أصبحنا نفتقد السجالات الأدبية التي من شأنها أن تطرح الأسئلة الجادة والعميقة، بل نكاد في الأدب نُضيع مفهوم "السجال" ومعناه الحقّ. ومعنى "السجال" أو "التساجل" أو "المساجلة" قد يكون منطلِقاً من الشعر، أو بالأحرى من المجال الشعري. فالمساجلة كما ورد في "محيط المحيط" هي عند الشعراء أن يتناشد الشاعران بيتا فبيتا أو شطرا فشطرا. والمساجلة بالمعنى العام، أي في الشعر وفي غيره من المجالات، هي المفاخرة بما تنطوي عليه من تنافس أو تَبار أو تسابق.
هل نجد لهذا المعنى حضورا في السجالات الشعرية الراهنة؟ للأسف لم يبق اليوم سوى ذلك السجال السطحي الذي عفى عليه الزمن بين دعاة الوزن ودعاة التخلي عنه، أو بالأحرى بين الذين يروْن في الوزن عنصرا أساسيا للشعر، وبين الذين يروْن فيه عنصرا بائدا أو تقليديا. وفي السجال بين هؤلاء وأولئك تضيع الكتابة الشعرية، وتكاد تفرّط بقضاياها الجوهرية وتسقط في تخبّط يسمح للمتطفلين، في هذا الجانب أو ذاك، بأن يتسللوا إلى ميدان الكتابة أو التنظير أو النقد وبأن يحتلوا أحيانا، ويا للطرافة، صدارة المشهد الأدبي.
لقد تناول أسلافنا من النقاد والبلاغيين قضية الوزن في الشعر بتبصّر وتعمّق.
وقد بلغ الأمر ببعضهم أن قبِل بنظْم شعريّ لا يلتزم بنظام وزنيّ معين. معنى ذلك أن بعض النقاد والبلاغيين من أسلافنا قبلوا الشعر بالنثر، أي قبلوا شعرا منثورا، مميزين في ذلك بين "الشعر" و"القصيدة". وذلك قبل قرون من التنظير لقصيدة النثر في الآداب الأجنبية، وبعدها في الأدب العربي. فما بالنا لا نجد اليوم إلا سجالا واحدا يقسم كتّاب الشعر عندنا إلى قسمين؟ ألا وهو السجال بين دعاة القصيدة الموزونة ودعاة قصيدة النثر.
أين هي الأسئلة الكبيرة التي رافقت المراحل الأولى لحركة الشعر العربي الحديث؟ أين هي الأسئلة التي انطلق منها ذلك المشروع التغييري الذي سعى إلى تطوير اللغة الشعرية وتحويلها في اتجاهات شتّى؟ ليس المطلوب استعادة الأسئلة نفسها، وإنما المطلوب استعادة قدْر من الحيوية لإطلاق مشروع تغييريّ جديد، من شأنه أن يبتكر أسئلته الجديدة.
نفتقد اليوم ما كان من سجالات في النصف الأول من القرن العشرين. لقد حاول بعض المفكرين آنذاك أن يطرحوا جميع المسائل المتعلقة بمسارات الثقافة العربية ودارت بينهم سجالات لا تخلو من التعمق والخشية إزاء المخاطر المحدقة
كانت هذه ملامسة بسيطة لوضعنا الشعري. نأتي الآن إلى ملامسة لوضعنا الروائي. فنلاحظ أولا أن السجال الذي دار خلال الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، حول فنيّة الرواية العربية، قد بات في انحسار شبه كلّيّ. ذلك السجال أدى إلى كلام حول اتجاهات متعددة في الرواية العربية، كما أدى إلى تقصّي المؤثرات الأجنبية في هذه الرواية.
أما اليوم فلم يعد هنالك من سجال إلا حول جرأة الرواية في تناول بعض الموضوعات الحساسة، التي كانت في الماضي شبه محظورة. وفي رأس هذه الموضوعات الدين والجنس. فقوة الرواية لم تعد، بالنسبة إلى معظم المعنيين، متمثلة بقوتها الفنية، أي بقوة العناصر اللغوية والبنائية والرؤيوية التي تشكّل نسيجها الفني. وإنما باتت متمثلة بالتجرؤ على الخوض في موضوع حسّاس، وإنْ كان ذلك على حساب المتانة أو الرهافة أو السلامة أو الإحكام في لغة الرواية وبنائها.
ونحن هنا لا ندعو إلى وضع قيود على الكتابة الروائية، أو إلى وضع تحديدات لها، أو إلى الحدّ من حريتها، وإنما ندعو إلى التركيز على "فنية" الرواية، في كتابتها وفي الحكم عليها، قبل التركيز على موضوعها.
ماذا عن حقول أخرى غير الأدب؟ هل نجد سجالات في الفكر أو السياسة أو الدين، أو في ما يتعلق بأشكال الحكم أو المشاكل الاجتماعية أو العلاقات بين الشرق والغرب... أو غير ذلك؟
يمكننا القول إننا نفتقد اليوم ما كان من سجالات في النصف الأول من القرن العشرين في الحقول المذكورة. لقد حاول بعض المفكرين آنذاك أن يطرحوا جميع المسائل المتعلقة بمسارات الثقافة العربية ومستقبلها، واختلفت آراؤهم حول ذلك، بل دارت بينهم سجالات لا تخلو من التعمق والخشية إزاء المخاطر المحدقة.
هذه السجالات تغيب اليوم، وتحلّ محلها المشاحنات التي تنمّ عن حالات من الضياع والتخبط، وخصوصا في مجالي السياسة والدين، وبالأخص في مجال الفكر الذي من شأنه البحث عن خيارات جديدة تخترق الآفاق المسدودة.
إذن، ليس لدينا اليوم سجالات، بل مشاحنات. بينما المخاطر من كل جانب في تزايد مطّرد. وفي ظل هذه المخاطر، يتزايد خوفنا إزاء المآلات المحتمَلة.