المزارعون البيض في جنوب أفريقيا... فصل الحقيقة عن رواية "الإبادة الجماعية"

تحديات حقيقية تتعلق بالأمن الريفي والتغيرات في سياسات ملكية الأرض

أ.ب
أ.ب
ترمب يُطلع رامافوزا على مقالات صحافية عن مزاعم بانتهاكات حقوقية ضد المواطنين البيض في جنوب أفريقيا

المزارعون البيض في جنوب أفريقيا... فصل الحقيقة عن رواية "الإبادة الجماعية"

في واحدة من القضايا المثيرة للجدل خلال الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترمب، عاد النقاش حول أوضاع المزارعين البيض في جنوب أفريقيا إلى واجهة العلاقات بين واشنطن وكيب تاون، بعدما كرر ترمب اتهامات قالها عام 2018 خلال عهدته الأولى بشأن ما وصفه بـ"الإبادة الجماعية" ضد هؤلاء المزارعين.

في لقائه مع نظيره الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا في 21 مايو/أيار 2025، وفي ظل إضاءة خفيفة أوحت وكأن المكان تحول صالة لعرض "أفلام الرعب"، استعرض ترمب مقاطع فيديو ومقالات إخبارية قال إنها تُثبت أن "عائلات بكاملها من المزارعين البيض قُتلت أو فرت من أراضيها"، واصفًا الوضع بأنه "إبادة جماعية لا أحد يريد الكتابة عنها". لكن رامافوزا نفى بشدة صحة هذه المشاهد والمقالات، مشيرًا إلى أن إحدى الصور المعروضة التقطت في الكونغو الديمقراطية.

ترمب الذي يتشارك هذه المواقف مع آخرين من دائرته المقربة مثل إيلون ماسك، المولود في جنوب أفريقيا، طالب بالحصول على تفسير قائلاً إن "المزارعين البيض يُقتلون وأراضيهم تُصادر".

وصفُ "الإبادة" دفع مؤسسات الأمم المتحدة للدخول على خط النقاش لإبعاد التهمة عن كيب تاون، معلنة في رد عبر المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" في هذا السياق "غير لائق تمامًا"، مشيرة إلى خطورة استخدام هذا التعبير "من دون فهم عميق لما يعنيه". ويعود تعريف الأمم المتحدة لـ"الإبادة الجماعية" إلى عام 1948، ويشمل القتل، أو إلحاق الأذى الجسدي، أو منع الولادات، أو نقل الأطفال قسرًا، "بنية تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية كليًا أو جزئيًا".

لجوء في أميركا... وأستراليا على الخط

منح ترمب خلال مايو 2025 صفة لاجئ لأكثر من 50 مزارعًا أبيض "أفريكانيًا"، رغم تعليق بلاده برنامج اللجوء من معظم مناطق العالم. وأثار هذا القرار تساؤلات حول "التحيز العنصري في القبول"، وفق ما قالته الحكومة الجنوب أفريقية في بيان رسمي.

وتوضح منظمات في الولايات المتحدة داعمة لاستقبال المزارعين البيض أن "طلب اللجوء يتطلب ثلاث مقابلات، والكثير من الوثائق، وليس هناك أي ضمان لقبول أي شخص"، في إشارة إلى صعوبة الحصول على لجوء بالرغم من دعم ترمب.

منح ترمب خلال مايو 2025 صفة لاجئ لأكثر من 50 مزارعًا أبيض "أفريكانيًا"، رغم تعليق بلاده برنامج اللجوء من معظم مناطق العالم

أستراليا وخلال السنوات السابقة لم تكن بعيدة عن رواية "الإبادة" بحق المزارعين البيض. ففي عام 2018، تحدث وزير الشؤون الداخلية حينها، بيتر داتون، عما وصفه بـ"اضطهاد ومخاطر أمنية" مقترحًا منح "معاملة خاصة للمزارعين البيض من جنوب أفريقيا".

إلا أن الحكومة الأسترالية لم تعتمد سياسة فتح الباب للمزارعين البيض من جنوب أفريقيا، وتراجعت عن تلك التصريحات، مؤكدة احترامها للإجراءات القانونية والدبلوماسية. ويبلغ عدد سكان أستراليا المولودين في جنوب أفريقيا نحو 224 ألف شخص.

يُقتلون.. ولكن ليس وحدهم

تؤكد بيانات الشرطة في جنوب أفريقيا أن معظم الهجمات على المزارع التي يمتلكها سكان بيض سببها السرقة، مشيرة إلى عدم وجود أدلة على دوافع إثنية أو سياسية في غالبية الجرائم. وينبه عدد من الأساتذة في جامعة جوهانسبورغ في منشور من أن التغطية الإعلامية المنحازة تسهم في تضخيم صورة الخطر على البيض، وتغفل أن معظم الضحايا من السود الفقراء.

.أ.ف.ب
مزارع فول الصويا في منقطة بلفور، في جنوب أفريقيا 20 أكتوبر 2021

ورغم وقوع بعض جرائم القتل بحق مزارعين بيض، فإن الأرقام الرسمية تشير إلى أن هذه الجرائم لا تمثل سوى أقل من 1 في المئة من إجمالي الجرائم في جنوب أفريقيا، والتي بلغت في الفترة بين أبريل/نيسان 2023 ومارس/آذار 2024 أكثر من 27.600 جريمة قتل، بحسب بيانات الشرطة.

من جهة أخرى، تقول منظمة "AfriForum" التي تمثل الأقلية الأفريكانية، إن 49 مزارعًا قتلوا في عام 2023، دون تمييز إثني، بينما تؤكد منظمة "GenocideWatch" أن هناك إشارات مقلقة لكنها لا ترقى إلى تعريف الإبادة الجماعية وفق القانون الدولي.

وفيما كان البيت الأبيض يدافع عن معلومات ترمب عن "إبادة المزارعين البيض" أقامت حكومة جنوب أفريقيا معرضًا زراعيًا قرب نصب تذكاري لضحايا هجمات المزارع، فاتحة لهم باب اللقاء مع المؤسسات الإعلامية الأجنبية حيث صرحت مجموعات محافظة من البيض الأفريكانيين رافضة وصف ما يجري بـ"الإبادة الجماعية"، معتبرين أن "الجرائم تطال الجميع"، فيما تحدث خلال هذا المعرض مزارعون من أرياف المناطق الشرقية عن الهجمات التي تعرضوا لها وكيف أنقذهم جيرانهم السود من السرقة والاختطاف.

فيما كان البيت الأبيض يدافع عن معلومات ترمب عن "إبادة المزارعين البيض" أقامت حكومة جنوب أفريقيا معرضًا زراعيًا قرب نصب تذكاري لضحايا هجمات المزارع، فاتحة لهم باب اللقاء مع المؤسسات الإعلامية الأجنبية

وتشير بيانات حديثة صادرة عن جهاز الشرطة إلى أنه خلال الربع الأول من عام 2025، سُجّلت ست جرائم قتل في المزارع: خمسة من الضحايا كانوا من السود (بينهم مالكا مزرعتين، واثنان من الموظفين، ومدير)، في حين كان الضحية السادس مقيماً أبيض في مزرعة.

برنامج العدالة ومنع العنف في "معهد الدراسات الأمنية" في جنوب أفريقيا يشير إلى أن فكرة وجود "إبادة جماعية للبيض" في جنوب أفريقيا خاطئة تمامًا. ويقول إنه لو وُجد أي دليل على إبادة جماعية أو عنف منظم يستهدف جماعة إثنية معينة، لكان من أوائل من يدق ناقوس الخطر ويعرض الأدلة للعالم.

لا دخان بلا نار

في ظل نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد"، فقدت عائلات غير بيضاء أراضيها ومنازلها عبر مصادرتها بسبب منع الاختلاط. ولكن بعد انتهاء النظام في التسعينات، أصدرت الحكومة قوانين لمساعدة السود على استعادة حقوقهم في أراضيهم المصادرة، وهو ما أنتج مشاكل في مناطق مختلفة بالأرياف. ولكن ما زاد من الأزمة حاليًا أن الرئيس رامافوزا، وقّع في يناير/كانون الثاني قانونًا يسمح للدولة بالاستحواذ على أراض لأغراض عامة، مع تعويض المالكين، واستثنى من التعويض حالات نادرة كعدم استخدامهم الأرض أو عدم نيتهم تطويرها.

أ.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، في واشنطن، 21 مايو

ويعتبر الحزب الحاكم أن مصادرة الأراضي أداة لمعالجة تفاوت تاريخي هائل في الملكية، مشيرا إلى عدم وجود حملات منظمة ضد المزارعين البيض. متحدثًا عن عدم تسجيل أي حالة مصادرة جماعية لأراض في مناطق متفرقة أو محددة حتى الآن.

وتدافع منظمات غير حكومية عن قرار السيطرة على أملاك وأراض مهجورة أو غير مستغلة، ومنها مئات المباني المهجورة في جوهانسبورغ التي يسيطر عليها مجرمون، يستخدمونها للانطلاق في عمليات سطو وقتل. مشيرين إلى أن مصادرة الممتلكات أصبحت أداة محتملة لتقليص التفاوت الذي أدى إليه توزيع الأراضي غير العادل وعلى أساس العرق في زمن نظام "الأبارتايد".

رغم نبل أهداف التمييز الإيجابي فإنه أثار جدلاً واسعًا وانتقادات اتهمته بأنه شكل جديد من "التمييز العكسي" ضد البيض

وضعت الحكومات المتعاقبة في جنوب أفريقيا منذ نهاية عهد نظام الفصل العنصري "الأبارتايد" مجموعة من السياسات الحكومية المصممة لمعالجة الإرث العميق من التمييز العنصري والتفاوت الاقتصادي. وتهدف هذه السياسات إلى تصحيح التفاوت التاريخي عبر منح فرص أفضل للمجموعات العرقية التي كانت مهمّشة، مثل السود والملونين والهنود والآسيويين، وتتركز هذه الفرص في مجالات التوظيف والتعليم والملكية الاقتصادية والعقود الحكومية.

ورغم نبل أهداف التمييز الإيجابي فإنه أثار جدلاً واسعًا وانتقادات اتهمته بأنه شكل جديد من "التمييز العكسي" ضد البيض، وخاصة في سوق العمل، حيث يؤدي إلى التعيين على أساس العرق لا الكفاءة. وتُتهم النخب الجديدة باستغلال التمييز الإيجابي سياسيًا، وعدم تحقيق العدالة الاقتصادية لمعظم الفقراء.

المزارعون البيض

ينحدرون من مستوطنين هولنديين وفرنسيين استقروا في رأس الرجاء الصالح منذ عام 1652. وحتى عام 1994، كانوا يسيطرون على السياسة والاقتصاد، خاصة القطاع الزراعي. ومع انهيار نظام الفصل العنصري، خسروا امتيازاتهم تدريجيًا، وتواجه فئة منهم اليوم تحديات اقتصادية وأمنية، لا تختلف كثيرًا عن باقي المكونات السكانية.

يتحدث السكان البيض اللغة الأفريكانية، وهي إحدى اللغات الرسمية في جنوب أفريقيا، وتنتمي إلى الفرع الجرماني الغربي من عائلة اللغات الهندو–أوروبية، وهي لغة مشتقة من الهولندية، وتُعتبر من أقرب اللغات الحديثة إليها.

خلال نظام "الأبارتايد"، كانت تُفرض اللغة الأفريكانية في التعليم، ما جعلها رمزا للهيمنة البيضاء، وهو ما أثار احتجاجات أبرزها انتفاضة سويتو عام 1976. تُعتبر لغة حية تُستخدم في الإعلام والفنون، وتسعى مؤسسات غير حكومية لإعادة تعريفها كلغة لجميع من يتحدثها، وليس فقط كهوية إثنية.

أما فيما يتعلق بمنظمة "AriForum" فهي منظمة مدنية غير حكومية في جنوب أفريقيا، تأسست عام 2006، وتُعد من أبرز المؤسسات التي تمثل مصالح الأقلية الأفريكانية، وغالبيتها من البيض المنحدرين من أصل هولندي/أوروبي.

وتعمل على قضايا مثل الأمن الريفي، وحماية المزارعين، ومقاومة ما تعتبره "تمييزًا عكسيًا" في السياسات الحكومية، خاصة في مجالات التوظيف والتعليم وتوزيع الأراضي.

تنشر المنظمة تقارير وإحصائيات عن جرائم المزارع، وتوثق الهجمات على المزارعين البيض وتُطالب الدولة بتوفير حماية لهم، وتعارض سياسات إعادة توزيع الأراضي بدون تعويض.

تُنتقد "AfriForum" محليًا ودوليًا بأنها تميل إلى الخطاب الشعبوي وتمثل مصالح البيض فقط، بل ويتهمها البعض بـ"إعادة إنتاج خطاب الفصل العنصري".

في المقابل، ترفض المنظمة هذه التهم وتقول إنها تعمل وفق مبادئ الدستور وحقوق الإنسان، وتركز على حماية التعددية الثقافية واللغوية في البلاد.

ورغم ضجيج الخطابات السياسية وتصاعد التوتر بين واشنطن وكيب تاون، تكشف الوقائع الميدانية في جنوب أفريقيا عن مشهد أكثر تعقيدًا من رواية "الإبادة الجماعية". فبينما لا يمكن إنكار أن هؤلاء يواجهون تحديات حقيقية تتعلق بالأمن الريفي والتغيرات في سياسات ملكية الأرض، فإن الإحصاءات الرسمية وشهادات الخبراء وحتى مواقف مزارعين بيض أنفسهم، تُجمع على أن الجريمة تطال جميع الفئات بغض النظر عن العرق، وأن الحديث عن إبادة عرقية لا يستند إلى أدلة موثوقة.

ما يجري هو صراع بين العدالة التاريخية التي تسعى الدولة لتحقيقها عبر إصلاحات تصفها بالمعطلة، وبين مخاوف ناتجة عن فقدان الامتيازات السابقة لدى أقلية كانت مهيمنة لقرون.

font change

مقالات ذات صلة