأسسة ولا الخطاب الرسمي.
والفنون البدوية عشوائية وغير ممأسسة، تشبه إلى حد، فنون الشارع، أو الجاز ومطربيه في لويزيانا. فلسفة البداوة عند دولوز هي تفكيك لكل ما يُطلب منك أن تكونه، وانفتاح على الحركة، والإمكان، والخروج من "الحدود التي تُعرفك". وهي ليست عن البدو الجغرافيين، بل عن البدوي كموقف وجودي، ومقاومة دائمة للتمركز. إنها نمط وجود.
مفهوم "الريزوم"(Rhizome) هو في الحقيقة العمود الفقري لفلسفة البداوة عند دولوز. بالنسبة لمن يعرفون فلسفة دولوز، أود القول إن "الريزوم" هو "الجذمور" الذي يعرفونه، لكن "الريزوم" مفهوم فلسفي، بينما "الجذمور" مصطلح بيولوجي. ما هو "الريزوم"؟
إذا كانت "البداوة" هي نمط وجود لا مركزي ومتحرك، فإن "الريزوم" هو الشكل المعرفي والبنيوي الذي تعبر عنه هذه البداوة. عوضا عن الشجرة، التي تنمو من جذر إلى فرع، هناك "الريزوم"، شبكة تحت الأرض، بلا مركز، تنمو من كل نقطة، وفي كل اتجاه. هكذا تفكر البداوة. تفكير لا يبدأ من أصل، قد يبدأ من الوسط، ولا يسير نحو غاية ثابتة، بل يتشعب ويتفتح.
وتجري البداوة في فضاء "أملس"، غير مقسم، بلا خرائط صارمة. في مقابل الفضاء الأخدودي الذي تصنعه السلطة، الحدود السياسية والطرق والمدن. "الريزوم" هو الخرائطية، التي تفكر بها البداوة. إنه ينمو في كل وجهة، ويمكن لأي نقطة فيه أن تُنتج نقطة أخرى. بنية مفتوحة، غير هرمية، لا مركزية، متعددة البدايات، ومتجددة بلا توقف. حركة مستمرة لا تستقر، ونمو عشوائي غير محكوم، ورفض للمركز وللحدود، لا مركز ولا بداية ولا نهاية، ولا يعترف بالتقسيمات الجغرافية الصلبة، بل يعبر الخرائط بلا إطار ثابت، ولا يمثل أحدا، ولا يحتكم لأحد، ولا توجد لديه عقدة قيادية، الكل منتج للكل. بنية لا تقبل الانغلاق، ولا تتكرر وفق نموذج.
ويطور دولوز هذه الفكرة ليعيدها إلى نظريته في "الاختلاف والتكرار" حيث يرفض منهجه أن يبدأ من مقدمة وينتهي بخاتمة. فلسفة البداوة ليست سوى نمط وجود متحرر من المراكز، والاختلاف والتعددية واحترام الجميع للجميع ربما تكون علامات على الطريق.
بالنسبة إلى دولوز، البداية تكون من أي مكان كان، وليس هناك وجهة محددة للسفر ولا براهين يسعى لإقناعنا بها. المعرفة ليست نظاما ولا مذهبا، بل تجربة، شبكة، صيرورة بلا مبدأ ولا منتهى، وهو لا يفكر في "موضوع واحد" أو "حجة خطية"، بل يبقى دولوز "البدوي" في تشعب مستمر وتداخل لا ينتهي ومفاجآت لا تنحصر وقفزات في كل اتجاه. لا أدري في خاتمة هذا المقال، إن كنت قربت دولوز للقراء الكرام، أم إنني زدته غموضا على غموضه وسوداوية على سوداويته.