"غزة" ليست مسؤولية نتنياهو وحده

تجري الإبادة بهدوء ومن دون اضطرار حكومة نتنياهو إلى تقديم أي مبرر

"غزة" ليست مسؤولية نتنياهو وحده

استمع إلى المقال دقيقة

أعداد الضحايا الضخمة في قطاع غزة لا زالت ترتفع ويزداد معها الشعور بلامبالاة العالم بالقتل العنيف لعشرات آلاف الأبرياء وقرب موت آلاف الأطفال جراء المجاعة المتعمدة التي ينظمها الجيش الإسرائيلي في القطاع.

لامبالاة الحكومات وجزء كبير من الجمهور، يقابله ذهول وعجز قسم آخر، خصوصا ممن تشكل وعيه في العقود والأعوام السابقة عندما كانت مسائل حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والتدخل لمنع الإبادة، مواضيع تُناقش جديا في المحافل العالمية. الصومال والبوسنة–الهرسك، كانتا من النماذج التي طُرحت حول دور المجتمع الدولي والأمم المتحدة لوقف الكوارث التي يفتعلها البشر، في تسعينات القرن الماضي. حربا الشيشان الأولى والثانية قُدمتا كمثالين مناقضين وكدليلين على الحدود التي يمكن للدول الغربية الوصول إليها في تطبيقها الشعارات. حروب وصراعات لا تقل دموية عصفت في آسيا الوسطى، على سبيل المثال، ظلت طي الإهمال والتجاهل لأسباب تتعلق بضآلة الأهمية الجيوسياسية ولبعد تلك الساحات عن اهتمام الحكومات الغربية والتعقيدات الإثنية والسياسية وراء الحروب في أماكن مثل طاجيكستان.

اتفاقيات هلسنكي في 1975 جاءت لتفرض على الاتحاد السوفياتي السابق وحلفائه حدا أدنى من الالتزام بالحريات الفردية والعامة. واعتبرت خطوة واسعة في طريق تعميم قيم حقوق الإنسان التي كان الغرب يحمل رايتها، مقابل اعتراف الولايات المتحدة ومعسكرها بسيادة دول المنظومة الشرقية والتعهد بعد التدخل في شؤونها الداخلية. غني عن البيان أن الاتفاقيات تعرضت لاختبار قاس، ومن الطرفين، مع اندلاع الاضطرابات العمالية في بولندا وصعود نقابة "تضامن". التدخل الغربي والقمع الشرقي اللذان رافقا تلك الحوادث، كانا شديدي الوضوح وأعلنا أن السياسات العليا أهم وأكثر حساسية من أن تختبئ وراء حقوق الإنسان التي لا مانع من استخدامها كورقة ضغط في المفاوضات بين طرفين متصارعين.

أمر مشابه وقع بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية على الولايات المتحدة. فعودة تعذيب المعتقلين المشتبه في انتمائهم إلى "القاعدة" وقتل آلاف المدنيين الأفغان في غارات الطائرات المسيرة أثناء استهدافها قيادات في تنظيم أسامة بن لادن وحركة "طالبان" أثارا نقاشا ظل أكاديميا وإعلاميا، حول مدى صلاحية عبارة "الأضرار الجانبية" التي تقع بسبب قصف المسيرات عندما يتحول الأمر إلى ممارسة يومية لا تأخذ في الاعتبار أية قيم حقوقية، بل تتوسع لتشمل ساحات أخرى مثل اليمن والصومال على النحو الذي شهده عهدا الرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما. ناهيك عن تبرير الأميركيين لتعذيب المعتقلين، بأنه "لإنقاذ أرواح آلاف الأميركيين" من الخطط الإرهابية التي يرفض أصحاب هذه الخطط الكشف عنها إلا تحت قبضة جلادي "السجون السرية" التي انتشرت حول العالم في الدول الصديقة للولايات المتحدة وحتى في بعض من يعتبر نفسه عدوا لها.

لا يظهر في الأفق تغيير في موقف نتنياهو المستفيد من المرحلة الضبابية الحالية التي تشهد إعادة رسم لمساحات النفوذ التي يرغب الأقطاب الدوليون، القدماء والوافدون حديثا، في احتلالها

في غزة، تجري الإبادة بهدوء ومن دون اضطرار حكومة بنيامين نتنياهو إلى تقديم أي مبرر للعدد المتزايد من الضحايا وجلهم من المدنيين. فالذريعة المعلنة موجودة منذ هجوم "طوفان الأقصى". وما يشبه إجماع المراقبين والمتابعين لتطور الحرب الإسرائيلية على القطاع، يذهب إلى أن ما يحرك القصف الإسرائيلي للخيم والمدارس والمستشفيات التي يسقط فيه المدنيون الفلسطينيون، يتخذ من القضاء على "حماس" ذريعة لكنه يعمل على خلفية مختلفة تماما تتمثل في انتهاز الفرصة لفرض وقائع جديدة ونهائية على الفلسطينيين والعرب من ورائهم. إضافة إلى تكريس نتنياهو لنفسه كزعيم تاريخي في إسرائيل وتوجيه رسائل خارجية عن اعتزامه تدمير كل من يجرؤ على استخدام العنف كوسيلة لتحقيق غايات سياسية تعني إسرائيل. وهذا ما بات يتكرر عندما تُطرح مسألة الوضع الكارثي في غزة. 
ولا يظهر في الأفق تغيير في موقف نتنياهو المستفيد من المرحلة الضبابية الحالية التي تشهد إعادة رسم لمساحات النفوذ التي يرغب الأقطاب الدوليون، القدماء والوافدون حديثا، في احتلالها. ثمة حاجة دائمة في الغرب إلى التغاضي عن إسرائيل مع بعض الانتقادات اللفظية لها ودعوات إلى السماح بمرور المساعدات الإنسانية. لكن هذا لا يرقى إلى مستوى الدعاية التي ما زال الكثير من المسؤولين الغربيين يوزعونها في كل لقاء عن الحاجة إلى احترام حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات. 
المعضلة السياسية والأخلاقية التي تتحمل الأطراف المحلية جزءا لا ينكر من المسؤولية عنها، كمسؤولية "حماس" عن الكوارث التي جلبها "طوفان الأقصى"، ترد عليها القوى الدولية بسلسلة من الهمهمات غير المفهومة وبمحاولة للتهرب من مسؤوليتها عن المذابح اليومية.  

font change