كامي أنرو نحاتة معاصرة برؤية اجتماعية محتجة

معرض جديد لها في نيويورك

© Camille Henrot Courtesy the artist and Hauser & Wirth Photo: Thomas Barratt
© Camille Henrot Courtesy the artist and Hauser & Wirth Photo: Thomas Barratt
معرض "كامي انرو. عدد من الأشياء"، في "هاوزر آند ويرث"، نيويورك

كامي أنرو نحاتة معاصرة برؤية اجتماعية محتجة

تقيم الفنانة الفرنسية المقيمة في نيويورك، كامي أنرو، من خلال منحوتاتها، مقاربة متداخلة الأبعاد ما بين البراءة بصيغتها المفتوحة على كل الاحتمالات، وضمنها الإقبال على المجازفة، وبين الضغوط الاجتماعية التي تتحرك بين طرفي ما يجب أن يفعل وما يجب ألا يفعل في حدود ما يمارسه المجتمع من رقابة على الأفراد. تلك فكرة تبدو غريبة عند إقحامها في عالم الفنون البصرية. ولكن أنرو تبدو مقنعة ومنسجمة مع رؤيتها الجمالية التي لم تفارق الصنيع النحتي، على الرغم من تعدد المواد التي تستعملها حين تقول تعريفا بمعرضها المقام في غاليري "هاوزر أند ويرث" بشارع 22 بنيويورك: "للمجتمع بنية غير مرئية لا ندركها، لأنها الماء الذي نسبح فيه".

"عدد من الأشياء"، هو عنوان المعرض. تسمية تبدو مستلهمة من عالم الرياضيات. تلك تبدو محاولة مرحة لاستدراج معادلات جمالية جديدة إلى عالمها، حين نكتشف أن الفنانة استعارت أدوات لعب كانت شائعة حتى سبعينات القرن الماضي لتعليم الأطفال الحساب. "أن نعد" يمكن أن يتحول إلى فعل رقابي ذاتي بمعنى "أن نعد خطواتنا لكي لا تخرج عن المسار المرسوم لها". لكن العالم الغرائبي الذي تنطوي عليه الأعمال النحتية الكبيرة يمكنه أن يكون أكثر سعة من التصادم بين قطبي العلاقة الاجتماعية، الفرد والمجتمع حين ننظر إليه من جهة عناصر بنائه المفعمة بطاقة شعرية خالصة. تظهر كامي أنرو جانبَي شخصيتها الموزعة بين الحداثة والمعاصرة، فهي نحاتة، وهي في الوقت نفسه صانعة محتوى مفاهيمي.

ترويض الكائنات المختلفة

بدأت عند دخولي إلى صالة العرض بمشهد ثم بعد أن انتهيت من رؤية المنحوتات والرسوم المعروضة، شعرت بالحاجة إلى العودة إلى ذلك المشهد. ذلك هو مشهد الكلاب المربوطة بعمود، كل واحد منها صنع من مادة مختلفة. والمواد المستعملة هي صفائح ألمنيوم وخشب وسلاسل حديد وصوف فولاذي وشمع ومواد أخرى. كل مادة صنعت الكلب المناسب لها. ولو شاءت الفنانة الاكتفاء بعرض كل منحوتة على حدة، لأقامت معرضا للنحت المعاصر يكون هدفه جماليات التعبير وقوته. لكن الفنانة غالبا ما تستجيب في عروضها لعادتها في استعادة ما فعلته في أوقات سابقة لتنفتح من خلاله على ما تفعله في مرحلة لاحقة.

العالم الغرائبي الذي تنطوي عليه الأعمال النحتية الكبيرة يمكنه أن يكون أكثر سعة من التصادم بين قطبَي العلاقة الاجتماعية، الفرد والمجتمع

سبق لكامي أنرو أن منحت عام 2017 تفويضا مطلقا في قصر طوكيو بباريس، هناك حيث أقامت معرضها الرئيس، "الأيام كلاب". المشهد الذي يبدأ به المعرض الحالي، يذكر بتلك التجربة بل ويستعيدها، لكن من خلال توظيفها لخدمة فكرة مزدوجة تجسد قوة الإكراه التي يستعملها الإنسان في فرض طاعته على الكائنات المجاورة تحت مسميات شتى، منها الترويض والتدجين. تلك ممارسة صارت تقليدا انتقل من الخيول والكلاب وسواها من الحيوانات التي صارت خاضعة للإنسان، إلى الإنسان نفسه الذي صار سيدا وخادما حسب موقعه من النظام الاجتماعي. في لوحاتها تبدو كامي أنرو أوضح في التصدي ومواجهة مسألة السلطة، ذلك أن الإكراه لا يمارس إلا من طريق السلطة. وقد تبدو لوحاتها أشبه بلوحات الإعلانات التي يراها المرء حين مغادرته الأسواق، بعد الدفع مباشرة. وفي ذلك إشارة مباشرة إلى أنك قد تعرضت للترويض بطريقة أو بأخرى كونك مستهلكا لا يمكنه الإفلات من تأثير الإعلانات الذي يتسلل إلى حواسه من غير أن يفكر فيه.   

Camille Henrot © Camille Henrot Courtesy the artist and Hauser & Wirth
Dos and Don'ts - Don't (A Manual of Mistakes)

حين عدت إلى مشهد الكلاب المربوطة، رأيته بطريقة مختلفة. في المرة الأولى لم أنتبه إلى معنى أن تكون الكلاب إلى عمود واحد. لم يثر ذلك اهتمامي ولم أتمكن من التقاط الفكرة التي ستجعلني كامي أنرو مهووسا بها من غير حرج. تلك غنيمتها وهي تسخر بطريقة دادائية من معادلة "ما يجب وما لا يجب"، ولكنها تدرك في الوقت نفسه أن ما يرى وما لا يرى سيكون مهما في الكشف عن البعد الاجتماعي في ثقافة الإكراه التي هي مصدر إلهامها الفني.

كل هذا العبث من أجل لا شيء

تنتمي كامي أنرو إلى نوع من الفنانين المعاصرين الذين يزدادون ارتباطا بالفكرة كلما وجدوا صورا تعبر عنها. قد تكون تلك الصور متناثرة تبعا لتشظيها، غير أنها تظل رهينة جوهرها الذي لا يتغير لارتباطه بمفهوم السلطة.

تبدو أنرو أوضح في التصدي ومواجهة مسألة السلطة، ذلك أن الإكراه لا يمارس إلا من طريق السلطة

لا تبحث الفنانة عن الاستثناء من أجل أن تكسر القاعدة، فهي تشعر أن كل شيء من حولها صار يتخذ هيئة عبثية كلما استمرت ضغوط الرقابة في هيمنتها. تقول: "وضع البشر هذه القواعد، لكنها تعسفية تماما. كلما قرأتها أكثر، ازدادت عبثيتها". تقاوم الفنانة المولودة في باريس عام 1978 والتي صارت مدرجة في لائحة فناني الـ"هاي لاين" في تشيلسي بنيويورك، ذلك العبث بالجمال. صارت على يقين من أن في إمكان الفن أن يتصدى لعبث الفكرة بالدعابة وكما قالت: "أؤمن بقدرة الناس على تكوين استنتاجاتهم الخاصة حول شيء ما، ولكن للقيام بذلك، علينا أن نظهر هذا الشيء". للفن وظيفته. تلك جملة عارضة ومضادة. ولكن التفكير في الفن بصيغته المعاصرة يملي على الفنانة تأملا في الدوافع المتنافسة لدمج هياكل المجتمع غير القابلة للمساءلة في حياتنا اليومية ومقاومتها. يظل السؤال المفتوح على جهات مختلفة أساسيا في فن أنرو. كل هذا العبث من أجل لا شيء.

© Camille Henrot Courtesy the artist and Hauser & Wirth Photo: Thomas Barratt
معرض "كامي انرو. عدد من الأشياء"، في "هاوزر آند ويرث"، نيويورك

من أجل أن يكون العالم تحت السيطرة، لا بد من القيام بعمليات تكييف سلوكي. ذلك هو محور الجانب الآخر من المعرض الذي تقدمه الفنانة من خلال لوحات لم ترسمها بل صنعت سطوحها التي تتألف من طبقات من مواد جاهزة من بينها فواتير وصور أشعة للأسنان ورسائل لم تكتمل وواجبات مدرسية وجداول ضرب وقوائم مشتريات ومستندات صرف ودفوعات، إضافة إلى قائمة بالكلمات الألمانية التي تدخل ضمن عملية تصريف الفعل الحاضر "يكون".

أعمال أنرو تتميز بسخائها الجمالي، فهي تشكل مشهدا تصويريا يمكنه أن يكون حاضنة لخيال ذائقة بصرية متحررة من أية فكرة، سابقة كانت أو لاحقة

كل ذلك من أجل أن تدخل فكرة "ما يجب فعله وما لا يجب" في سياقها المكرس اجتماعيا وثقافيا. هناك "NO" كبيرة تحتل النصف الأعلى لإحدى اللوحات. تلك الكلمة المتمردة، تضعها الفنانة خلفية للمشاهد المستلهمة من ألعاب الأطفال التي يغلب عليها الطابع العقلاني أو التربية من طريق الأرقام.

Camille Henrot © Camille Henrot Courtesy the artist and Hauser & Wirth
Herbert

فنانة معاصرة ونحاتة حديثة معا

في فن كامي أنرو شيء استثنائي يضعه داخل الفكرة وخارجها في الوقت نفسه، بالمعنى الذي يعيد إلى الجمال اعتباره. صحيح أنها تدفع مشاهد أعمالها إلى إعادة التفكير في أنظمة التحكم التي تعمل على استهلاك جزء من الطاقة البشرية، وذلك جانب نظري سعت الفنانة من خلاله إلى إشاعة مفاهيم جديدة عن علاقة الإنسان بمحيطه، غير أن ما هو صحيح أيضا أن أعمال أنرو تتميز بسخائها الجمالي، فهي تشكل مشهدا تصويريا يمكنه أن يكون حاضنة لخيال ذائقة بصرية متحررة من أية فكرة، سابقة كانت أو لاحقة. وقد سرني أن أنظر إليها باعتبارها نحاتة معاصرة. فالنحت وهو فن صعب، صار، بعد الإسباني تشيلدا والأميركي ريتشارد سيرا، في حاجة إلى معالجات جديدة تضع المواد الجديدة في اعتبارها. استعملت أنرو في معرضها مواد لم تستعمل في النحت سابقا في معرض واحد، وأثبتت أنها قادرة على تطويع تلك المواد من أجل خلق أشكالها التي هي مزيج من الواقع والخيال، واقع ما رأته وخيال ما لم تره. وبهذا تجمع بين كونها فنانة مفاهيمية ونحاتة بالمعنى الحديث.  

font change