لغة جديدة في طهران

شخصيات عدة كانت طهران تُصرّ على وضعها في خلفية التفاوض، لم تعد موجودة

لغة جديدة في طهران

استمع إلى المقال دقيقة

المفاوضات الإيرانية–الأميركية مختبر واسع لتجربة المناورات والاقتراحات الحقيقية والزائفة والطروحات الجدية وتلك التي تنطوي على اختبارات للطرف الآخر أو لأطراف غير مشاركين في المفاوضات من الأصل.

هناك من قرأ في طلب الولايات المتحدة من الإيرانيين وقف التخصيب واستيراد اليورانيوم المخصب من الخارج على غرار باقي الدول التي تشغّلُ مفاعلات نووية، بأنه رسالة ترضية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قيل إنه غضب بعد الاتفاق الأميركي مع الحوثيين في اليمن على امتناع الأخيرين عن مهاجمة السفن الأميركية في البحر الأحمر وخليج عدن، من دون التشاور معه. لذلك، روّج الأميركيون أنهم يتخذون موقفا متشددا في مجال التخصيب فيما الواقع ليس كذلك. وبدا أن المرشد الإيراني علي خامنئي يجاري الأميركيين في هذا "التانغو" فأعلن عن تشاؤمه من إمكان التوصل إلى نتيجة في المفاوضات.

فالإيرانيون يعلنون منذ سنوات طويلة تمسكهم بما يُعرف "بالدورة الكاملة" لإنتاج الطاقة النووية التي تبدأ مع استخراج اليورانيوم الخام ثم معالجته وتخصيبه واستخدامه في المجالات المختلفة من توليد الكهرباء أو الأبحاث الطبية وبعض النواحي الزراعية. وواضح أن "الدورة النووية الكاملة" تترك المجال مفتوحا أمام طهران لاختيار نسبة التخصيب التي ترغب فيها، وصولا إلى رفعها حتى 90 أو 95 في المئة أي النسبة اللازمة للسلاح النووي. ولم يهمل الإيرانيون اللعب على هذه النقطة في إعلاناتهم المتكررة عن أنهم قد وصلوا في درجة التخصيب إلى الستين في المئة وهي نسبة تزيد كثيرا عن حاجة مفاعلات توليد الطاقة الكهربائية مثل الموجود في بوشهر. فالمفاعلات المخصصة لتوليد الطاقة لا تحتاج إلى يورانيوم مخصب بأكثر من خمسة في المئة. نسبة الستين في المئة المعلن عنها رمت إلى التأكيد على قدرات إيران على الوصول إلى "العتبة" النووية لكن من دون تجاوزها إلى النسبة "العسكرية".

يضاف إلى ذلك أن المشروع النووي في إيران تحول مع الوقت إلى مادة للفخر القومي في ما يشبه الإجماع بين كافة القوى والتيارات التي تتنافس في ما بينها على التمسك به ورفض التنازل عنه. ومعلوم أن الإيرانيين ينظرون إلى المشروع كإنجاز سياسي وعلمي ضخم، انتقلوا به من مجموعة هياكل إسمنتية تركتها شركة "سيمنس" الألمانية في بوشهر بعد سقوط حكم الشاه السابق، إلى عشرات المنشآت الضخمة التي كلفت مليارات كثيرة من الدولارات وتعرضت لهجمات إسرائيلية وأميركية شملت اغتيال الكثير من العاملين فيها وجلبت عقوبات اقتصادية على إيران.

عليه، فإن المشروع النووي الإيراني لن يختفي، على ما تعلن طهران بأصوات المتحدثين باسمها. لكنه للمرة الأولى يبدو أنه يُعرض بتفاصيله ومكوناته على مائدة التفاوض خلافا لما جرى أثناء عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما كانت إيران تمتلك الكثير من الأوراق التي تستطيع إبرازها في مفاوضات "5+1" والتي أسفرت عن "خطة العمل الشاملة المشتركة" المعروفة باسم الاتفاق النووي الأميركي–الإيراني لسنة 2015 والذي ألغاه الرئيس دونالد ترمب في 2018.

إيران التي رفضت في جولات ما قبل اتفاق 2015 مناقشة دورها الإقليمي، تعي أنها خسرت الكثير من هامش المناورة الذي كان يوفر لها طيفا من الخيارات

إلى جولة المفاوضات هذه، تأتي إيران بعد انهيار محورها الذي امتد من غزة إلى العراق واليمن مرورا بسوريا ولبنان. المشهد الإقليمي تغير جذريا وشخصيات مثل حسن نصرالله وبشار الأسد كانت طهران تُصرّ على وضعها في خلفية العملية التفاوضية، ولم تعد موجودة. المفاوضات تدور حول صلب عناصر القوة الإيرانية من دون زوائد "المحور المقاوم" والتهديد الصاروخي من "حزب الله" ومن دون خط الإمداد الذي يحرسه نظام الأسد. الميليشيات الولائية العراقية حُيّدت تحييدا شبه كلي بعدما حاولت التدخل في حرب غزة. الحوثيون يؤدون دورهم لكنهم أضعف من أن يغيروا المعادلة أو أن يخرجوا من اتفاقهم مع ترمب. 
إيران التي رفضت في جولات ما قبل اتفاق 2015 مناقشة دورها الإقليمي الذي ظل يتنامى حتى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 عندما وضعت عملية "طوفان الأقصى" الدور المذكور على ميزان القوى الواقعي، تعي أنها خسرت الكثير من هامش المناورة الذي كان يوفر لها طيفا من الخيارات تبدأ بقصف الحوثيين لدول الخليج وصولا إلى تهديد "حزب الله" باجتياح الجليل، من دون أن تكون مسؤولة مباشرة عن كل ذلك. 
من هنا يمكن فهم تصريحات إيرانية كانت أقرب إلى الخيال منذ سنوات قليلة كدعوة الولايات المتحدة إلى استثمار أربعة تريليونات دولار في السوق الإيرانية واقتراح إشراف واشنطن على بناء مفاعل نووي في إيران للأغراض السلمية والتشديد على أن إيران التي تستطيع صنع قنبلة نووية ساعة تشاء، لن تفعل ذلك. هذا في محصلته ينم عن لغة جديدة ما كانت لتتبناها طهران لو لم تدرك عمق التحولات في المنطقة وأن خياراتها باتت محدودة. 

font change