لو طرحنا اليومَ هذا السؤال: ما الذي سيبقى من شعرنا الحديث، الذي مضى على انطلاقته أكثر من سبعة عقود؟ لربما كان الجواب المرجح أو الأقرب إلى المنطق هو الآتي: يبقى من هذا الشعر جيّده، أو أكثره جودة. ولكنّ هذا الجواب لا يعدو كونه عامّا من جهة، والتفافا على السؤال من جهة ثانية. فهو لا يقدّم أيّ مفتاح للحكم على الشعر من ناحية الجودة. كيف يمكننا اختيار القصائد الجيدة، وإنْ كانت قليلة جدا، من بين الكميات الهائلة من الكتابات الشعرية التي صدرت على مدى العقود السبعة الماضية؟
قد لا يكون السؤال الأخير صعبا على البعض من المنشغلين بقضايا الشعر، والمتابعين لكل ما يطرأ عليه وما يصدر منه. ولكل امرئ منا أحكامه واختياراته. إلا أن السؤال الأول، الذي افتتحنا به هذه المقالة، يرمي إلى تحديد الكيفية التي من خلالها نستطيع تحديد (أو ترشيح) القصائد التي من شأنها أن (تبقى)، بناء على ما يشبه الإجماع على أهميتها وجودتها. قد يقال في هذا الشأن إن الإجماع ليس ممكنا ولا ضروريا، وهو لم يكن حاصلا حتى بالنسبة إلى الأعمال الأدبية التي تكرست، وراحت تحيا في تراث هذه اللغة أو تلك.
إن السؤال، كما طرحناه في البداية، من شأنه أن يقودنا إلى أسئلة كثيرة، وأن يفْضيَ بنا إلى الكثير من التعقيدات والتشعبات، خصوصا لأن الساحة الشعرية العربية عرفت، منذ بدايات الشعر الحديث، حالات من الفوضى والتخبط، تصاعدت اليومَ إلى حدود بعيدة. ولكن، على الرغم من كل ما تقدم، كيف يمكننا التصدي لمسألة الجودة في الشعر، التي من شأنها أن تهيّئ له أسباب البقاء؟
الجودة في الشعر تقوم على عناصر عديدة. وقد يكون مفيدا في هذه المقالة أن نقف على واحد من هذه العناصر، وأن نقارب قضية الجودة في الشعر من خلاله أو انطلاقا منه. مع الإشارة إلى أن عناصر الشعر لا ينفصل بعضُها عن البعض الآخَر، ولا يتحقق واحدها في معزل عن غيره، وإنما هي عناصر متكاملة، لا يعني تعددها استقلالا لأيّ منها.
العنصر الذي سنتوقف عنده لنسوق الكلام عليه هو العلاقة بالتراث، أي العلاقة بين القصيدة العربية الحديثة والتراث الشعري العربي برمّته. والسؤال الذي انطلقنا منه يمكن الآن أن يتخذ هذه الصيغة: هل القصيدة الحديثة الجيدة، المرشحة للبقاء، هي التي تُبْقي على علاقة بالتراث، أم هي التي تحْدِث قطيعة معه؟ أو بالأحرى: أيهما أقرب إلى الجودة، وتاليا إلى البقاء؟
هل نقول إن قصائدنا العربية (الحديثة)، التي عبّرت عن صلات قوية بتراثنا الشعري، هي الأكثر جودة من غيرها، والأكبر حظا في البقاء؟ ربما كان الجواب المناسب: نعم
لو أردنا الاستئناس بتجارب الماضي، في محاولتنا التصدي لهذه القضية، لوجدنا أن الظواهر الشعرية، (الجديدة حقا)، هي التي قامت على استيعاب التراث، أي على معرفته واستلهامه دون الوقوع في تكراره. فالشاعر (الجديد) حقا هو الذي يحْسِن الاستفادة من كل مظاهر (الجِدّة) في تراث أمّته أو لغته.
فالمتنبي مثلا، الشاعر الذي استطاع التعبير عن ثقافة عصره، والذي ظل (جديدا) على مَرّ العصور، وحضوره يملأ أيامنا هذه، عرف كيف يستثمر في شعره معرفته العميقة بالشعر العربي منذ بداياته.
إن جانبا من جوانب العبقرية النادرة التي جسّدها المتنبي يتمثل في إحساسه العميق بذلك (الجديد) الذي انطوى عليه الشعر العربي منذ الجاهلية.
إن الذين قاموا بشرح ديوان المتنبي أقاموا أحيانا صلات بينه وبين سابقيه مثل ذي الرمّة والبحتري وأبي تمام... وغيرهم. ولكن القارئ في الديوان وفي شروحه يتبين بسهولة أن المتنبي ذوّب في شعره ما ورثه عن سابقيه. وجعل قوله يحتضن ما قيل قبله دون أن يكرره. كما جعل من حياته الشخصية ومن ثقافة عصره سبيلا إلى التجديد في المواضيع والمواقف.
بكلمة مختصرة، يمكن القول إن كل شعر جديد ينطوي على نكهة تراثية. وهذا ما عبّر عنه أحد روّاد الحداثة في الشعر، الشاعر والناقد الإنكليزي ت. س. إليوت (1888-1965) عندما قال: إن الشاعر المجدد هو الذي نجد في شعره نكهة أسلافه.
هل نقول إن قصائدنا العربية (الحديثة)، التي عبّرت عن صلات قوية بتراثنا الشعري، هي الأكثر جودة من غيرها، والأكبر حظا في البقاء؟ ربما كان الجواب المناسب: نعم. هذا إذا استطاعت أن تتخذ من التراث منطلَقا لها لا ملجأ، وإذا توفرت لها عناصر (الجِدّة) من جوانب أخرى كثيرة.