آفاق البحث عن معنى

آفاق البحث عن معنى

استمع إلى المقال دقيقة

كل جهد بذله ويبذله البشر، أفرادا أو جماعات، هو جهد محفوف بمحنة البحث عن معنى. ولعل البشر كانوا، منذ وجودهم، مأخوذين بهم البحث عن معنى هذا الوجود. وقد يصح القول إن الأعمال الإبداعية، على أنواعها، مسكونة بهم البحث عن "المعنى" أو "المعاني". وينسب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي قوله: "معنى كل شيء محنته".

وأبرز الحقول المعرفية، التي شكل البحث عن المعنى محورا أساسيا لها، هي حقول الشعر والعلم والفلسفة. وإذا كانت المعرفة تتحقق في الفلسفة والعلوم الوضعية على نحو مقصود، أي انطلاقا من فرضيات ومخططات مسبقة، فإنها في الشعر لا تتحقق إلا على نحو تلقائي، أي دون النظر إلى أهداف توضع مسبقا. ومع ذلك، قد يحتوي الشعر على المعرفة، أكثر مما تحتوي الفلسفة أو العلم كما ينسب إلى أرسطو. ولما كانت المعارف في جميع الحقول ناقصة دائما، والحقائق نسبية دائما، فإن التقدم المعرفي، يتوقف على قوة الإبداع في هذا الحقل أو ذاك. وهنا للخيال أو التخيل دور كبير. ففي المجال العلمي، وخصوصا في الفيزياء، تحول الكثير من التخيل أو التوهم إلى إنجازات فعلية. وهذا التحول يشكل موضوعا أساسيا في الكتاب الشهير "فيزياء المستحيل" لعالم الفيزياء الياباني ميشيو كاكو.

وإذا كانت الفلسفة القديمة، اليونانية خصوصا، التي اختصرت العلوم كلها أو احتوتها، طرحت الأسئلة الجوهرية، ودور البحث عن المعاني البعيدة والعميقة، فإن الفيزياء الحديثة تضطلع اليوم بهذا الدور وبذلك الطرح. وقد يصح القول إن الفيزياء اليوم هي الشعر المعاصر، وهي الفلسفة المعاصرة. وهذا دون إلغاء للشعر والفلسفة ولدوريهما، بل ربما في تحد لهما، أي في وضعهما أمام الأسئلة الكبيرة المستجدة أو المتجددة، تلك التي تأتي بها الاكتشافات الفيزيائية، أو تعيد بعثها.

قد يصح القول إن الفيزياء اليوم هي الشعر المعاصر، وهي الفلسفة المعاصرة. وهذا دون إلغاء للشعر والفلسفة ولدوريهما، بل ربما في تحد لهما، أي في وضعهما أمام الأسئلة الكبيرة

ليست هناك حدود فاصلة بين الشعر والعلم والفلسفة، أي حدود تجعل كلا منها مستقلا عن غيره. هنالك تفاعل بينها كحقول معرفية متقاطعة، ينمو الواحد منها ويتسع بنمو الآخر واتساعه، إلا أن الواحد منها قد يلعب في مرحلة من المراحل التاريخية، وعلى صعيد من الأصعدة، دورا نعده الأول أو الطليعي. هذا الدور هو الذي تلعبه الفيزياء حديثا، وكانت قد لعبته الفلسفة قديما، وظل الشعر على الدوام يستفيد من إنجازات العلم والفلسفة، وكثيرا ما سنحت له الفرصة لكي يتقدم عليهما، في هذا المجتمع أو ذاك، في هذه المرحلة أو تلك.

ويختلف الشعر عن الفيزياء والفلسفة، في أن بحثه عن المعنى يحصل على نحو تلقائي، أي دون خطط أو أهداف مسبقة، وربما لهذا السبب تنطوي الإنجازات (المعنوية) في الشعر على قدر من الغموض. فالكتابة الشعرية تحقق المعنى دون شرحه أو تفسيره أو توضيحه. كأنها تبحث عن المعنى دون أن تبحث عنه، لأنها لا تضعه هدفا لها. لكن، لا بأس في أن يتحقق ضمن أهدافها التي تترتب تلقائيا. فالشعر لا يسعى إلى الإصابة كما يسعى العلم أو الفلسفة، ولذلك لا ينظر إليه بمنظار الصواب أو الخطأ، ولكنه حين يحقق الإصابات، يحققها أحيانا على نحو يفاجئ العلم والفلسفة.

تنطلق الكتابة الشعرية من حالة انفعالية، من إحساس أو انطباع أو موقف أو تصور.. أو غير ذلك. وبعد انطلاقتها، لا يكون لها من هدف سوى تحقيق ذاتها. وتفلح الكتابة الشعرية، عندما تنجح في خلق كيان لغوي متميز، كان له أن ينبثق من الحالة التي انطلقت منها. وبعد ذلك، أي بعد أن يتحقق النص الشعري، يأتي الكلام على ما فيه من موضوعات ومعان وأفكار، وصور ودلالات، وغيرها. ويكون ذلك من شأن القراء والدارسين والنقاد.

إذا كانت الفلسفة والفيزياء تشتركان في السعي إلى نظرية واحدة في تفسير الكون، تندمج فيها النظريات العديدة، فإن الشعر يخالف الفلسفة والفيزياء في هذه النزعة الاختزالية

أما في الفلسفة والعلم (ومنه الفيزياء)، فإن الأهداف والخطط والفرضيات، من شأنها أن توضع مسبقا، وما يكتب لاحقا من تقرير للنتائج، يقوم على أقصى ما يمكن من التوضيح والشرح والتفسير. إذن، بين الشعر والفيزياء والفلسفة اختلاف في المنطلقات والأساليب. وأما الأهداف البعيدة التي يرمي إليها البحث في كل من هذه المجالات، على هذا النحو أو ذاك، فهي متقاربة أو متشابهة. بل يمكن القول إن هناك هدفا واحدا هو الأعلى أو الأبعد، بين مختلف الأهداف، لكل من الشعر والفيزياء والفلسفة. هذا الهدف هو المعنى، الذي أقلق البشر منذ وجودهم، إنه المعنى، أو الأسرار التي تجعل الحياة فنا في البحث عنها.

وإذا كانت الفلسفة والفيزياء تشتركان في السعي إلى نظرية واحدة في تفسير الكون، تندمج فيها النظريات العديدة، فإن الشعر يخالف الفلسفة والفيزياء، في هذه النزعة الاختزالية، وذلك لأن الشعر من طبيعته أن يبعثر لا أن يراكم، من طبيعته أن ينسف النظريات أو يفلت منها. ولكنه، مع ذلك، لا يتناقض مع الفلسفة والفيزياء، في التطلع نحو ذلك الهدف الأعلى أو الأبعد.

في العقود القليلة الماضية، حققت الفيزياء الحديثة إنجازات مهمة، وخصوصا في أبحاث الفضاء وتاريخ الكون، وبهذا تقدمت على الفلسفة في طرح الأسئلة الفلسفية، إنه تحد ينبغي للعاملين في الحقل الفلسفي أن يواجهوه مستفيدين منه، وكذلك ينبغي للشعر أن يجد في تلك الإنجازات آفاقا جديدة له.

font change
مقالات ذات صلة