ربما يصح تشبيه الترجمة بالهجرة. فالانتقال من لغة إلى لغة كالانتقال من بلد إلى بلد، لأنه انتقال من ثقافة إلى ثقافة، وفي الحالتين يقوم الصراع بين المنشأ والمهجر، بين الموروث والمكتسب، بين ما يبقى وما يستجد، وهنالك معنى ينطلق نحو المجهول، معنى لا بد له من التغرب والتحول.
حسابات الربح والخسارة عسيرة في الحالتين، في حالتي الترجمة والهجرة. فكل منهما ينطوي على تناقضات جمة. في كل منهما اقتلاع واستشراف، تجدد وحنين، تلمس وضياع، تفلت وتشبث، اندفاع وتحفظ، أصول وآفاق. وإذا كان المهاجر يرتبك إجمالا إزاء ما يربحه وإزاء ما يخسره، مهما تكن درجة نجاحه في المهجر، فإن النص المترجم يخسر نفسه تقريبا، مهما تكن الترجمة دقيقة. والنص الذي نقصده هنا هو النص الأدبي تحديدا، والشعري بالأخص.
وفي الترجمة والهجرة، على السواء، عناصر قسرية أو مفتعلة كثيرة. لأنهما، على السواء، ابتعاد عن الأصول حيث التلقائية أو الفطرة. والافتعال في كل منهما هو الذي يخلق الارتباك والتشتت والتغرب. ولكن، هنالك في كل من الترجمة والهجرة عناصر جذابة أو مغرية. إنها عناصر السفر والمغامرة، التي توفر احتمالات التجدد والتكيف والتنوع والتحول. والغربة اللغوية هي أقسى ما يواجهه الشخص المهاجر والنص المترجم على حد سواء. فمهما بلغ الشخص المهاجر في إتقانه لغة المهجر، يظل مشتاقا إلى ذاته في لغته الأولى. وقد يشعر بازدواجية في عواطفه وتصوراته وطريقة تفكيره.
كذلك بالنسبة إلى النص الشعري المترجم. فمهما بلغت الدقة في النقل من لغة إلى لغة، لا يبقى منه في اللغة الثانية إلا القليل الذي يبدو مجرد تذكير بما كان عليه في اللغة الأولى. ويمكن للتشابه الذي أشرنا إليه بين الترجمة والهجرة أن يلعب دورا حاسما في الحياة العملية للكثير من الأشخاص، الذين يجدون أنفسهم، لسبب أو آخر، مضطرين للعيش في بلاد المهجر. فالكثيرون من هؤلاء يتجهون إلى العمل في حقول الترجمة، لأن الهجرة دفعتهم إلى ذلك، عندما وضعتهم في ظروف الحاجة إلى العمل من جهة، ووفرت لهم إلماما بلغة جديدة من جهة ثانية. وهذا الأمر ينطبق على معظم العرب العاملين في الترجمة، من الذين هاجروا إلى الغرب.
مهما بلغ الشخص المهاجر في إتقانه لغة المهجر، يظل مشتاقا إلى ذاته في لغته الأولى. وقد يشعر بازدواجية في عواطفه وتصوراته وطريقة تفكيره
ظاهرة العرب هذه لها جوانب إيجابية، وأخرى سلبية، يمكن أن نقاربها على
النحو الآتي: في الجوانب الإيجابية، نستطيع القول إن اتجاه فئة من المهاجرين إلى الترجمة من شأنه أن يفتح آفاقا للتعارف والتفاعل بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية، وبالأخص بين الأدب العربي والآداب الأجنبية. وفي هذا ما يمكنه أن يوفر للكتاب العرب، أينما كانوا، معارف واتجاهات ورؤى متنوعة، من شأنها أن تغني كتاباتهم، وأن تطلقها في جو من الانفتاح والتحفز.
أما في الجوانب السلبية، فنستطيع القول إن الترجمات الأدبية الضعيفة من شأنها أن تؤدي إلى غير المقصود منها، إلى تشويه أو سوء فهم أو اختلاط أو تشوش في العلاقة بين الثقافة العربية وغيرها من الثقافات. ومثل هذا الأمر يحصل عندما يعمل في الترجمة أشخاص لا يملكون الكفاءات الكافية، وتحديدا الكفاءات اللغوية. فالترجمة، وخصوصا ترجمة الشعر، تقتضي معرفة عالية باللغتين، الأولى والثانية. ومن النادر توفر ذلك لدى مترجمينا، وبالأخص أولئك الذين دفعتهم الظروف القسرية إلى العمل في الترجمة، أي إن الأخيرة لم تكن خيارهم الحر.
العقل والجسد هما الديباجتان اللتان قصد إليهما أبو تمام في بيته الشهير:
وطول بقاء المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدد
لقد رأى أبو تمام في السفر والاغتراب تجددا للمرء وصقلا لديباجتيه، لأن (البقاء في الحي) يفسدهما. والشعر لا يكتفي بالتعبير عن المعاني، بل يجسدها. وعلى الترجمة أن لا تكتفي هي الأخرى بالتعبير عن المعاني في اللغة الثانية، عندما تجعلها تغترب مهاجرة من لغتها الأولى، بل عليها أن تجسدها من جديد. وهنا تكمن براعة المترجم، لأن الفارق كبير بين التعبير والتجسيد في الشعر.
إن الترجمة والهجرة تجربتان متشابهتان، وأحيانا تكون الواحدة منهما مؤدية إلى الأخرى، أو مشجعة لها. ولكن، لكي تتوفر عوامل النجاح في كل منهما، على المعنيين أن لا يأخذوا الأمور بسهولة أو استخفاف، وإنما عليهم أن يجتهدوا في تجاوز المصاعب الجمة التي من شأنها أن تعترض الخائضين في هذه التجربة أو تلك، أو في كلتيهما.
واليوم، تدخل في موضوعنا هذا عناصر جديدة، من جهة الذكاء الاصطناعي. خاصة إذا لم يكن هذا الأخير مجرد آلة أو تطبيق يتلقى وينفذ. فالمختصون أخذوا يتحدثون في الآونة الأخيرة عن قدرة الذكاء الاصطناعي على المبادرة وعدم الاكتفاء بالطاعة. كأنهم يريدون بذلك أن الذكاء الاصطناعي أخذ يتجاوز حدود "الآلة" وإمكاناتها إلى نوع من "الوعي"، أو بالأحرى إلى مستوى من مستويات "الإبداع". ومثل هذا الأمر من شأنه أن يسبب تغييرات كبيرة في جميع المجالات، ومنها الترجمة.
هل سيكون أكثر ذكاء أو براعة من المترجمين البشر؟ هل سيتغير معه مفهوم الترجمة نفسه، وتاليا مفهوم الهجرة، وبالأخص هجرة المعنى من لغة إلى لغة؟
ومن شأننا هنا أن نطرح الأسئلة الآتية: هل سيأتي تدخل الذكاء الاصطناعي بمزيد من سلبيات الترجمة، أم سيخفف منها (وخصوصا في ترجمة الشعر)؟ هل سيكون أكثر ذكاء أو براعة من المترجمين البشر؟ هل سيتغير معه مفهوم الترجمة نفسه، وتاليا مفهوم الهجرة، وبالأخص هجرة المعنى من لغة إلى لغة؟