عالم نوح ديفيس المفتوح على حياة الناس العاديين

The Estate of Noah Davis Courtesy The Estate of Noah Davis and David Zwirner
The Estate of Noah Davis Courtesy The Estate of Noah Davis and David Zwirner
لوحة ل"نوح ديفيس"

عالم نوح ديفيس المفتوح على حياة الناس العاديين

"أكتشف عالم نوح ديفيس" تلك هي الجملة التي كُتبت بحروف كبيرة في ممر الدخول لمركز باربيكان الفني بلندن. هل كانت تلك الجملة الترويجية المستفزة مضللة؟ يمكن أن تكون كذلك لو كان الفنان حيا. غير أن ديفيس توفي عام 2015 عن 32 سنة بسبب إصابته بالسرطان. كان واحدا من مؤسسي متحف "أندرغراوند" في لوس أنجليس. بدلا من "فوق الواقع" وهو المكان الذي سعت إليه السوريالية حل الواقع الذي يقع مجازا تحت الأرض، بمعنى انجذابه لعزلته الطبقية والعرقية بما يهبه طابعا خاصا، لا يمنع فقر المكان فيه من غنى خيال الحياة. لقد ذهب ديفيس بفنه إلى التقاط اللحظات التي يكون فيها ذلك الواقع الفقير في أحياء الأفارقة الأميركيين مترفا بما اخترعه أبناؤها من أساليب ووسائل حياة.

أراد ديفيس أن يقول من خلال لوحاته "هنا أيضا تكون الحياة ممكنة بطريقة إنسانية". رؤية اللوحات من غير التعرف على خلفياتها الفكرية والاجتماعية، تفقدها الكثير من خصائصها. ربما سيقع المرء حينها في فخ المقارنة الفنية بين الواقعية المفرطة وواقعية مثلها فن ديفيس وآخرين يمكن أن يُطلق عليها خطأ اسم الواقعية الفجة. وهو مصطلح كنت اخترعته قبل أن أقرأ الملاحظات التي كتبها منسقو المعرض الذي ما كان يمكن أن يُقام في مركز باربيكان، وهو مكان حيوي تجتمع فيه كل الفنون لولا أن الفنان على الرغم من قصر تجربته الفنية كان قد تم تبنيه من قبل قاعات كبرى للعرض الفني في الولايات المتحدة وهو ما يلقي ضوءا على طبيعة عمل القاعات والمتاحف الفنية في عصرنا. وهي طبيعة يتخللها الكثير من الدسائس والمناورات التي لا تأخذ في نظر الاعتبار القيمة الفنية المجردة.

رسام الطبقة العاملة السوداء

وصف نوح ديفيس فنه بأنه "حالات تتصادم فيها الجماليات الأفريقية بالجماليات الحديثة" هو يقصد التكامل بين عالمين إذا ما وضعناهما على الميزان يبدوان منفصلين تماما على مستوى الرؤية الفنية، غير أن ما خدم ديفيس وسواه أن الشركات الفنية الكبرى كانت استعانت بنقادها للزج بالرسم في عالم الفنون المعاصرة. وهذا ما يبدو جليا في العروض المستمرة التي تقيمها قاعات "ساتشي" بلندن حيث صار الرسم الذي يعلي من شأن الموضوع على حساب الحرفة والأسلوب والخيال مطلوبا لكي يكون هناك رسم معاصر مجاور للرسم الحديث بل ويمكن أن يشكل تهديدا له.

صار الرسم الذي يعلي من شأن الموضوع على حساب الحرفة والأسلوب والخيال مطلوبا لكي يكون هناك رسم معاصر مجاور للرسم الحديث

لقد كان نوعا من البداهة أن لا يُنظر إلى قيمة العمل الفني وأهميته من جهة الموضوع الذي يتناوله بل من جهة المعالجة الفنية. فليست هناك أفضيلة لصور الملاحم على صور حذائي فنسنت فان غوخ وكرسيه وسريره. غير أن تلك النظرية التي كانت إلى حد كبير محور الحداثة الفنية قد انقُلب عليها حين قررت الشركات الفنية أن تخلق تيارا في الرسم يتميز بشعبوبيته ليكون فنا معاصرا.

Patrick O'Brien-Smith
نوح ديفيس

ذلك ما يصح على فن نوح ديفيس الذي لا يمكن النظر إليه باعتباره فنا رفيع المستوى. فلا هو بالفن الذي يتناغم مع قيم الحداثة الفنية ولا هو  فن يتمترس خلف التربية الفنية المدرسية ولا هو فن متمرد على الحرفة وعلى خيال الحداثة معا. غير أن ديفيس حسب وصف المروجين لفنه وهم أصحاب نفوذ هو رسام الطبقة العاملة السوداء في لوس أنجليس. ذلك وصف فيه شيء من التقديس في إمكانه أن يمنع أية محاولة للاستفهام أو المناقشة.

Jemima Yong Barbican Art Gallery
معرض لوحات ل"نوح ديفيس"

قوة المال وقوة النقد

لم يجرؤ أحد على القول علنا إن لوحات ديفيس عادية وليس فيها أي ملمح من ملامحم الإبداع الفني فهي تشير إلى موهبة ودربة ضعيفتين في الرسم. لا لشيء إلا لأن ديفيس صار ظاهرة فنية اخترقت حدود المساءلة والمراجعة النقدية. ظاهرة هي أشبه بظاهرة جان ميشال باسكيا، رسام الشارع الذي تبناه أندي وارهول والذي هو الآخر مات صغيرا. لوحات باسكيا تُباع حاليا بالملايين حين تُعرض في المزادات وتتنافس المتاحف على إقتنائها. ما يجب الاعتراف به هنا أن قوة السوق هزمت قوة النقد. والأسوأ أن المال صنع نقادا يدافعون عن ذائقته ويعيدون صياغة تاريخ الفن من أجل أن يكون مناسبا لإرادته. إن قلت "هذا ليس فنا" فإنك ستحكم على نفسك بالنفي، وليس من قبيل المبالغة القول إن هناك نقادا فقدوا وظائفهم في صحف أوروبية وأميركية مرموقة لأنهم تصدوا للظواهر الفنية المدعومة بالمال.

هناك أسباب كثيرة لتبني فن نوح ديفيس وهي أسباب مقنعة في إطار فكر ما بعد الحداثة

ما صار مطلوبا من نقاد الفن أن يضمنوا مقالاتهم فقرات من التعليقات التي يرفقها منسقو المعارض بأعمال الفنانين من أجل أن تكون مصدرا للفهم. تلك فضيحة مزدوجة. من جهة أن هناك إلغاء لقيمة التجربة البصرية في التلقي من خلال خضوعها للأفكار المسبقة الجاهزة، ومن جهة أخرى فإن النقد يفقد واحدة من أهم خصوصياته، حريته في التعبير عن موقفه الجمالي المستقل.

The Estate of Noah Davis Courtesy The Estate of Noah Davis and David Zwirner
لوحة ل"نوح ديفيس"

مضامين إنسانية عميقة

مات نوح ديفيس صغيرا وترك وراءه 400 لوحة. كان من الممكن أن تتطور تجربته الفنية لو بقي حيا. لم يبق من فنه سوى المضامين. ذلك رأي سيكون محل اعتراض المروجين لفنه وقد يكونون محقين. تلك مضامين تصلح لأن تُروى في كل زمان فهي تنقل تفاصيل حياة، تتخللها المعاني الإنسانية العميقة التي تفتح الباب على قدرة البشر العاديين على أن يؤثثوا عزلاتهم بترف العيش المتواضع. لا يخفي العارفون بفن ديفيس أن الفنان كان يلجأ إلى الصور الفوتوغرافية مرجعا لممارسته الفنية. عذره في ذلك أن كل شيء يتغير أثناء الرسم. ولكن سؤال القيمة الجمالية يظل قائما حتى في ظل إقبال المتاحف الأميركية مثل متحف متروبوليتان بنيويورك على أعماله.

Jemima Yong Barbican Art Gallery
معرض لوحات ل"نوح ديفيس"

على مستوى عملي من الصعب تفنيد ما يؤكده منسقو المعارض في  المتاحف الكبرى. في ذلك خطر مؤكد. السبب ي ذلك يكمن في أن التنظير النقدي ركز على ما رسمه ديفيس. سبل وأساليب عيش الأميركيين الأفارقة في منطقة محددة من لوس أنجليس. رسم ديفيس عائلته وأصدقاءه ومشاهد تتوزع بين السوق والبحر والبيوت وملاعب الأطفال والشوارع والحانات وكل ما يُستعار من البيئة لكي يكون صالحا للامتزاج بالتعبير عن شعور فئة بعينها. هناك أسباب كثيرة لتبني فن نوح ديفيس وهي أسباب مقنعة في إطار فكر ما بعد الحداثة ولكن ليس من بينها خياله الواسع أو مهارته التقنية.

font change