الظاهرة الصوتية في الشعر

لماذا لا نعيد الاعتبار في هذه الطريقة للقيم الصوتية في الشعر؟

الظاهرة الصوتية في الشعر

استمع إلى المقال دقيقة

لقد أُهملت الظاهرة الصوتية في الشعر العربي. أُهملت إلى حد بعيد. وربما، بسبب من ذلك، تراجع الاستماع إلى الشعر.

في خلال العقود السابقة، قيل الكثير من الكلام على أن الشعر بات يُكتب لكي يُقرأ، لا لكي يقال أو يلقى أو ينشَد. نظرا إلى أن الشعر العربي- عبر تاريخه- كان ظاهرة شفوية (أو شفهية) في الدرجة الأولى، أي إنه كان ينظَم لكي يحفَظ ويقال، محتفيا- إلى أبعد الحدود- بما هو صوتي.

في المقابل، نلاحظ اليوم ما يشبه العودة أو الارتداد نحو القصيدة العمودية، خصوصا لدى كتّاب ذوي مواهب واضحة من الجيل الشاب. هل يودّ هؤلاء الكتّاب إعادة الاعتبار للقيم الصوتية في التأليف الشعري؟ وهل يحاولون بذلك تخفيفا من العزلة التي تحاصر الشعر والشعراء؟

هذه العزلة تتزايد في أيامنا، وتكاد الكتابة الشعرية تصبح طقسا فرديا خالصا، يتوجه فيه الكاتب إلى نفسه. أما عدد المهتمين بالشعر، مستمعين كانوا أو قراء، فهو في تناقص مطّرد، على الرغم من تكاثر المناسبات التي يُدعى فيها الجمهور إلى سماع الشعر، في المؤتمرات أو المهرجانات أو الندوات... إلى آخره.

إلى ذلك، يتضاءل عدد الشعراء المشهورين في العالم العربي. ونستطيع القول إن الشعراء الذين يواظبون على إلقاء قصائدهم في المناسبات الشعرية باتوا معروفين، أو حاضري الأسماء، أكثر من أقرانهم الذين يستنكفون عن الإلقاء، أو الذين لا تسنح لهم الفرص لذلك. هل نفسّر هذا الأمر بغير القول إن الشعر لا يزال مطلوبا للسماع أكثر منه لمجرد القراءة؟

ننطلق من هذه الملاحظة الأخيرة لنستأنف كلامنا على الشعر بما يمثله من ظاهرة صوتية، غير غافلين عن واقع انصراف الناس عن الشعر، وكأنه بات عرضا بلا طلب. ننطلق من ذلك لنقول: لماذا لا نفكر في طريقة لتقديم الشعر

يمكنها أن تكون أكثر فاعلية وجذبا لدى الجمهور من الطرق المتبعة حتى الآن؟

ولماذا لا نعيد الاعتبار في هذه الطريقة للقيم الصوتية في الشعر؟ طالما أن الاستماع يمكن أن يكون مرغوبا من الناس أكثر من القراءة، التي تتطلب درجة معينة من الكفاءة والمتابعة. وفي هذا السبيل، ألا يمكن استثمار بعض الوسائل الإعلامية، وبالأخص التلفزيون؟ لن أتطرق في ما تبقى من هذه المقالة إلى وسائل التواصل والمواقع الإلكترونية التي تلعب دورا في هذا المجال. فمن المهم

أن نخصص مساحة كافية للكلام على هذا الدور بإيجابياته وسلبياته.

إن المادة التلفزيونية هي التي تستطيع الوصول إلى جميع الناس بمنتهى السهولة، ولكن عليها أن تصِل بصورة جيدة لكي تكون مقبولة ومؤثّرة.

والاعتبارات التجارية مهمة جدا في هذا المجال، كما هو معروف. وتقديم الشعر من خلال التلفزيون، وفي تركيز على قيمه الصوتية، دونه عقبات كثيرة، أبرزها مجافاته لجميع الاعتبارات التجارية إذا صح التعبير. وفي أساس هذا الواقع قناعة شبه عامة بأن الشعر بات في هامش الحياة، ولم يعُد من الأهمية بحيث ينبغي التفكير في تقديمه إلى الناس على نحو لائق!

إعادة التركيز على القيم الصوتية للشعر، يمكن أن تؤدي إلى تحسين حضوره في حياة الناس، بل إلى تأكيد هذا الحضور وتعزيزه

هنا تبرز المسألة التربوية التي تتمثل في خطأ ابتعاد مؤسساتنا التعليمية والإعلامية عن الاهتمام بالشعر. وفي هذا الابتعاد ما يعبّر بوضوح عن مشكلتنا الثقافية، والحضارية بعامة. فما نطالب به في هذه المقالة، ليس إذن تقديم الشعر عبْر وسائل الإعلام- وفي رأسها التلفزيون- بأية طريقة من الطرق، وإنما نطالب بتقديمه على نحو تتجسد فيه اتجاهات تربوية وذوقية وجمالية، تستطيع أن تُعيد إلى الشعر حضوره البهيّ، الذي يوفّر لحياتنا أفضل المسوّغات. وهذا الأمر يتطلب من مؤسساتنا المعنية بالأمر وعيا بأهمية الشعر أولا، واتجاهات غير تجارية في تقديمه إلى الجمهور ثانيا.
المشكلة والحل هما إذن في التقديم، تقديم الشعر إلى الجمهور. وقبل ذلك، تقديم الشعر إلى التلامذة، خصوصا في مراحل التعليم الأولى. وهذا الأمر يتطلب تطويرا لبرامج التعليم ومناهجه، ما يجعل التلميذ ينجذب إلى الشعر، أو على الأقل لا ينفر منه ومن كل درس يتّصل باللغة العربية.
أخلص إلى القول إن إعادة التركيز على القيم الصوتية للشعر، يمكن أن تؤدي إلى تحسين حضوره في حياة الناس، بل إلى تأكيد هذا الحضور وتعزيزه. ونحن لم نستفِد في هذا السبيل من وسائل الإعلام، وبالأخص من التلفزيون، الذي لا يجري استثماره في خدمة القضايا الثقافية الجوهرية، وإنما يجري استثماره- ويا للأسف- لأغراض تجارية أو دعائية فقط.

font change
مقالات ذات صلة