هل كان الشعر مهنة في يوم من الأيام؟ أظن أن الشعر هو دائما، كغيره من الفنون، ازدراء بكل مهنة، وإن اضطر الشاعر في مراحل معينة، بل في أغلب المراحل، إلى استعمال الشعر لكسب العيش، أو لكسب جزء منه.
هذا الكسب أطلق عليه العرب اسم "التكسب"، وكأنهم بهذه التسمية قصدوا إلى تحقير "الكسب" بالشعر، نظرا لما كانوا عليه من تعظيم لشأن الشعر ولمكانة الشاعر في المجتمع، وبالأخص في المجتمع القبلي، حيث كان الشعر مرادفا للنبوغ، وكان الشاعر لسان قومه والمضطلع تلقائيا بقيادتهم.
لا أظن أن الشعر نظر إليه، عبر التاريخ، ولدى مختلف الشعوب، على أنه مهنة كالمهن التي تكون سبلا أو وسائل للارتزاق، وإنما نظر إليه على أنه صناعة (أو فن) أسمى من المهن العادية أو الشائعة، لأنه أكثر منها إبداعا وخلقا، شأنه في ذلك شأن فنون أخرى تنأى بالمرء عن همومه العادية أو اليومية، وتطلقه في مناخات من التأمل والتخيل، مورثة إياه ألوانا من اللذة العقلية أو النفسية أو العاطفية.
ربما كان الشاعر متفرغا للشعر في مراحل من تاريخنا العربي. وخصوصا عندما كان المديح شغله الشاغل. هل نقول إن المديح كان مهنته في تلك المراحل؟ ولو صح لنا هذا، هل نقول إن الشعر كان مهنة آنذاك، رابطين بين المهنة والتفرغ؟ لا أظن أن هذا الربط منطقي تماما، لأننا لا نجد شاعرا اقتصر شعره على المديح، خصوصا في العصرين الأموي والعباسي، حيث كان المديح شائعا جدا. فكل شاعر، وإن شكل المديح جزءا كبيرا من ديوانه، كانت له قصائد في أغراض أخرى، قصائد لا يرجو عائدا من ورائها أو أجرا، فما كان ينظمها إذن على سبيل التكسب.
هذا في الماضي. أما في عصرنا الحديث أو الحاضر، فلم يتسن للشاعر أن يتفرغ للشعر، بل وجد لزاما عليه أن يمارس مهنة توفر له عائدا ماديا، لأن الكتابة الشعرية لا تؤمن له من العائدات المادية إلا ما قل أو ندر. فلم يحظ الشاعر العربي الحديث بفرصة التفرغ للشعر، على غرار ما يحظى به شعراء في دول الغرب، أو في بعضها. ربما كان محمود درويش حالة خاصة عندنا، إذ منحته السلطة الفلسطينية فرصة التفرغ لكتابة لشعر، والاستغناء عن مزاولة عمل آخر. حتى نزار قباني، الذي كان الأكثر شهرة بين الشعراء العرب، والذي لقيت دواوينه رواجا كبيرا، لم يتفرغ تماما للشعر، وزاول أعمالا في مراحل من حياته، منها العمل في السلك الدبلوماسي.
لماذا تراجعت مكانة الشعر أو مكانة الشاعر في أيامنا هذه، خصوصا في المجتمعات النامية، حيث التراجع هو أكثر وضوحا وفداحة منه في المجتمعات المتقدمة؟
والسؤال الذي يمكن طرحه الآن هو: لماذا تراجعت مكانة الشعر أو مكانة الشاعر في أيامنا هذه، خصوصا في المجتمعات النامية، حيث التراجع أكثر وضوحا وفداحة منه في المجتمعات المتقدمة؟ أظن أن هذه الصيغة للسؤال هي البديل عن صيغة كهذه: هل باتت مهنة الشاعر قديمة؟ أو هل انقرضت مهنة الشعر؟
من الواضح أن الشعر في حياتنا الراهنة قد فقد الكثير من مواقعه، وأن كتاب الشعر باتوا يشعرون بأن أعمالهم هي كالمنتوجات التي تعرض على جمهور لا يطلبها. ولو أردنا البحث في هذه الظاهرة، لتشعبت بنا المسالك والاتجاهات، ولوجدنا أنفسنا أمام مسائل ومعضلات شتى. ولكن، على الرغم من كل شيء، ليس لنا سوى القول إن الشعر هو فوق المهن التي تنتظم حياتنا من يوم إلى يوم، لأنه يسعى دائما إلى الارتفاع بحياتنا، بعيدا عن هموم العيش اليومي. ولا نقصد هنا أن الشعر يتنكر لهذه الهموم أو أنه لا يأبه بها. إنه يحتضنها على نحو من الابتعاد أو التحليق أو السمو.
ولهذا السبب، لن يفقد الشعر مهمته السامية (كي لا نقول مهمته الخاصة أو المتميزة)، طالما أننا نحيا وفينا من يتطلع إلى الأعلى، ويدأب على التعبير عن نزعته إلى الارتقاء. ولكن، كيف يقاوم الشعر حيال ما يجتاحه من مستجدات الحياة المعاصرة، في مختلف المجالات؟ هذه المستجدات تجتاح الشعر وطقوسه بقوة، فهي لا توفر في اجتياحها تقاليد الكتابة والقراءة.
لن يملك الشعر سوى المقاومة. وسوف تتجلى مقاومته، كما كان يحدث في كل عصر، باستيعابه لكل ما يستجد، لا بنبوه عنه. سوف يكون للشعر أن يحتضن المنجزات الحضارية المعاصرة، ومنها على وجه الخصوص الثورات العلمية والتقنية التي من شأنها أن تأتي إلينا بطقوس حياتية جديدة، وكذلك بمناخات جديدة لرؤى متنوعة. سوف يكون للشعر، كي يقاوم من أجل بقائه واستمراره، أن يرحب بكل جديد، لا أن يخاف منه. وذلك تناسبا مع طبيعته التي تقوم على الاستمرار من خلال التجدد المستمر.
يخطئ الذين يظنون أن التقدم العلمي يؤثر سلبا على الشعر وعلى مكانته. يخطئ الذين يظنون أن العلم نقيض للشعر، وأن الاثنين يتقدمان أو يتطوران في اتجاهين متعاكسين. الأولى أن نقول إن العلم في أرقى تجلياته هو شعر، وإن الشعر في أرقى تعابيره هو كشف عن حقائق تضاهي الحقائق العلمية. وانطلاقا من ذلك، يمكننا القول إن الشعر والعلم يتقدمان سويا، ويأخذ واحدهما بيد الآخر.
الأولى أن نقول إن العلم في أرقى تجلياته هو شعر، وإن الشعر في أرقى تعابيره هو كشف عن حقائق تضاهي الحقائق العلمية
سوف يبقى الشعر إذن مهنة فوق المهن. وذلك لأنه ليس مهنة، إلا بمعناه الخاص، النابع من طبيعته الخاصة والفريدة والسحرية، طبيعته التي تنبثق من هموم الحياة وتفاصيلها، لا لتكتفي بتصويرها، وإنما لترتفع بها، لتسمو بها عاليا في فضاءات من النبل والنقاء.