أرض البشر

قاد الطيران سانت إكسوبري إلى الكلام على أنواع العلاقات بين البشر، إلى الكلام على الموت

أرض البشر

استمع إلى المقال دقيقة

"الجريح هو النوع الإنساني، وليس الفرْد". بمثل هذه الجملة ينتهي كتاب "أرض البشر" للكاتب الفرنسي المشهور أنطوان دي سانت إكسوبري، صاحب كتاب "الأمير الصغير" الذي عُرف على نطاق واسع جدا. وهذه الجملة تنم عن نزعة الكاتب إلى التأمل في أحوال البشر، وهو الذي قُيض له أن يحيا تجربة فريدة جعلته يرى أرض البشر من الأعلى، من الفضاء الذي أحب الطيران فيه، أحب ذلك إلى درجة صار فيها الطيران شغفا بالنسبة إليه، صار أسلوبا في العيش، صار أحلاما متحققة وأحلاما لا تلبث أن تتجدد. لقد منحه عشق الطيران فرصة للنظر عميقا إلى الأرض والبشر.

وإذا كان لسانت إكسوبري أن يُلم على نحو خاص بمشكلات وآلام يعاني منها الجنس البشري، فإن ذلك لم يُتَح له إلا بفضل الظروف الخاصة التي تسنت له، أي بفضل المؤهلات "الفردية" التي كانت له في الأساس، والتي اكتسبها من التجارب. إن ما قدمه سانت إكسوبري في مؤلفاته يمكن أن يعَد من أسطع الأمثلة على أن الأفراد- بعض الأفراد مثل إكسوبري نفسه- هم الذين ينفردون باستيعاب الخطوط العريضة للمعاناة البشرية، وهم الذين يُحْسنون التعبير عن تفاصيل دقيقة لهذه المعاناة.

يروي الكاتب في كتابه "أرض البشر" فصولا مما صادفه خلال عمله طيارا، وذلك في بعض العشرينات أو الثلاثينات من القرن الماضي.

كانت المحركات آنذاك سريعة العطب. وكانت الطائرات تسقط أو تهبط اضطراريا لأدنى سبب. يروي لنا إكسوبري عن حوادث عديدة سقطت فيها طائرته ووجد نفسه أمام التحدي الكبير: الموت أو الكفاح من أجل البقاء. ويُحْسن الإشارة في خلال السرد إلى أكثر اللحظات توترا وأغناها بالدلالات التي تتجاوز الخاص إلى العام. لقد قاده الطيران إلى الكلام على ضعف الإنسان وعلى قوته في آن.

لقد قاده الطيران إلى الكلام على أنواع العلاقات بين البشر، إلى الكلام على الموت، والحرية، والعبودية، والفقر، والحب... وغير ذلك. نكتفي هنا بإيراد هذه الجملة مما قاله في الحب: "تدلنا التجربة على أن الحب ليس أن ينظر بعضنا إلى بعض، وإنما أن ننظر سويا في اتجاه واحد".

"أرض البشر" كتاب يعلمنا كيف تكون التجربة الحياتية- إذا ما عاشها صاحبها بإخلاص وشغف- مصدرا ضروريا للعمل الفني أو الأدبي. إن أكثر ما يقنعنا به سانت إكسوبري هو تلك الرهافة الشاعرية في الكلام على الطيران وعلى آلة الطيران. إن حياته في الجو أو من الجو هي الزمن الحقيقي الذي يهفو إليه، ويحياه بقوة، ولا ينظر إلى شيء إلا منه، أو بالأحرى من عليائه. هذه العلياء هي التي أتاحت للكاتب الغوص نحو الأعماق. إن الطيران على ارتفاعات متفاوتة فوق سطح الأرض هو الذي أتاح للكاتب اكتشاف الأرض. انظر إلى ما يقوله عن الطائرة، التي تجاوزت في نظره كونها آلة: "الطائرة آلة من غير شك، ولكن يا لها من أداة تحليل عظيمة. فلقد مكنتنا من رفع النقاب عن وجه الأرض، فعرفناه على حقيقته".

"أرض البشر" كتاب يعلمنا كيف يكون الأدب نضرا وحيويا عندما تكون التجربة الحياتية التي يتناولها نضرة وحيوية

لقد أقام سانت إكسوبري مع طائرته علاقة عاطفية، هي علاقة الهوى والطموح والأحلام والمصير المشترك. انظر إلى ما يقوله في ذلك: "إتقان الاختراع يوصِل إلى حالة يمحو فيها الاختراع نفسه. فكما تمحى من الآلة شيئا فشيئا كل ميكانيكية ظاهرة، وتبدو في آخر الأمر طبيعية  كحجر صقَله البحر، كذلك كان رائعا أن ننسى الآلة شيئا فشيئا عند استعمالها. كنا في سالف الأيام نجد أنفسنا أمام مُصَنع معقد، أما اليومَ فإننا ننسى أن المحرك يدور، فهو يؤدي وظيفته وهي الدوران، كما يخفق القلب، ولا نلتفت نحن إلى خفقان قلوبنا. فلم تعد الآلة تستغرق انتباهنا، وأصبحنا نرى من خلالها وبواسطتها الطبيعة القديمة، الطبيعة التي يلتقي فيها البستاني والملاح والشاعر".
"أرض البشر" كتاب يعلمنا كيف يكون الأدب نضرا وحيويا عندما تكون التجربة الحياتية التي يتناولها نضرة وحيوية. إن الكلام على الطيران في هذا الكتاب طيران هو الآخَر. وهو مثله استكشاف، مرة للأرض وما عليها وما فيها وما يحيط بها، ومرة للبشر وما يجمعهم أو يفرق بينهم أو يعذبهم أو يطير بهم.

font change
مقالات ذات صلة