الأرض كوكب للسلاح

الأرض كوكب للسلاح

استمع إلى المقال دقيقة

ماذا يمكن لكائن من كوكب آخَر، ذي حضارة نفترض أنها لم تعرف الحروب أو أنها نبذتها بفعل تطور لم نبلغه بعد على كوكبنا، ماذا يمكنه أن يقول عما يشهده عالمنا اليوم، وعما شهده في الماضي القريب أو البعيد، من تهالك على التسلح، أبقى على حياة البشر توازن رعب بين جماعات متناحرة أبدا؟

كيف يمكن لهذا الكائن أن يفهم معنى التطور الذي سلكتْه الحضارة الإنسانية حتى اليوم، والذي لم يقلل من أسباب الحرب، بل أكثرَ منها، على الرغم من توفيره الكثيرَ من وسائل العيش (السهل)، أي العيش الذي يمكنه أن يكتسيَ بمظاهر الليونة والرفاهية ؟

ربما كان من المتعذر، أو الصعب، على ذلك الكائن (المفترَض) أن يفهم منطق الحياة البشرية، الذي لم يذهب به تاريخ طويل من التقدم والرقيّ. لماذا قُدّر للحياة البشرية، منذ البداية، أن تكون محكومة بهذا المنطق الذي يُقرّ بحتمية الحروب أو بضرورتها ؟ وإذا كان هذا المنطق قد فرض نفسه عندما كان الإنسان أعزل في مواجهة الطبيعة، قريبا من الحياة الحيوانية ومنطقها، فلماذا لم يرفعه (الدهر) فوق آليات هذا المنطق، بعد مرور أزمنة لا نعرف مداها بالضبط، استطاع خلالها أن يحقق قفزات هائلة في جميع المجالات، واستطاع أن يرتقيَ بمستواه العقلي أشواطا بعيدة؟

إنه الخوف! جُبِلت عليه حياة البشر. إنه الخوف الذي لا يتناقص مع تطور وسائل العيش، بل يتعاظم. وذلك بتعاظم القدرة على تطوير الأسلحة وجعلها أكثر فتكا وتدميرا. ربما أمكن القول إن "مؤسسة التسلح" كانت لدى البشر، عبر تاريخهم، أكثر المؤسسات عملا ودأبا وتنظيما، وذلك منذ استخدامهم الأسلحة البدائية كالحجر والعصا والفأس، وحتى ابتكارهم أعتى الأسلحة الفتاكة كالكيماوية أو الجرثومية أو النووية، مرورا بالسيوف والرماح وما بعدهما من قنابل ومدافع وصواريخ ودبابات وطائرات وغواصات... وغير ذلك مما يصعب عَدّه أو حصْره.

حاملة طائرات واحدة: كم تحتاج إلى مال وجهد لكي تظلّ على أُهْبة الاستعداد؟ ربما كانت المبالغ التي تُنفَق عليها كافية لمكافحة جزء كبير من الأمراض والمجاعات التي تعصف بسكّان الأرض

جميع المؤسسات التي عمل البشر على إنشائها، كانت تقوم وتقوى وتزدهر، ثم تميل بعد ذلك إلى التداعي والانهيار، قياسا على ما قاله ابن خلدون إزاء قيام الدول واندثارها. إلا أن "مؤسسة التسلح" ربما كانت الاستثناء الوحيد، من بين مؤسسات البشر كلها. فهي الوحيدة التي عملت ولا تزال تعمل دون كلل أو ملل، لا تشبهها في ذلك إلا مؤسسة الموت، التي تختلف عنها في  شيء واحد، هو أن الأخيرة لم تكن في أساسها من منشآت البشر أو اختراعاتهم.
هل يمكننا أن نتصور مدى ما أنفقه البشر، عبر تاريخهم، على التسلح؟ كم أنفقوا من إمكانات وجهود في سبيل الحرب؟ وماذا لو كانوا قد أنفقوا ذلك كله في سبيل العمل على تحسين شروط العيش وإلغاء عوامل التقاتل بين جماعاتهم على أنواعها؟ قد تكون هذه الأسئلة ساذجة في نظر البعض، وقد يجد فيها علماء الأنتروبولوجيا- على سبيل المثال- تجاهلا لمنطق الأمور، أو استخفافا بمظاهر الاختلاف أو التنوع بين الشعوب أو الجماعات أو الفئات البشرية. ولكن، ألا يدفعنا ذلك إلى طرح السؤال الآتي: متى يثور البشر على منطق الأمور ذاك؟
لماذا لا يُحْسن البشر الانتفاعَ بما حققوه من تقدّم في المجالات العلمية والفنية... وغيرها؟ فلينتفعوا من تصورات العلماء والمفكرين والشعراء، وليقولوا إن المستوى الثقافي الذي حققته الحضارات الإنسانية بات في تناقض مع غريزة الحرب أو منطقها. لماذا لا يقولون ذلك على الرغم مما تقرره بعض النصوص في علوم الأنثروبولوجيا والتاريخ والاقتصاد... وغيرها من تأكيد على منطق الصراع الذي يؤدي إلى حتمية الحرب؟
معظم البشر في أيامنا هذه، في عصر التقدم العلمي الهائل، يعيشون تحت خط الفقر، يتضورون جوعا. وفي الوقت نفسه، تبقى الأولوية للتسلح وللإنفاق عليه.
حاملة طائرات واحدة: كم تحتاج إلى مال وجهد لكي تظلّ على أُهْبة الاستعداد؟ ربما كانت المبالغ التي تُنفَق عليها كافية لمكافحة جزء كبير من الأمراض والمجاعات التي تعصف بسكّان الأرض. وليس الإنفاق المسعور على التسلح مقتصرا على الدول المتقدمة أو القوية، وإنما يشمل الدول الفقيرة، بل شديدةَ الفقر. ما معنى ذلك الخوف الذي يدفع البشر إلى التسلح، فيما هم يموتون من الجوع والمرض؟

font change
مقالات ذات صلة