"كان 2025"... لينكليتر يعود إلى زمن غودار و"صراط" تجربة سينمائية خالصة

أربعة أفلام من فرنسا وألمانيا وأميركا وإسبانيا

AFP
AFP
(من اليسار) الممثل الفرنسي توفيق جلاب، المخرجة والكاتبة أميلي بونا، المغنية والممثلة جولييت أرمان، الممثل فرنسوا رولان، الممثل محمد أرزقي، والممثل بيار-أنطوان بيون

"كان 2025"... لينكليتر يعود إلى زمن غودار و"صراط" تجربة سينمائية خالصة

عكست أفلام "مهرجان كان السينمائي" 2025 في أسبوعه الأول تنوّعا ملحوظا في الأساليب والمقاربات، حيث اتجهت معظم الأعمال المعروضة إلى التعامل مع مفاهيم الذاكرة والانتماء من زوايا مختلفة تراوحت بين البعدين الشخصي والتاريخي، ومن جانب آخر، بين التجريب البنيوي والتعبير البصري المكثف. ولا يقف هذا التنوع عند حدود المواضيع، بل حتى طرائق البناء، إذ بدت بعض الأعمال مشغولة بتفكيك السرد التقليدي، في حين اختارت أخرى الاعتماد على الأثر الحسي والانفعال المباشر أكثر من البنية الحكائية الصارمة.

لعل اللافت في دورة هذا العام هو الحضور الكثيف لأعمال تشتبك مع الزمن بوصفه عنصرا غير مستقر، لا يُقاس بسلاسل الأحداث، لكنه يتشكل عبر التقطيع والتراكب الصوتي والانزياحات البصرية عن الواقعية المباشرة. وقد حضرت ثيمات العائلة والانفصال والعبور في أكثر من فيلم، بأشكال متعددة تتراوح بين الحميمي الرمزي والمحمول السياسي، وهو ما يمنح دورة هذا العام طابعا جماليا يتعامل مع السينما بوصفها مساحة للبحث والمساءلة.

إجازة ليوم واحد

في هذا السياق يأتي الفيلم الفرنسي "إجازة ليوم واحد" Partir un Jour، فيلم افتتاح الدورة الحالية، وهو التجربة الروائية الطويلة الأولى لأميلي بونا Emily Bonnin، وهي مكانة غالبا ما تحمل طاقة افتتاحية رمزية أو مزاجا عاما يضبط إيقاع النغمة. إلا أن الفيلم، رغم احتوائه على بعض الملامح العائلية الدافئة، لم يرتقِ إلى هذا الموقع. بل يمكن القول إنه، لولا وضعه الافتتاحي، لما التفت إليه أحد خارج نطاق توزيعه الفرنسي المحلي.

جاءت المعالجة حذرة ومألوفة وخالية من الجرأة، وبصناعة درامية تفتقر إلى التوهج

يحكي الفيلم المبني على فيلم بونا القصير "باي باي" (2021) قصة سيسيل، الطاهية الصاعدة التي تجد نفسها مرغمة على العودة إلى بلدة طفولتها، ومواجهة والدها، صاحب المطعم الشعبي، في وقتٍ تستعد فيه لافتتاح مطعمها الفاخر. السياق المألوف يعيد تدوير ثنائية الهروب من الأصل والمواجهة معه، مع لمسات خفيفة من نقد الذات البورجوازية الجديدة التي صنعتها برامج المسابقات والنخبوية التلفزيونية. غير أن المعالجة جاءت حذرة ومألوفة وخالية من الجرأة، وبصناعة درامية تفتقر إلى التوهج ولا تتجاوز كونها إعادة ترتيب لأفكار طرحت سابقا بإيقاع أشد قوة.

REUTERS
المخرجة أميلي بونا وأبطال فيلم "Partir Un Jour"، فرنسوا رولان، جولييت أرمان، وتوفيق جلاب، خلال جلسة تصوير خارج المسابقة الرسمية بمهرجان كان السينمائي 2025

"صوت السقوط"... نساء تحت ركام الذاكرة

في المقابل، يأتي فيلم "صوت السقوط" Sound of Falling للألمانية ماشا شيلينسكي، الذي افتتح المسابقة الرسمية، محاولة طموحة على مستوى الشكل والمحتوى، لكنه أخفق في الحفاظ على اتساقه الفني. عمل يشبه الحلم في انسيابه، والكوابيس في أثره، تتبع فيه شيلينسكي نساء من عصور مختلفة يربط بينهن نسب غامض، ويفصل بينهن العنف ذاته، بأقنعة زمنية مختلفة.

شيلينسكي تفتت بالمعنى الحرفي للجملة أكثر مما تسرد، من خلال بنية شعورية وزمنية تعتمد على المونتاج المتداخل والموسيقى الغامضة والتصوير الضبابي الذي يجعل الوجوه والزمان والمكان في حالة دائمة من التبخر. هذا كله يبدو مثيرا للفضول في أول ثلاثين دقيقة، ثم يتحول إلى عبء. فالرغبة في بناء "شعرية سينمائية" حول الذاكرة النسائية، انتهت إلى عمل بلا مركز، ولا إيقاع، وبلا وعي كاف بما تعنيه كثرة الأصوات.

شيلينسكي تفتت بالمعنى الحرفي للجملة أكثر مما تسرد، من خلال بنية شعورية وزمنية تعتمد على المونتاج المتداخل والموسيقى الغامضة

الأصعب من ذلك، أن الفيلم يُثقل ذاته بالتعليق الصوتي المتعدد، حيث تتوالى الأصوات، من الأحياء والأموات، لتحكي لنا ما نراه، أو ما لم نعد نراه. وفي خضم هذا السرد المتكاثر، تفقد كل شخصية صوتها الخاص، وفي بعض المشاهد لا نعرف حتى من يتكلم. هذه الازدواجية الصوتية، التي كان يمكن أن تخلق حالة غنائية عميقة، تنقلب إلى حجاب يمنع التماهي، ويحول التجربة إلى اختبار ذهني أكثر من كونه تجربة شعورية.

AFP
(من اليسار) فريق عمل الفيلم الألماني "In die Sonne schauen" (صوت السقوط) خلال جلسة تصوير في مهرجان كان السينمائي الـ78، 15 مايو 2025، ويضم مخرجين وممثلين من ألمانيا والنمسا وسويسرا

"صراط"، عندما تكون السينما عبورا للجحيم

لعل أفضل عروض هذه الدورة حتى الآن هو "صراط" Sirat للمخرج الإسباني أوليفر لاشي Oliver Laxe، وهو فيلم لا يقترب من الشاشة بل يقتحمها، لا يروى بل يفجر، كتجربة حسية مكتملة تضع الجسد قبل الذهن في مركز الارتجاج. عمل لا يكشف عن وجهه بسهولة. هو يتلوى ويختبئ ويصعق ويعيد تعريف ما يمكن أن تفعله الصورة حين تسلم نفسها للصوت، وما يمكن أن يفعله الصوت حين يسلط على الأعصاب لا على الأذن.

"صراط"، هو ذلك الجسر بين الجنة والنار في الإسلام، وهو أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، وأحر من الجمر، يعبره الناس يوم الحساب بحسب أعمالهم وإيمانهم: منهم من يمضي كلمح البصر، ومنهم من يحبو، ومنهم من يتعثر حتى يكاد يهوي. هذا الأثر الحسي، يظل معلقا على حافة الرجاء والخوف، أي أن لا شيء يوحي بالعبور الآمن، فالأب لويس يصل إلى جبال أطلس بحثا عن ابنته، وسط مهرجان تكنو سفلي يقام في أرض قاحلة مهجورة. بمشهد افتتاحي يرينا مكبرات صوت تُرصّ ككتل معمارية، وجموع راقصة تحت ضوء أزرق شاحب، كأن العالم انتهى منذ زمن، وما تبقى منه يرقص كي لا يسمع.

AP
المخرج أوليفر لاشي مع أبطال فيلم "صراط" خلال جلسة تصوير رسمية ضمن مهرجان كان السينمائي الـ78، 16 مايو 2025

لكن "صراط" هو عمل عن التيه أكثر مما هو عن البحث أو الفقد، عن الانهيار التدريجي للعالم من الداخل، عن الأب الذي يدخل إلى قلب زمن لا يفهمه، ووسط جيل لا يتكلم بلغته، داخل مساحة جغرافية لا تعترف بالقانون ولا بالمنطق حتى. من هنا يصبح الفيلم صورة مجازية عن الإنسانية وهي تتقدم في العتمة.

في الخلفية، العالم ينهار، والمركبات تتحرك وسط العدم، تحمل جيلا لا يهرب من شيء، بل يرقص على حافة النهاية

وفي الخلفية، العالم ينهار، والمركبات تتحرك وسط العدم، تحمل جيلا لا يهرب من شيء، بل يرقص على حافة النهاية. فيلم عن ما بعد المجتمع. لا يمنحنا أوليفر لاشي الدراما بتاتا، بل الصدمة. لا يهمه أن تفهم كل شيء، بل أن تشعر وأن تتألم وأن تتنفس بصعوبة. ولهذا "صراط" هو اختبار، اختبار للجسد، لحدود الطاقة على المشاهدة، وهو لا يرضي بل يهزّ، لا يسلّي بل يربك. وحين ينتهي، لا يغادر كما جاء، بل يترك في المشاهد أثرا حسيا يكاد يكون غير قابل للنسيان.

"الموجة الحديدة"، حين تعود السينما إلى لحظة طيشها الأولى

وسط كل هذا الثقل الحسي والارتجاجات النفسية، والعبور المنهك الذي ساد أفلام النصف الأول من المهرجان، بدا فيلم "الموجة الجديدة" Nouvelle Vague لريتشارد لينكليتر استراحة لا تخلو من الذكاء، نوعا خاص من اللعب المدروس، الخفيف في ظاهره والعميق في أصدائه. وهو تحية مباشرة إلى سينما جان لوك غودار و"الموجة الفرنسية الجديدة"، واستدعاء لتلك اللحظة التي كانت فيها السينما مجازا للشغف وللتهور وللحرية الكاملة في أن تفشل أو تنجح دون أن تخشى التصنيف.

المخرج الأميركي الذي طالما اشتغل على الزمن كمسألة سردية في ثلاثية Before وفي Boyhood، يعود هنا إلى لحظة أسطورية في تاريخ الفن السابع: باريس، عام 1959، تحديدا الحيّ اللاتيني الذي تفوح منه رائحة الحبر والنيكوتين. أما اللحظة فولادة فيلم  Breathless حين حمل شابٌ اسمه جان لوك غودار الكاميرا على كتفه، ونزل إلى الشارع ليصنع سينما لم يرَ مثلها أحد. الفكرة؟ لا سيناريو ولا ترخيص تصوير، بل ارتجال وقفز وتقطيع وتحطيم للقواعد.

REUTERS
المخرج ريتشارد لينكليتر مع فريق فيلم "Nouvelle Vague"، بمن فيهم الممثلة زوي دويتش، خلال جلسة تصوير في مهرجان كان السينمائي الـ78، 18 مايو 2025

لينكليتر يضع فيلمه داخل حكاية خفيفة الظل ومفتوحة البنية، ينفخ فيها الحياة من خلال أسلوب ينتمي إلى روح غودار أكثر مما ينتمي إلى حكايته. الشخصيات تقدّم نفسها مباشرة للمشاهد، الكاميرا لا تخشى النظر إلى الوجوه، ولا من كسر الجدار الرابع. فرنسوا تروفو، إيريك رومير، أنييس فاردا، وجان بيار ميلفيل يظهرون بأسمائهم وصفاتهم، بينما يستعد غودار لتصوير مشاهد من فيلمه الأول، بمساعدة منتج متردد، وبطلة أميركية (جان سيبريغ) لا تفهم بالضبط ما الذي يجري.

لينكليتر يضع فيلمه داخل حكاية خفيفة الظل ومفتوحة البنية، ينفخ فيها الحياة من خلال أسلوب ينتمي إلى روح غودار أكثر مما ينتمي إلى حكايته

في إحدى اللحظات، يتوقف غودار عن التصوير ويقول ببساطة إنه لا يملك فكرة لما تبقّى من اليوم. فيغلق الجميع الكاميرات ويذهبون إلى المقهى. هذه اللحظة تختصر الفارق كله بين زمنين: زمن تُصنع فيه الأفلام لأن هناك شيئا يجب أن يقال، حتى لو لم نعرف بعد ما هو، وزمن تُصنع فيه الأفلام لأن المنصة تنتظر. الفيلم لا يقول هذا صراحة، لكنه يطرحه بذكاء عبر نبرة شبه عابثة، مليئة بالغمز، والفرح المؤجل، والتأمل العابر في ذلك المجد.

هكذا بدت الأيام الأولى من مهرجان كان السينمائي هذا العام، فسيفساء متشابكة من الرؤى والأساليب، تتفاوت في اكتمالها وعمقها، لكنها تشترك جميعا في النزوع نحو السينما بوصفها تجربة. أفلام تتفاوت في القوة، بعضها يسقط في تكرار مكرّس، وبعضها ينهض على الحافة، يغامر ببنيته وصوته، ويعيد تركيب العلاقة بين الفن والمتلقي.

وإذا كان فيلم "صراط" ارتقى إلى مستوى الاستثناء، وفرض حضوره بوصفه لحظة سينمائية خالصة، فإن ما تبقّى من المهرجان لا يزال مفتوحا على مفاجآت قد تؤكد هذا المزاج أو تناقضه. لكن المؤكد حتى الآن أن "كانّ 2025" لا يقدم إجابات، بل يفتح باب الأسئلة على مصراعيه. أسئلة عن الصوت حين يعلو على الحكاية، وعن الصورة حين تقاوم المعنى، وعن السينما حين تصر على أن تكون مسألة شعورية.

font change