"أكتشف عالم نوح ديفيس" تلك هي الجملة التي كُتبت بحروف كبيرة في ممر الدخول لمركز باربيكان الفني بلندن. هل كانت تلك الجملة الترويجية المستفزة مضللة؟ يمكن أن تكون كذلك لو كان الفنان حيا. غير أن ديفيس توفي عام 2015 عن 32 سنة بسبب إصابته بالسرطان. كان واحدا من مؤسسي متحف "أندرغراوند" في لوس أنجليس. بدلا من "فوق الواقع" وهو المكان الذي سعت إليه السوريالية حل الواقع الذي يقع مجازا تحت الأرض، بمعنى انجذابه لعزلته الطبقية والعرقية بما يهبه طابعا خاصا، لا يمنع فقر المكان فيه من غنى خيال الحياة. لقد ذهب ديفيس بفنه إلى التقاط اللحظات التي يكون فيها ذلك الواقع الفقير في أحياء الأفارقة الأميركيين مترفا بما اخترعه أبناؤها من أساليب ووسائل حياة.
أراد ديفيس أن يقول من خلال لوحاته "هنا أيضا تكون الحياة ممكنة بطريقة إنسانية". رؤية اللوحات من غير التعرف على خلفياتها الفكرية والاجتماعية، تفقدها الكثير من خصائصها. ربما سيقع المرء حينها في فخ المقارنة الفنية بين الواقعية المفرطة وواقعية مثلها فن ديفيس وآخرين يمكن أن يُطلق عليها خطأ اسم الواقعية الفجة. وهو مصطلح كنت اخترعته قبل أن أقرأ الملاحظات التي كتبها منسقو المعرض الذي ما كان يمكن أن يُقام في مركز باربيكان، وهو مكان حيوي تجتمع فيه كل الفنون لولا أن الفنان على الرغم من قصر تجربته الفنية كان قد تم تبنيه من قبل قاعات كبرى للعرض الفني في الولايات المتحدة وهو ما يلقي ضوءا على طبيعة عمل القاعات والمتاحف الفنية في عصرنا. وهي طبيعة يتخللها الكثير من الدسائس والمناورات التي لا تأخذ في نظر الاعتبار القيمة الفنية المجردة.
رسام الطبقة العاملة السوداء
وصف نوح ديفيس فنه بأنه "حالات تتصادم فيها الجماليات الأفريقية بالجماليات الحديثة" هو يقصد التكامل بين عالمين إذا ما وضعناهما على الميزان يبدوان منفصلين تماما على مستوى الرؤية الفنية، غير أن ما خدم ديفيس وسواه أن الشركات الفنية الكبرى كانت استعانت بنقادها للزج بالرسم في عالم الفنون المعاصرة. وهذا ما يبدو جليا في العروض المستمرة التي تقيمها قاعات "ساتشي" بلندن حيث صار الرسم الذي يعلي من شأن الموضوع على حساب الحرفة والأسلوب والخيال مطلوبا لكي يكون هناك رسم معاصر مجاور للرسم الحديث بل ويمكن أن يشكل تهديدا له.