أمة ولغة

أمة ولغة

استمع إلى المقال دقيقة

تشعر أمة من الأمم بأكبر المخاطر على وجودها عندما تكون لغتها مهددة. وهذا النوع من المخاطر بات كثير الاحتمال في أيامنا، ليس بالنسبة إلى الأمم المتخلفة أو النامية فحسب، وإنما أيضا بالنسبة إلى أمم تعَد متقدمة أو متطورة.

وقد يكون مرد ذلك إلى أن عالمنا اليومَ يتجه إلى التوحد في خضوعه لنموذج ثقافي واحد. ومثل هذا الخضوع يعني أخذا بما يقدمه النموذج في مختلف المستويات، وفي جميع المجالات. واللغات ليست في منجى من ذلك الخضوع. فعندما تكون هنالك لغة تسعى إلى أن تكون الأولى في العالم، أي إلى أن تكون الأكثر استعمالا وانتشارا، متجاوزة في ذلك كل أنواع الحواجز أو الحدود، تصبح اللغات الأخرى وكأنها في حالة اجتياح من قِبَل هذه اللغة. والاجتياح الذي يدْهَم لغة معينة يدفع الناطقين بها إلى العمل على تدبر وسائل للحفاظ عليها، لأنهم يستشعرون بأن ضياعها أو انكفاءها يمكن أن يؤدي بهويتهم الثقافية إلى الضياع أو الانكفاء.

وليس بالخفي أن اللغة العربية- كما يجري استخدامها اليوم- ليست في وضع تُحْسَد عليه. بل إنها في وضع يثير الخشية أو الشفقة. لقد تقلص عدد الذين يحْسِنون التعبير باللغة العربية الفصحى إلى حد مخيف. حتى إن التعبير بلغة سليمة بات في كثير من الأحيان من الأمور المستهجنة أو النادرة، وذلك في مختلف المجالات، وخصوصا في المؤسسات التعليمية بجميع مستوياتها، وعلى رأسها الجامعات. إنه لمن المحزن حقا أن يفتقر مدرسو اللغة العربية أنفسهم إلى المعرفة الكافية بهذه اللغة، فكيف إذا كان معظمهم لا يُلمون بأبسط مقوماتها؟

ليس لدينا مؤسسات تقوم فعلا بخدمة اللغة العربية. فإلى جانب المؤسسات التعليمية التي تعاني من قصور أشرنا إليه، هناك وسائل الإعلام- على اختلافها- التي تظْهِر عدم اعتناء، بل عدم اكتراث باللغة. وإذا كان إتقان اللغة غير شائع لا في التعليم ولا في الإعلام، فأين نذهب للبحث عنه؟ حتى في مجالات الأدب الذي يُكتب اليومَ باللغة العربية، تصدمنا ظاهرة الضعف في اللغة. وإنه لمن أخطر الأمور وأطرفها في آن، أن تسمع أحيانا في الأوساط الأدبية أو النقدية دعوات إلى العزوف عن الاهتمام باللغة. وكأن مثل هذا الاهتمام بات عادة رثة، أو تقليدا باليا.

إذا ما تدبرنا من الوسائل ما يكفي للحفاظ على لغتنا، فإننا في الوقت نفسه نكون قد وفرنا شروطا ملائمة لتفكير أفضل، ووفرنا مناخات أرحب وأغنى لآدابنا

نعود إلى القول إن أخطر ما يواجه أمة من الأمم هو ما يصيبها في لغتها. ونحن الآن أمام مسؤولية جسيمة هي مسؤولية الحفاظ على لغتنا. والحفاظ على اللغة لا يكون بتجميدها ضمن قواعد نهائية، وإنما هو مهمة أصعب من ذلك بكثير، إنه تطوير اللغة بحيث يمكنها أن تكون حية ومعاصرة على الدوام، بمعنى أنه يمكنها استيعاب ما يستجد، من خلال قدرتها على التكيف والتطور. وإذا كانت لغتنا العربية تنطوي في ذاتها على قدرة كهذه، فإن من واجباتنا نحن، الناطقين بها، أن نجسد هذه القدرة في حسْن استخدامنا لها، وفي عملنا الدائب على تحسين هذا الاستخدام وتجديده.
إذا ما تدبرنا من الوسائل ما يكفي للحفاظ على لغتنا، فإننا في الوقت نفسه نكون قد وفرنا شروطا ملائمة لتفكير أفضل، ووفرنا مناخات أرحب وأغنى لآدابنا. وفي تاريخنا ما يدعم صحة هذا القول. فالنشاط اللغوي في عصور الازدهار، وخصوصا في بعض العصور العباسية، كان هو الحافز أو المصدر لمعظم النشاطات الفكرية والأدبية والفقهية... وغيرها.
لغتنا العربية تتميز الآن بميزة فريدة، تتمثل في كونها من أقدم اللغات الحية، وربما كانت أقدمها على الإطلاق. إنه لامتياز رائع حقا أن نستطيع اليومَ قراءة ما كُتب أو قيل في العربية من ألف وخمسمئة عام. أليس رائعا أن نستطيع قراءة الشعر الجاهلي مثلا باللغة التي قيل فيها؟ بينما اليونانيون لا يستطيعون قراءة أفلاطون وأرسطو باللغة التي عبرا بها، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الفرنسيين والإنكليز حيال آدابهم القديمة. ألا يجدر بنا أن نحافظ على امتيازنا هذا، من خلال عملنا الدؤوب على تطوير لغتنا وإبقائها حية؟
علينا أن نتدارك ما يمكن تداركه حيال لغتنا العربية. وعلى مؤسساتنا كلها أن تضع في أولى مهماتها خدمة هذه اللغة وتعزيزها. هذا إذا أردنا الحفاظ على شخصيتنا، وإذا أردنا أيضا أن يكون تفاعلنا مع الثقافات الأجنبية بنّاءً ومثمرا.

font change
مقالات ذات صلة