منذ أن بدأت إسرائيل حملتها العسكرية القاسية في غزة متحدية الرأي العام العالمي، وجدت نفسها فجأة تحت ضغط دولي متزايد لمعالجة المعاناة المروعة التي يعيشها المدنيون الفلسطينيون.
عندما أطلقت إسرائيل عمليتها العسكرية للقضاء على المسلحين الفلسطينيين المدعومين من إيران عقب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان أغلب الرأي العام العالمي يقف بقوة إلى جانب إسرائيل. فبعد أن قتل مسلحو "حماس" ما يُقدّر بنحو 1200 شخص خلال هجومهم على إسرائيل عام 2023، وأسروا أكثر من 250 شخصا، أيد معظم قادة العالم حق الدولة اليهودية في الدفاع عن نفسها.
ورغم الأنباء عن أن الحملة العسكرية الإسرائيلية أودت بحياة أكثر من 50 ألف فلسطيني، فقد استمر الدعم الدولي لإسرائيل، في ظل تصاعد الانتقادات العالمية لنهجها في هذا الصراع، حيث اتهمت منظمات حقوقية الجيش الإسرائيلي بعدم بذل الجهد الكافي لتجنب وقوع ضحايا مدنيين في حربه على "حماس".
وقد تصاعدت هذه الانتقادات بعد أن استأنفت إسرائيل القتال في غزة عقب انهيار اتفاق وقف إطلاق النار في وقت سابق من هذا العام، وهو الاتفاق الذي أدى إلى الإفراج عن عدد من الرهائن الإسرائيليين مقابل خروج مئات السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، والسماح بدخول مساعدات إنسانية ضرورية إلى غزة.
أدى انهيار الهدنة، مع تبادل الطرفين الاتهامات بالمسؤولية عن استئناف القتال، إلى تقارير بأن مئات الآلاف من الفلسطينيين في غزة يواجهون خطر المجاعة بعد أن فرضت إسرائيل عمليا حصارا على القطاع في الثاني من مارس/آذار، ما حال دون دخول الغذاء والإمدادات الطبية الضرورية.
وتصرّ إسرائيل على أن هذه الخطوة ضرورية لأن "حماس" كانت تنهب المساعدات وتستخدمها لدعم عملياتها ضد إسرائيل. لكن الأزمة الإنسانية الوشيكة في غزة أثارت استنكارا عالميا، حيث دعا توم فليتشر، كبير مسؤولي المساعدات في الأمم المتحدة، مجلس الأمن إلى التحرك الحاسم لمنع "الإبادة الجماعية" في غزة.
وخلال إحاطة أمام مجلس الأمن، تساءل فليتشر، المسؤول عن الحفاظ على تدفق المساعدات إلى غزة: "هل ستتحركون- بشكل حاسم- لمنع الإبادة الجماعية وضمان احترام القانون الإنساني الدولي؟".
دفع تفاقم الأزمة في غزة كندا وفرنسا والمملكة المتحدة إلى الاتحاد وتحذير إسرائيل بأنها ستواجه "إجراءات ملموسة" إذا استمرت في توسيع عملياتها العسكرية "الفاضحة" في القطاع
وبحسب القانون الدولي، تُعرّف الإبادة الجماعية بأنها نية تدمير مجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية كليا أو جزئيا، عبر القتل أو التسبب بأذى جسدي أو نفسي جسيم، أو فرض ظروف حياة تؤدي إلى التدمير الجسدي.
ردت إسرائيل بغضب على تصريحات فليتشر، إذ اتهمه سفيرها لدى الأمم المتحدة، داني دانون، بإلقاء "موعظة سياسية" واستخدام مصطلح الإبادة الجماعية كسلاح ضد إسرائيل، متسائلا عن الصلاحيات التي خولته إطلاق مثل هذا الاتهام في نظر إسرائيل.
وكتب دانون: "كان لديك الجرأة، بصفتك مسؤولا رفيعا في الأمم المتحدة، للوقوف أمام مجلس الأمن وتوجيه تهمة الإبادة الجماعية دون دليل أو تفويض أو تحفّظ. لقد كان تصريحا غير لائق إطلاقا وغير مسؤول إلى أبعد حد، حطم أي فكرة عن الحياد".
ومع ذلك، يبدو أن محاولات إسرائيل لصرف الانتقادات تذهب سدى في ظل القلق المتزايد بين قادة الغرب حيال نهجها المتشدد.
دفع تفاقم الأزمة في غزة كندا وفرنسا والمملكة المتحدة إلى الاتحاد، وتحذير إسرائيل بأنها ستواجه "إجراءات ملموسة" إذا استمرت في توسيع عملياتها العسكرية "الفاضحة" في القطاع. ففي بيان مشترك، دعا قادة الدول الثلاث الحكومة الإسرائيلية إلى "وقف عملياتها العسكرية فورا"، و"السماح الفوري بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة".
وأدان كل من رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علنا سياسات إسرائيل في غزة، معتبرين أن "منع المساعدات الإنسانية الأساسية عن السكان المدنيين أمر غير مقبول وقد يخرق القانون الإنساني الدولي". وأضافوا أن مستوى المعاناة في غزة "لا يُحتمل".
وصف لامي دعوات بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية لتطهير غزة بأنها "وحشية"، معتبرا أن التصريحات "مستفزة ومتطرفة". وقال إن رفض إسرائيل السماح بدخول آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات إلى غزة يمثل "إهانة لقيم الشعب البريطاني"
كما استنكروا "اللغة البغيضة التي استخدمها مؤخرا بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية، والتهديد بأن المدنيين، في يأسهم من دمار غزة، سيبدأون بالنزوح". وأضافوا: "الترحيل القسري الدائم يعد خرقا للقانون الإنساني الدولي". وأكد القادة الثلاثة دعمهم الدائم لحق إسرائيل في الدفاع عن مواطنيها من الإرهاب، "لكن هذا التصعيد غير متناسب إطلاقا". كما طالبوا "حماس" بالإفراج الفوري عن الرهائن المتبقين الذين اختُطفوا في "الهجوم الشنيع" على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر 2023.
وظهر دليل إضافي على أن قادة العالم يزدادون غضبا من نهج إسرائيل في غزة بعد إعلان المملكة المتحدة تعليق محادثات اتفاقية تجارة حرة مع إسرائيل وفرض عقوبات على مستوطنين في الضفة الغربية.
في الوقت ذاته، استدعت وزارة الخارجية البريطانية السفير الإسرائيلي لإبلاغه بمخاوفها. وأكد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي أن الحكومة تنظر أيضا في فرض عقوبات على وزراء، مضيفا: "نُبقي هذه المسائل قيد المراجعة".
وذكر مسؤولون بريطانيون أنهم يضعون خططا مع دول أخرى لفرض عقوبات على وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير الدفاع الإسرائيلي كاتس، وآخرين.
ووصف لامي دعوات بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية لتطهير غزة بأنها "وحشية"، معتبرا أن التصريحات "مستفزة ومتطرفة". وقال إن رفض إسرائيل السماح بدخول آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات إلى غزة يمثل "إهانة لقيم الشعب البريطاني"، واتهم حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنها "تعزل إسرائيل عن أصدقائها وشركائها حول العالم".
تشكل تصريحات لامي أقوى إدانة بريطانية لإسرائيل منذ اندلاع الحرب مع "حماس" عام 2023.
ويعتزم الاتحاد الأوروبي كذلك مراجعة اتفاق يحكم علاقاته السياسية والاقتصادية مع إسرائيل بسبب الوضع "الكارثي" في غزة، بحسب كبيرة دبلوماسيي "الاتحاد" كايا كالاس، بعد اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء. وقد أيدت أغلبية واضحة من الدول الأعضاء الاقتراح الهولندي بمراجعة الاتفاق التجاري مع إسرائيل.
وفي مؤشر إضافي على تصاعد الضغوط الدولية على إسرائيل لإنهاء الأعمال القتالية في غزة، أُفيد بأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، المعروف بدعمه القوي لإسرائيل، بدأ يشعر بالإحباط مما يعتبره رفضا من جانب إسرائيل لإنهاء الحرب. وبينما يتردد البيت الأبيض في انتقاد إسرائيل علنا، أفادت تقارير بأن ترمب قال للمسؤولين في إدارته إنه يتوقع من نتنياهو أن "ينهي" الحرب. ويعتقد الرئيس أن المعاناة في غزة بلغت مستويات غير مقبولة، وقد أزعجته صور الأطفال المتألمين.
في الوقت الراهن، لا تزال حكومة نتنياهو متمسكة بموقفها، مؤكدة أنها ستواصل هجومها العسكري للقضاء على "حماس". لكن إذا استمر الضغط الدولي في التزايد، فقد يجد نتنياهو نفسه قريبا مضطرا إلى وقف القتال.