إنه الغروب

إنه الغروب

استمع إلى المقال دقيقة

دائما هو الغروب، أكثر حضورا من الشروق. فالواحد منا يدأب على توديع شموس أيامه يوما بعد يوم، ولا يدأب على استقبالها. بل نادرا ما يجد نفسه في استقبال بعضها. فالناس في غالبيتهم العظمى يكونون يقظين حيال الغروب، وقلما يستيقظون حيال الشروق.

هل يمكننا القول إذن: إننا نرى الغروب كثيرا، وإننا نعيش اللحظات أوان الغروب أكثر وأعمق مما نعيش اللحظات في أيّ أوان آخَر؟ هل نقول إن طبيعة عيشنا تميل بنا نحو النهايات، وتنأى بنا عن معاينة البدايات؟ هل نقول إن قدَرنا أن نحيا مسكونين بفكرة الزوال، أو مشدودين إلى ظواهره المختلفة، أو مفتونين بسحره الغامض؟

وللغروب سحره الفريد. وليس غريبا، لهذا السبب، أن يكون وقت غروب الشمس وقتا للتنزه، وقتا للتأمل، وقتا للتزود بالانطباعات والرؤى من كل نوع.

وليس غريبا أيضا أن تكون لهذا الوقت مكانته الخاصة في الأدب، وفي الشعر على وجه الخصوص. فالشعراء على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم أقبلوا على "الغروب"، واحتفوا به، ونهلوا منه أجمل الصوَر. ولم يكن الأمر مقتصرا على الشعراء ذوي المنحى الرومانسي، الذين ذهبوا في تصديهم للغروب وإغراقهم فيه مذهبا بعيدا.

وللفجر، أو السَحَر (بفتح السين والحاء)، أو الصباح، أو غير ذلك من مراحل الشروق، جمال وفتنة وسحر. ولكن على نحو خاص ومختلف عما للغروب. وإذا كان للشروق بمختلف مراحله حضورُه، هو الآخَر، في الشعر، إذ وجد فيه الشعراء ما يحفّز أو يبشّر أو ينادي، فإن "المشهدية" التي يمنحها الغروب للشعراء تبدو في صوَرهم أكثر سطوعا وتفصيلا وتشعبا من تلك التي يمنحها الشروق. ربما لأن الشعراء عندما يتكلمون عن الغروب، إنما يتكلمون عما شاهدوه كثيرا، أو حتى يوميا. وعندما يتكلمون عن الشروق إنما يتكلمون عما لاح لهم منه في أوقات متباعدة، أو عما تخيلوه من وحيه، أو عما بدا لهم من أفكار حياله.

لو تأمل كل فرد منا، من خلال سيرته التي عاشها يوما بيوم، في علاقته بالغروب من جهة، وفي علاقته بالشروق من جهة ثانية، أليس من المرجح أن يجد نفسه معنيّا بالغروب أكثر من الشروق؟

والغروب يذهب، فيما الشروق يأتي. وقد يكون من طبيعتنا- نحن البشر- أن ننزع إلى تدارك ما يفوتنا أو يفلت منا. لهذا، تجعلنا مشاهد الغروب نهفو إليها. نقابلها بمشاعر هي مزيج من العطف والخشية والتحسر والانخطاف والرهبة. ولطالما تضعنا هذه المشاهد أمام الأسئلة التي لا تهرم، أمام الأسئلة التي تتجدد بمرور الزمن، أسئلة الوجود والمصير.
هكذا يجد الواحد منا، في مشاهد الغروب الذي قد يقابله يوميا، نفحات   من غروبه الشخصي. هذه النفحات تثير لديه القلق، على نحو من الشاعرية والرهافة، تتأتيان من شاعرية غروب الشمس ورهافته.
والأدب يتحرك في هذا الحيّز، بين الشخصي والعام، أو بكلمة ثانية بين الإنساني والطبيعي. إن الأدب، بكل أنواعه وفي جميع حقوله، يسعى إلى الحد من قساوة الزمن ومن هول جريانه. إنه يسعى إذن إلى مهادنة "الغروب" أو مناوشته أو مصادقته. على نحو ما يفعل إزاء الموت، إذ يعمَد إلى فلسفته ومراوغته، للتخفيف من أهوال المواجهة معه، أو حتى إلى استبعاده والتشكيك في حقيقته، على غرار ما يقول الشاعر العباسي أبو العتاهية في هذا البيت:
كأنّ  يقينَنا  بالموت  شكُّ/وما عقلٌ على الشهوات يزكو
إن الأدب، إذ يعاين الحالات أو يتابعها أو يخترعها، إنما يرمي إلى القبض عليها قبل أن تغرب. إنه يرمي إلى تصويرها متألقة في الزمن، يحاول أن يراها وكأنها ليست عارضة أو عابرة، يحاول أن يراها وكأنها ليست مهددة بالغروب!
لو تأمل كل فرد منا، من خلال سيرته التي عاشها يوما بيوم، في علاقته بالغروب من جهة، وفي علاقته بالشروق من جهة ثانية، أليس من المرجح أن يجد نفسه معنيّا بالغروب أكثر من الشروق؟ أليس من المرجح أن ينتبه إلى أن صحبته للغروب تتقدم بكثير على صحبته للشروق؟ الأولى شبهُ دائمة، والثانية متقطّعة أو شبهُ منسية. الأولى وثيقة وحميمة، والثانية متروكة للمصادفات. الأولى كأنها محفوفة بالرعاية والمتابعة، والثانية كأنها مهمَلة.
الغروب يستدعينا، ويجذبنا إليه. والشروق غالبا ما لا نشعر بقدومه، نترك له أن يحدث في غيابنا، أو في غفلة منا.
كل يوم يمرّ، يترك في داخل كل فرد منا شفَقا يملؤه فتنة  كالخوف، وخوفا كالفتنة. هذا الشفق الداخلي يضيء في أعماقنا، وكأنه قبَس يومي من الشمس الغاربة.

font change
مقالات ذات صلة