من التمرس في الشعر إلى التمرد

من التمرس في الشعر إلى التمرد

استمع إلى المقال دقيقة

ينزع الشعر دائما إلى التمرد على كل ما من شأنه أن يفرض حصارا عليه، نظريات كان أو مفاهيم أو تقاليد أو قيودا فنية. والقيود الفنية يمكن أن تكون لغوية أو بلاغية أو عروضية أو فكرية أو غير ذلك. والشعر في نزعته التمردية إنما يسعى إلى تجديد العالم واللغة، مبتكرا فيهما ما أمكنه من العلاقات والرؤى والأساليب. ولكن التمرد الذي ينزع إليه الشعر لا يحصل بمجرد الرغبة فيه، وإنما يحتاج، لكي يتجسد فعلا في القصائد، إلى إمكانات استثنائية لدى الشاعر. فالتمرد في الكتابة الشعرية يقتضي التمرس بها. والشاعر المتمرد هو الخبير بما يتمرد عليه.

وفي تراثنا الشعري، نجد أن الشعراء الذين حققوا اختراقات أو تحولات في اتجاه أو آخَر هم الذين ألَموا أكثر من غيرهم بمقومات التأليف الشعري، فاستطاعوا أن ينطلقوا من التمكن والتعمق والخبرة ليفتحوا آفاق التمرد والإبداع والتغيير. بهذا المعنى، نستطيع القول إن جميع الشعراء العرب الذين أثروا عميقا في مسيرة الشعر العربي على مدى تاريخه كله، هم متمردون، كل بطريقته الخاصة به. هل نذكر هنا على سبيل المثال بعض الشعراء البارزين في العصر العباسي؟ كأبي نواس الذي كان متمردا من الناحية الفكرية، وأبي تمام الذي تمرد في الناحية البلاغية وابتكار الصُور الغريبة، والمتنبي الذي تمرد في نواح عديدة انطلاقا من موقف أساسي تجلى في قصائده كلها، هو موقف الشعور بالتفوق، وأبي العلاء المعري الذي ثار على معتقدات عصره ودعا إلى تمجيد العقل والاحتكام إليه في جميع الأمور والمجالات.

في العقود التي مضت على انطلاقة الشعر العربي الحديث، كثيرا ما نُظر إلى قضية "التمرد" نظرة سطحية. فالكثيرون من كتاب الشعر وغيرهم رأوْا في شعرنا الموروث قيودا ينبغي التحرر منها، وظنوا أن هذا التحرر أمر سهل، ولا يتطلب سوى التنكر لتلك القيود أو لبعضها، مركزين من بينها على القواعد العروضية، أكثر من تركيزهم على قواعد اللغة مثلا. هل قاموا بذلك لجهلهم بالعروض أو لتخبطهم إزاءه؟ وهل يستوي في التمرد على العروض خبير به وآخَرُ لا يفقه فيه شيئا؟

لقد أُسيء النظر إلى "القيود" في كتابة القصيدة. وقد جرى الحديث عن القيود: أولا من قِبل شعراء القصيدة الحديثة الموزونة (قصيدة التفعيلة) إزاء شعراء القصيدة العمودية، وبعد ذلك من قِبل شعراء قصيدة النثر إزاء شعراء الوزن بعامة.

وتحت شعارات "الثورة" أو "التمرد" أو "التجاوز" أو "تفجير اللغة"... إلخ، حصلت الاستهانة أو الاستخفاف ببعض المقومات الأساسية للكتابة الشعرية. من هذه المقومات ما هو لغوي، ومنها ما هو بلاغي، ومنها ما هو وزني (عروضي). وللتقليل من شأن هذه المقومات، وأحيانا لتضخيم وطأتها أو تضييقها على الشعر، جرى إطلاق كلمة "القيود" عليها.

 لا يحضر في أذهان الكثيرين أن "القيد" مصطلح من المصطلحات المعروفة في علوم البلاغة العربية، فهو ذو دلالات فنية، ولا يعني دائما ما هو مخالف للانطلاق أو التحرر


هكذا لم يجد كثيرون، من كتاب قصائد النثر خصوصا، أي جانب إيجابي لتلك المقومات-القيود، وركزوا هجومهم على الوزن أكثر من غيره، فهو في نظرهم القيد الأكبر. وبعضهم جاهر بموقف العداء لكل كلام موزون! فيما قال البعض الآخَر بإمكانية التعايش بين قصائد النثر وقصائد الوزن.

هنا، أود القول إن القيد الفني من شأنه أن يلعب دوْرا إيجابيا، بل هو ضروري في معظم الأحيان. فالأوزان والقوافي مثلا من شأنها أن تسدد المعانيَ والأفكار، لدى الشعراء الذين يمتلكون القدرة على حُسن التصرف بها، وباللغة عموما. بكلمة أخرى، تكون الأوزان والقوافي عناصر فنية مساعدة، لا معرقِلة، لدى الشعراء ذوي المهارات الكافية في النواحي اللغوية والبلاغية والبنائية... وغيرها.

كلامنا هذا لا يتناقض مع القول إن الكتابة الشعرية تنزع دائما نحو أقصى درجات الحرية. ولكنها في الوقت نفسه تنزع دائما، وفي كل مرة، إلى ابتكار نظامها الخاص، أي إلى خَلق قواعدها أو ركائزها. هل نقول إذن إن الكتابة الشعرية إذْ تُحطم القيود من جهة، إنما تبحث من جهة ثانية عن "قيودها" الخاصة أو الجديدة؟ مهما تكن الكتابة الشعرية حرة أو متفلتة، لا بد فيها من قيود معينة، طالما أنها ترمي في كل مرة إلى بناء نظامها الخاص. فالقيد هنا يعني عنصرا من عناصر النظام المرتجى، وبهذا يكتسب معنى إيجابيا لا سلبيا. ودعاة قصيدة النثر أنفسهم يريدون لهذه القصيدة أن تكون ذات نظام. وهل يمكن لأي نظام أن يتحقق دون قدْر من الضوابط أو القيود؟

ولا يحضر في أذهان الكثيرين أن "القيد" مصطلح من المصطلحات المعروفة في علوم البلاغة العربية، فهو ذو دلالات فنية، ولا يعني دائما ما هو مخالف للانطلاق أو التحرر. وأنا هنا لا أدعو إلى تكريس القيود أو إلى التمسك بها. وإنما أدعو إلى التعامل معها بانفتاح ورحابة، لكي يتسنى لنا أن نجدد نظرتنا إليها، وأن نطور مفاهيمنا إزاءها، حتى وإنْ كنا نرغب في التخلي عنها  أو التحرر منها بهذه النسبة أو تلك. أليس غريبا أن يصبح التعصب ضد الوزن أقوى من التعصب له؟ والتحرر، أيمكن له أن يتلازم مع أشكال من التعصب؟

font change

مقالات ذات صلة