"كان 2025" وقلق اللحظة السينمائية

أفلام تصل في اللحظة الأخيرة وحضور عربي

Reuters
Reuters
صورة جوية تُظهر لوحة ضخمة من الملصق الرسمي المزدوج المخصص لتكريم الممثلَين أنوك إيمي وجان-لويس ترينتينيان في فيلم "رجل وامرأة"

"كان 2025" وقلق اللحظة السينمائية

اعتاد جمهور السينما أن يبدأ عامه الحقيقي من مهرجان كان، ليس لأنه الأهم بالضرورة، بل لأنه الحدث الذي يفتح المشهد على اتساعه، تتقاطع فيه الموجات والتيارات، وتبدأ الروايات الجديدة لأفلام قد تصنع موسمها من هنا.

لكن الدورة الثامنة والسبعين، التي تنطلق اليوم، الثلاثاء، 13 مايو/أيار وتستمر حتى 24 منه، لم تحمل ذلك الإيقاع الواثق الذي يميز عادة افتتاحيات كان. هناك شيء مرتبك في الجو العام، تحديدا في الطريقة التي جرى بها الإعلان عنها، وفي التوقيتات المضطربة، وفي التعديلات التي طرأت على البرنامج في اللحظة الأخيرة، وكأن المهرجان العريق بات يلهث خلف سينما متقلبة وصناعة مأزومة أكثر من كونه يسبقها بخطوة كما اعتدنا.

جاءت الدفعة الأولى من الأفلام المعلنة محدودة وباهتة إلى حدّ ما، قبل أن تتبعها لاحقا دفعتان أضيفتا تباعا، أنقذتا القائمة جزئيا، إحداهما لم تُعلن إلا قبل أيام من افتتاح المهرجان. أسماء غابت، وأخرى وصلت في اللحظات الأخيرة، وبعض الأفلام فُرضت فرضا رغم تجاوزها مواعيد التسليم، في مشهد يعكس هشاشة غير معتادة في التنظيم، رغم كل التصريحات التي تؤكد العكس.

بدا مهرجان "كان" هذا العام، الذي اشتهر طويلا بدقته التنظيمية الصارمة، راضخا لضرورات اللحظة السينمائية، يتراجع خطوة كي لا تفوته قاطرة الإبداع، فيقبل بالتأخير والإضافة والارتباك، مقابل أن يكون حاضرا في الزمن الحقيقي للسينما. ثمة أفلام، حتى وإن تجاوزت الشروط الإدارية، تُفتح لها الأبواب، والحقيقة أن هذا ما يجب أن يقوم به أي مهرجان يسعى بصدق إلى احتضان الحاضر وصوغ ملامح المشهد المقبل، لا إلى تكريسه فحسب.

تشارك إسبانيا هذا العام في المسابقة الرسمية بفيلمين للمرة الأولى منذ عقود دون أن يكون بيدرو ألمودوفار طرفا فيهما

من أبرز هذه الإضافات المتأخرة، عودة المخرجة الأسكتلندية لين رامزي بعد غياب منذ فيلمها الأخير "لم تكن هنا حقا" You Were Never Really Here عام 2017. فيلمها الجديد "مت يا حبي" Die, My Love من بطولة جينيفر لورنس وروبرت باتينسون، ويُنتظر منه الكثير نظرا الى تاريخ رامزي مع السينما النفسية الكثيفة والمضطربة. لكن الإعلان المتأخر عن مشاركته يعكس بوضوح التحديات اللوجستية والإنتاجية التي أحاطت به، ويطرح تساؤلات حول مدى استعداد الفيلم فعليا لدخول المنافسة، على الرغم من الثقة التي يبدو أن المهرجان يضعها في صانعيه.

AFP
تشكيلة صور تجمع أعضاء لجنة تحكيم مهرجان كان الـ78

الحدث الأبرز ربما كان انضمام فيلم "الجنائز" للمخرج الصيني بي جان، الذي بقي حبيس الرقابة الصينية حتى اللحظة الأخيرة. كان واضحا منذ شهور أن المهرجان يرغب في عرضه، لكن لم يكن مؤكدا إن كان سيُعرض. أُدرج الفيلم أخيرا في البرنامج، في خطوة بدت انتصارا شخصيا للإدارة، لكنه انتصار جاء متأخرا، ومعه تفتح من جديد الأسئلة حول حدود العلاقة بين الفن والسلطة، ومدى قدرة المهرجانات الكبرى على اختراق الحواجز الرقابية التي تقف في وجه السينما العالمية.

إلى جانب هذا، تبرز مفاجأة مشاركة  إسبانيا في المسابقة الرئيسة بفيلمين، للمرة الأولى منذ عقود دون أن يكون بيدرو ألمودوفار طرفا فيهما. كارلا سيمون، التي فازت بـ"الدب الذهبي" في برلين عن فيلم "ألكاراز"، تحضر بفيلم جديد عنوانه "روميريا"، كما يشارك أوليفر لاكسي، المعروف بحساسيته البصرية العالية، بفيلم آخر عنوانه "سيرات". مشاركة مزدوجة تحمل دلالة واضحة على تجدد الدم الإسباني في كان، وابتعاد تدريجي عن الحضور الأحادي الذي مثّله ألمودوفار لعقود.

يأتي فيلم الافتتاح  فرنسيا للسنة الثالثة تواليا، Barthier de Jour، لفيلم يبدو خفيف النفس، وقصير المدة. يدور حول سيسيل التي تضطر إلى ترك باريس والعودة إلى قريتها بعد مرض والدها، لتعيد اكتشاف حياتها في المكان الذي ظنت أنها تجاوزته. الفيلم لا يحمل وزنا فنيا كبيرا، لكنه يعبّر عن مزاج خفيف ربما يحتاجه المهرجان في أيامه الأولى، في مقابل الزخم الذي ستشهده الأيام اللاحقة. وربما يأتي أيضا في سياق رغبة فرنسية حثيثة في الحفاظ على افتتاح محلي خالص، يعكس المزاج العام أكثر مما يعكس طموحا سينمائيا.

جاء الملصق الرسمي بصورة مزدوجة من لقطة واحدة، مستوحاة من فيلم "رجل وامرأة" لكلود لولوش، في استعارة بصرية تعكس فكرة السينما كثنائية مستمرة بين الرجل والمرأة

في خضم هذا التكوين المتفاوت، جاء ملصق مهرجان "كان" لهذا العام بخيار مفاجئ، بعدما راجت التكهّنات بأنه سيخصّص لأحد الأسماء الراحلة مثل ديفيد لينش أو ألان ديلون، لكنه اختار طريقا آخر. لم يأت بصورة واحدة، بل بوجهين لاحتضانٍ مأخوذ من فيلم "رجل وامرأة" (١٩٦٦) لكلود لولوش: من جهة أنوك إيمي في لحظة ميل، ومن الجهة الأخرى، جان لوي ترينتينيان في اكتمال الالتفاتة. ذات اللحظة، من زاويتين.

في بيان المهرجان، نجد إشارة ذكية إلى كون "الاحتضان" (Étreinte) هو أناغرام (أي إعادة ترتيب حروف كلمة لتشكيل كلمة أخرى) لكلمة "الأبدية" (Éternité)، كأن هذا العناق بتكوينه البصري وشحنته العاطفية يختصر عمر  السينما ذاتها في  فكرة صورة تجمع رجلا وامرأة في لحظة حب تتحول الى رمز شامل.

AP
قصر المهرجانات قبل انطلاق الدورة 78 من مهرجان كان السينمائي الدولي

وهي المرة الأولى التي يعتمد المهرجان ملصقا مزدوجا، وهو قرار يُقرأ كتجديد شكلي يؤكد الثنائية التي قامت عليها السينما: الرجل والمرأة. هذه المرايا المتقابلة تفتح بابا للمشاهدة من جهتين، وتدعونا لنقف بينهما.

أما عن لجنة التحكيم هذا العام، فهي متنوعة على الورق، لكن يصعب استشراف مزاجها وخياراتها. جولييت بينوش تترأس اللجنة، ويشاركها هالي بيري، هونغ سانغ سو، كارلوس ريغاداس، ليلى سليماني، ألبا رورواشر، ديودو حمادي، جيرمي سترونغ، وبايال كاباديا. التنوع الجغرافي واضح، لكن التنوع السينمائي يبقى رهن ما إذا كان المهرجان يبحث عن الجرأة، أم عن نوع من التوازن الديبلوماسي، خصوصا في ظل وجود أسماء تنتمي إلى تيارات شديدة التباين.

الحضور العربي يبرز من خلال ثلاثة أفلام: "سماء بلا أرض" لأريج السحيري، "عائشة لا تستطيع" الطيران لمراد مصطفى، و"كان يا ما كان في غزة" للأخوين ناصر

يتكرر حضور بعض الأسماء التي فقدت بريقها، من دون إفساح مجال حقيقي للتجريب. الأخوان داردين يعودان بفيلم جديد في حضور بات أقرب إلى عرف سنوي. سيرغي لوزنيتسا، ماريو مارتوني، وويس أندرسون، أسماء تتكرر باستمرار، رغم تراجع الجودة أو الجمود الفني. وكان المهرجان قد استحدث قبل سنوات قسم "بريمير" لاستيعاب هذه الأسماء بطريقة احتفائية دون إقحامها في المسابقة، لكن هذا الفصل لم يطبّق بصرامة، مما أعاد هذه الأسماء إلى الواجهة على حساب التجارب الجديدة.

وتشارك السينما  العربية في قسم "نظرة ما"، بثلاثة أفلام. أولها فيلم الافتتاح التونسي "سماء بلا أرض" للمخرجة أريج السحيري، الذي يدور حول راهبة إيفوارية وصحافية سابقة تعيش في تونس وتواجه اختبارا في التضامن بعد وصول طفلة يتيمة إلى مجتمعها. الفيلم الثاني هو "عائشة لا تستطيع الطيران" للمخرج المصري مراد مصطفى، عن فتاة سودانية تعيش في الظل، وسط مجتمع مهاجرين أفارقة في القاهرة، تعمل في رعاية المسنين، وتحاول النجاة بصمت. أما الفيلم الثالث فهو "كان يا ما كان في غزة" للأخوين طرزان وعرب ناصر، الذي تدور أحداثه عن ثلاثة أفراد يعيشون تحت وقع الحصار في قطاع غزة، من خلال دراما تسلط الضوء على الأوضاع الإنسانية من زاوية قريبة من الناس والحياة الواقعية.

Reuters
مشهد من قاعة عروض "أنييس فاردا" ضمن التحضيرات الجارية لانطلاق مهرجان كان الـ78 على الريفييرا الفرنسية

وكانت الدورة السابعة والسبعون من مهرجان "كان" في العام الماضي 2024 منحت "السعفة الذهبية" لفيلم "تحليل سقوط" Anatomie d'une chute للمخرجة جوستين ترييه، فيما فاز فيلم "منطقة الاهتمام" The Zone of Interest للمخرج جوناثان غليزر بالجائزة الكبرى. وقد تميزت تلك الدورة بمشاركة نسائية قوية تتوجت بمنح الجائزة الأعلى لمخرجة للمرة الثالثة فقط في تاريخ المهرجان.

يُمنح روبرت دي نيرو "السعفة الذهبية" الفخرية في هذه الدورة، في خطوة رمزية تتزامن مع الذكرى الخمسين لفوز فيلمه "سائق التاكسي" بـالسعفة الذهبية عام 1976

اللافت هذا العام هو دخول ممثلتين هوليووديتين إلى عالم الإخراج من بوابة "كان". كريستن ستيوارت، التي كان متوقعا ظهورها كمخرجة منذ مدة، تشارك بفيلم "كرونولجيا الماء" Chronology of Water. أما سكارليت جوهانسون، فظهورها مفاجأة حقيقية، مع فيلمها الأول "إليانور العظمى" Eleanor the Great. التجربة لا تزال غامضة، لكن المهرجان يبدو أنه يمنح ثقته لنجماته دون تردد، في تأكيد أن الانتقال من التمثيل إلى الإخراج لم يعد استثناء.

تحضر في أقسام أخرى من المهرجان، أسماء لامعة من خارج المسابقة الرسمية. يعود النجم توم كروز بفيلمه الجديد Mission: Impossible – The Final Reckoning، على أمل تكرار نجاح Top Gun: Maverick، الذي حقق أكثر من مليار دولار. كما يحضر سبايك لي بفيلمه Highest 2 Lowest، المقتبس من فيلم أكيرا كوروساوا High and Low، في تعاون جديد مع دينزل واشنطن. ويُعرض فيلم Honey Don't لإيثان كوين كجزء من ثلاثية "أفلام الدرجة الثانية"، مما يعكس تنوعا في المزاج الأميركي الحاضر بقوة هذا العام.

وسيمنح المهرجان "السعفة" الفخرية للنجم الأميركي روبرت دي نيرو، قبل عام من الذكرى الخمسين لفوز فيلمه "سائق التاكسي" بـ"السعفة الذهبية"، في خطوة رمزية لافتة تبرز العلاقة العميقة بين المهرجان وتاريخ السينما الأميركية.

ويلقي التوتر السياسي والاقتصادي بظلاله على أجواء المهرجان العريق حيث يتوقع أن تحتل مسألة نية الرئيس الأميركي دونالد ترمب فرض رسوم جمركية باهظة على الأفلام التي تنتج خارج أميركا، ما من شأنه أن يهدد صناعة السينما المستقلة ويؤثر على عمليات التبادل الثقافي وسيجبر المهرجان على خوض مواجهة للدفاع عن موقعه وتاريخه وقيمه.

font change