علاقة جنوب أفريقيا المعقدة مع إسرائيل وفلسطين

حلفاء حقبة الفصل العنصري

 أقام حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في جنوب أفريقيا في أثناء الحرب الباردة، علاقات وثيقة مع القضية الفلسطينية، إذ كان الحزب وقتها حركة متمردة محظورة تحارب نظام الفصل العنصري في بريتوريا. ومنذ تلك الحقبة التي كانت فيها الحركات المناهضة للاستعمار من مختلف البلدان تعرب بانتظام عن تضامنها مع بعضها بعضا، أصبح حزب المؤتمر الوطني الأفريقي قريبا من منظمة التحرير الفلسطينية، التي رأى كثيرون أنها تقاتل في إسرائيل عدوا مماثلا لعدوهم، نظام الأقلية البيضاء العنصري.

اقرأ أيضا: مئة يوم على الحرب الأطول

 والأهم أن زعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، نيلسون مانديلا، تبنى القضية الفلسطينية. وبعد وقت قصير من إطلاق سراحه من السجن عام 1990، التقى زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الذي أقام معه علاقة وثيقة، واصفا إياه بـ"رفيق السلاح". وارتدى مانديلا لاحقا الكوفية الفلسطينية في عدة مناسبات عامة.

وفي عام 1997 بعد مضي ثلاث سنوات على انتخابه رئيسا لجنوب أفريقيا الحرة، صرح مانديلا: "حريتنا منقوصة دون حرية الفلسطينيين". ومانديلا، الذي لا يزال يحظى باحترام كبير في جنوب أفريقيا، وعلى الأخص داخل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم، رغم مرور عشر سنوات على وفاته، هو من حدد الاسلوب الذي ستتبعه حكومات ما بعد الفصل العنصري لتظل داعمة على نحو وثيق للفلسطينيين.

كما أن علاقات إسرائيل الوثيقة مع حكومة الفصل العنصري ساهمت في تشكيل تلك العلاقات أكثر؛ ففي السبعينات، أقامت إسرائيل علاقات وثيقة مع بريتوريا بوصفهما حصنين ضد الشيوعية أثناء الحرب الباردة، وتواجهان تهديدات متشابهة تمثلت في منظمة التحرير الفلسطينية، وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي.

وفيما بدأت الدول الغربية الأخرى في الانقلاب على نظام الفصل العنصري، واصلت إسرائيل إمدادها له بالأسلحة والمستشارين العسكريين، حتى إن بعض التقارير أشارت إلى أن إسرائيل عرضت على جنوب أفريقيا بيعها أسلحة نووية في تلك الفترة، على الرغم من نفي المسؤولين الإسرائيليين. كما كانت إسرائيل إحدى آخر الدول التي انضمت إلى فرض العقوبات على بريتوريا، مع أنها فعلت ذلك أخيرا تحت ضغط من الولايات المتحدة عام 1987، ورحبت علنا بالانتقال إلى الديمقراطية في التسعينات.

وأعرب مانديلا عن استعداده لتخطي مسألة القرب الإسرائيلي من حكومة الفصل العنصري، ولو أنه "غير سعيد للغاية" بذلك، وحرص على استخدام تجربته الخاصة في المصالحة لمساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على حل صراعهم. أما والصراع لا يزال بعيدا عن الحل ويبدو أنه يزداد سوءا، فإن روابط حقبة الفصل العنصري هذه تلقي بظلالها مرة أخرى على العلاقات بين إسرائيل وجنوب أفريقيا.

الإدانة المعاصرة

بالنظر إلى هذا السياق التاريخي، من غير المستغرب أن جنوب أفريقيا كانت صريحة للغاية في دعمها للفلسطينيين عندما اندلعت حرب غزة. ومثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان زعيم جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا شديدا في انتقاداته لإسرائيل، حيث وصف الهجوم على غزة بأنه "محرقة"، و"جريمة حرب".

إلا أن موقف جنوب أفريقيا امتد إلى ما هو أبعد من مجرد الإدانة اللفظية، كما يتضح من تعاملاتها مع "حماس"، خصم إسرائيل. ووفقا لمجلة "الإيكونوميست"، فقد حظي وفد "حماس" بترحيب حار في بريتوريا شهر ديسمبر/كانون الأول، حتى إنه شارك في حفل وضع إكليل من الزهور على تمثال مانديلا في الذكرى العاشرة لوفاته، برفقة حفيد مانديلا وأحد وزراء الحكومة. وفي أعقاب هجوم "حماس" على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول، وحتى قبل أن تبدأ إسرائيل أعمالها الانتقامية، أفادت التقارير بأن وزير خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، شارك في مناقشات مع رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، وهو الإجراء الذي فسرته المنظمة على أنه علامة على التضامن، وإن كانت بريتوريا تنفي ذلك. ثم تلى ذلك زيارة باندور إلى إيران، وهو الأمر الذي يشير مرة أخرى إلى موقف جنوب أفريقيا المناهض لإسرائيل بطبيعته.

ولا يقتصر الأمر على نخبة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذين يريدون استعراض سياساتهم المعادية للفصل العنصري، بل يبدو أن هناك تضامنا حقيقيا واسع النطاق مع غزة بين عامة الناس في جنوب أفريقيا.

وتجتذب المسيرات المؤيدة للفلسطينيين بانتظام حشودًا تصل إلى 200 ألف شخص، بينما يتم رسم العلم الفلسطيني على المباني السكنية. وذكرت مجلة "الإيكونوميست" أنه حتى المشردين في جوهانسبرغ يحملون لافتات كتب عليها "غزة حرة" في حين وضعت ملصقات إعلانية تحمل عبارة "الإبادة الجماعية حقيقية" على جانب الطرق السريعة.

وقد أدى هذا الشعور العام القوي إلى تكثيف الدعوات للحكومة بهدف اتخاذ مزيد من الإجراءات، وحثت مجموعات مثل "أفريقيا من أجل فلسطين" بريتوريا على قطع العلاقات مع إسرائيل، بينما تبنى البرلمان في نوفمبر/تشرين الثاني اقتراحا قدمته منظمة "المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية اليسارية" يدعو إلى إغلاق سفارة إسرائيل. واستجابة لذلك، وافقت حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي على تعليق العلاقات، دون قطعها، حتى انتهاء الصراع. وكانت كلتا الدولتين قد سحبتا بالفعل سفيريهما.

التعقيد والغموض

إن الرد المتباين لحكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي على دعوة البرلمان لإغلاق السفارة الإسرائيلية يضيف طبقة من التعقيد لموقف بريتوريا بشأن إسرائيل. صحيح أن الرئيس رامافوزا انتقد علانية الهجمات على غزة، ولكن العلاقة مع إسرائيل متعددة الأوجه أكثر مما تبدو.

أولاً، هناك مسألة التجارة، حيث بلغت قيمة تجارة إسرائيل مع جنوب أفريقيا في عام 2021 نحو 285 مليون دولار، أي ثلث إجمالي تجارة إسرائيل مع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. واستمر قطاع التعدين، وهو قطاع حيوي لكلا البلدين، في الازدهار، على الرغم من الضغوط المجتمعية على بريتوريا لقطع العلاقات الاقتصادية.

عامل آخر هو وجود الجالية اليهودية في جنوب أفريقيا. وعلى الرغم من أن هذا المجتمع يضم ما بين 50 إلى 75 ألف فرد فقط في دولة يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة، إلا أنه يلعب دورا حاسما في الحفاظ على الروابط بين جنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري وإسرائيل.

وقد أقام كثير من يهود جنوب أفريقيا، الذين هاجروا إلى إسرائيل خلال فترة السبعينات والثمانينات المضطربة، روابط اجتماعية وتجارية مهمة.

وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست بعيدة عن نظام الفصل العنصري، فقد عارض كثير من يهود جنوب أفريقيا تاريخيا الفصل العنصري، حيث كان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يضم زعماء يهودا مشهورين مثل دينيس روزنبرغ. ولكن اليوم، وفقا لتقارير صحافية، فإن غالبية الجالية اليهودية تدعم إسرائيل وقد استضافت مظاهراتها المؤيدة لإسرائيل منذ اندلاع الحرب. وفي حين أنه من غير المرجح أن يغير حزب المؤتمر الوطني الأفريقي نهجه تجاه إسرائيل بالكامل بناءً على آراء هذا المجتمع الصغير، فإنه يتوخى الحذر بشأن تبني سياسات قد تبدو وكأنها تستهدف المواطنين اليهود.

البعد الدولي

يرجع القرار الذي اتخذته جنوب أفريقيا برفع قضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية إلى دوافع محلية. وتتيح هذه الخطوة لبريتوريا معالجة مخاوف النشطاء المؤيدين للفلسطينيين بشكل حازم مع تجنب الإجراءات التي يمكن أن تضر اقتصاد جنوب أفريقيا، مثل قطع العلاقات التجارية، أو الإجراءات التي قد تثير قلق المجتمع اليهودي، مثل قطع العلاقات تماما مع إسرائيل.

بالإضافة إلى ذلك، اتُّخذ هذا القرار على خلفية قضايا داخلية أوسع، حيث يواجه حزب المؤتمر الوطني الأفريقي انتخابات عامة صعبة هذا العام، مع تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي.

وتقليديا، حصل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي على أكثر من 50 في المئة من الأصوات منذ نهاية الفصل العنصري، ولكن المتوقع الآن أن ينخفض إلى ما دون هذه النسبة للمرة الأولى. ومما زاد من تفاقم ذلك انخفاض معدلات تأييد الرئيس رامافوزا إلى مستوى قياسي منخفض بلغ 40 في المئة قبل اندلاع الصراع في غزة.

وفوق ذلك، تواجه البلاد تحديات اقتصادية وتدهورا في البنية التحتية يتجلى في انقطاع التيار الكهربائي المتكرر والفساد المستمر داخل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وعلى هذه الخلفية، يشير بعض المحللين إلى أن التركيز المتزايد لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي على القضية الفلسطينية وموقفه ضد إسرائيل قد يكون محاولة لتحويل انتباه الرأي العام عن هذه المشاكل الداخلية. وبالتالي يُنظر إلى القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية بوصفها مجرد محاولة لضمان نجاح دبلوماسي يمكن أن يؤثر بشكل إيجابي على موقف الحزب في الانتخابات المقبلة.