جنوب أفريقيا تستخدم تصريحات إسرائيل دليلا على "نية الإبادة الجماعية"

Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale

جنوب أفريقيا تستخدم تصريحات إسرائيل دليلا على "نية الإبادة الجماعية"

هناك تغيّر في نظرة العالم تجاه أحداث غزة. فخلال الأشهر الثلاثة الماضية، ومنذ هجوم "حماس" الوحشي على إسرائيل، عانى سكان قطاع غزة من حالة الحرمان المرعبة والخسائر، حيث بلغ إجمالي الوفيات المبلغ عنها أكثر من 22,000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال. ولوضع هذا الرقم في منظوره الصحيح، قتل خلال "الاضطرابات" في أيرلندا الشمالية، والتي استمرت لحوالي ثلاثين عاما، أكثر من 3,000 شخص بقليل، ونصفهم فقط كانوا من المدنيين.

دعمت الدول الغربية بشكل رئيسي حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وكان الأميركيون على وجه الخصوص غير راغبين في إدانة تصرفات الجيش الإسرائيلي. وربما تكون فرنسا هي الأكثر انتقادا للرد الإسرائيلي. إلا أن الغضب الحقيقي اقتصر على الشارع، حيث شهدنا في كثير من الأحيان مظاهرات حاشدة مؤيدة للفلسطينيين.

الآن، وبينما أصبحت حالة السكان المدنيين مأساوية للغاية، وأصبح تعنّت الحكومة الإسرائيلية اليمينية واضحا للغاية ايضا، رحنا نسمع صدى مصطلح "الإبادة الجماعية" يتردد في مستويات تجاوزت الشارع، بل بدأ يدخل في المفردات الدبلوماسية. ففي تركيا، ذهب رئيسها رجب طيب أردوغان إلى ما هو أبعد من اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم الحرب، من خلال مقارنة نتنياهو صراحة بهتلر.

لكن المثال الأكثر سطوعا هذا الأسبوع، هو زيارة العاهل الأردني عبد الله الثاني إلى النصب التذكاري للإبادة الجماعية في كيغالي في رواندا، إذ كان اختيار الموقع بليغا في حد ذاته. بدأ الملك كلامه بالحديث عن الجرائم "التي لا يمكن وصفها" التي ارتكبت خلال ذلك الصراع الأفريقي، ثم انتقل إلى إدانة "العدوان العشوائي" الإسرائيلي في غزة، واصفا إياه بأنه أسفر بالفعل عن جيل كامل من الأيتام وأن مثل هذا العنف لا يمكن أن يضمن أمان إسرائيل أبدا.

يشكل الطلب الذي قدمته جنوب أفريقيا إلى المحكمة الدولية تحولا هاما آخر في اللهجة. فلأول مرة، تقدّم دولة ذات سيادة اتهاما ضد دولة إسرائيل بـ "نية الإبادة الجماعية." وفي وثيقة تزيد عن ثمانين صفحة - وهي قراءة محزنة للغاية - أعدت قضية قانونية شاملة ضد سلوك إسرائيل.

وردا على ذلك، رفضت إسرائيل اتهامها بأنها تقوم بقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين عمدا واصفة الاتهام ب "فرية الدم." سارع الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ إلى رفض الوثيقة قبل تقديمها إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي واصفها إياها بأنها "سخيفة." حيث تتهمه الوثيقة شخصيا بأنه كتب بنفسه رسائل على القنابل قبل أن تُلقى على السكان المحاصرين في غزة. ويُنسب له أيضا قوله في 12 أكتوبر/تشرين الأول:

"إن الأمة (الفلسطينية) بأكملها مسؤولة عما حدث... وسنقاتل حتى نكسر ظهرهم." وتُعتبر هذه التصريحات، في إطار وثيقة الاتهام، بمثابة تجريم ذاتي.

في عهد نظام الفصل العنصري، كانت هناك علاقة ودية بين إسرائيل وجنوب أفريقيا، على الرغم من حقيقة أن العديد من قادة الأفريقان البيض (المتحدرين من المستوطنين الاوروبيين) في تلك الفترة كان لديهم تاريخ من معاداة السامية. وكُرّم جون فورستر، رئيس الوزراء آنذاك، خلال زيارته إلى القدس في عام 1976، على الرغم من اعتقاله خلال الحرب العالمية الثانية بسبب تعاطفه مع النازية وانتمائه إلى ميليشيا فاشية أحرقت الممتلكات العائدة لليهود.

لكن منذ إطلاق سراح نيلسون مانديلا، تدهورت هذه العلاقة. و تقليديا، يرى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أن النضال الفلسطيني يعادل نضالهم ضد نظام الفصل العنصري. وفي عام 2019، خفّضت جنوب أفريقيا تصنيف سفارتها في تل أبيب إلى مكتب ارتباط بعد قتل الجيش الإسرائيلي لأكثر من 220 متظاهرا فلسطينيا داخل غزة، معظمهم من المدنيين العزّل، خلال أشهر من الاحتجاجات. ووصف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحكومة والجيش الإسرائيليين بـ "المنبوذين الذين يشكلون عارا على الإنسانية."

لن تتحسن العلاقات بفعل هذه الخطوة الأخيرة، ولا بفعل اختيار جون دوغارد لقيادة الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية. وشغل دوغارد منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. واتهمت تقاريره الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب، ووصف أيضا كيف تورطت الدولة الإسرائيلية في مسألة "إرهاب المستوطنين" وبنت نظاما للهيمنة اليهودية يعادل نظام الفصل العنصري.

في عهد نظام الفصل العنصري، كانت هناك علاقة ودية بين إسرائيل وجنوب أفريقيا، على الرغم من حقيقة أن العديد من قادة الأفريقان البيض (المتحدرين من المستوطنين الاوروبيين) في تلك الفترة كان لديهم تاريخ من معاداة السامية

وتُعتبر الإبادة الجماعية أكبر جريمة يمكن تصورها، حيث تُعرّف على أنها الاستهداف المتعمد لمجموعة عرقية، وهو التصنيف الذي يطلق على بعض أحلك الأحداث في تاريخ البشرية - أحداث من القتامة لدرجة أنه لا يوجد ضوء كاف يسمح بالنظر إليها. وقال ثيودور أدورنو: "لا يمكن أن يكون هناك شعر بعد أوشفيتز." ولكن في جحيم غزة اليوم، لا يضيع الشعراء بسبب الكلمات فحسب؛ بل كما في حالة رفعت العرير على الأقل، يجرب إسكاتهم إلى الأبد.
 

بالنسبة لدولة تُصَور نوعا ما على أنها ملاذ من الفظائع التي يرمز لها معسكر أوشفيتز، فإن الاتهامات الجنوب أفريقية تعتبر مفارقة، أو سخرية تاريخية مريرة جدا لدرجة لا توصف: دولةً وُلدت من رحم الاضطهاد والإبادة الجماعية في أوروبا يمكن أن تتعرض بدورها لاتهام بارتكاب الإبادة الجماعية بنفسها. ومع ذلك، وعلى الرغم من صعوبة تحديد ما يحدث في أي منطقة حرب، إلا أن سلوك القوات الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول اتبع نمطا واضحا. إذ كان قصفها لغزة بلا هوادة. فمن البداية، كانت غزة محاصرة، وانقطعت عنها إمدادات الوقود، وكانت إمداداتها من الغذاء وحتى المياه محدودة. دُفع الفلسطينيون الذين يعيشون في المنطقة من قطاع إلى آخر، بحجة دفعهم للوصول إلى مكان آمن، ثم  قُصِفوا على أي حال فيما كان يشكل تمرينا بشعا في لعبة "ضرب الخلد." ونظرا لأن "الخلد" ينجو غالبا من الإصابة في أنفاقه، بدا هذا القصف في كثير من الأحيان وكأنه قسوة وحشية.

ومع ذلك، يذهب تقرير جنوب أفريقيا الصارم إلى ما هو أبعد من أرقام الضحايا ليصف ما يرقى إلى صراع بين ثقافتين. الأولى، ثقافة الفلسطينيين، التي تتعرض للهجوم جنبا إلى جنب مع سكان غزة. أما الثانية فهي ثقافة المستوطنين، التي تزايدت أهميتها في إسرائيل قبل أكتوبر/تشرين الأول، ولكنها أصبحت مهيمنة منذ هجمات "حماس".

من الصعب تحديد أي من هذه السياقات هو الأكثر كآبة. إذا بدأنا بالهجوم على الثقافة الفلسطينية، فمن المعروف أن العديد من الصحفيين والمعلمين والفنانين والروائيين والشعراء قتلوا. كما يوثق "الطلب" الجنوب أفريقي إلى محكمة العدل الدولية أمثلة على ما يُشار إليه باسم "تدمير المنازل" وهو التدمير المتعمد لنحو 60 في المئة من المساكن في غزة.

EPA
قضاة محكمة العدل الدولية قبيل بدء الاستماع الى المرافعات في دعوى جنوب افريقيا على اسرائيل بارتكاب الابادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة في لاهاي في 11 يناير

هذا التدمير في بنية قطاع غزة لم يؤثر فقط على المستشفيات كما نشر عنه على نطاق واسع، بل دمر المكتبة العامة ومباني الجامعة. آثار قديمة أصبحت الآن ركام، بما في ذلك المسجد العمري الكبير، الذي يُقال إنه يعود إلى زمن الفلسطينيين، وكنيسة القديس بورفيريوس الأرثوذكسية اليونانية، ثالث أقدم كنيسة في العالم. كما تعرض حمام أثري يعود للقرن الرابع عشر في حي الزيتون في غزة لنفس المصير، وفقا لـ ندى بشير ( من "سي إن إن").

مع تدمير الأرشيف المركزي في غزة، فُقدت الوثائق التاريخية والسجلات الوطنية. وحوّل مركز رشاد الشوا الثقافي، الذي كان يعد يضم مسرحا ومكتبة ومكانا للفعاليات، إلى حطام.

في المجمل، تعرض أكثر من مئة موقع تراثي للضرر أو التدمير، في تذكير مروع بالهجوم الانتقامي الذي شنه النازيون في ليديش، حيث قاموا بهدم مقبرة بالجرافات. وبينما حافظ النظام النازي على الحي اليهودي القديم في براغ كـ "متحف لسلالة منقرضة," فإن الدافع الحالي للتدمير ليس لتخليد أي شيء، بل لمحو أي أثر له.

جاء هذا التدمير نتيجة للقصف المتواصل من قبل إسرائيل، باستخدام الذكاء الاصطناعي القادر على توليد ما يصل إلى مئة هدف يوميا من جهة، واستخدام مجموعة متنوعة من القنابل الغبية التي غالبا ما يكون استهدافها والضرر الناتج عنها عشوائيا من جهة أخرى.

إن التأثير على الثقافة الفلسطينية لا يكون دائما واضحا كما هي الحالة عند وفاة شاعر مشهور. إذ تصف الشهادة الجنوب أفريقية كيف قُتل طاهي المعجنات المحبوب مسعود محمد القططي المعروف باسم "أبو الفقراء" في غارة جوية على منزله في 3 نوفمبر/تشرين الثاني. اشتهر القططي بتوزيع الكنافة الفلسطينية الشعبية على الزبائن الفقراء. وكان شعار متجره "دع الفقراء يأكلون".

وعلى الرغم من أن الأذى الذي لحق بالهوية الثقافية للفلسطينيين عميق، إلا أن الحرب كان لها تأثير ضار أيضا على الثقافة الإسرائيلية. لكن تأثير العقلية الاستيطانية كان أكثر خطورة على السكان الإسرائيليين. وسبق تأثيرها الخبيث هجوم حماس وربما كان إحدى أسبابه. إذ كان جزء كبير من الجيش الإسرائيلي مشغولا في الضفة الغربية، يحمي المستوطنين، عندما وقع التوغّل.

أما خارج إسرائيل، وبشكل غير مفاجئ، كانت مواقف المستوطنين أضعف تأثيرا على العديد من اليهود الذين يعيشون في الشتات. ففي لندن، انضم بعض المحتجين اليهود إلى التظاهرات المناهضة للحرب. وفي الولايات المتحدة، منذ فترة طويلة تعود إلى شهر أكتوبر/تشرين الأول، قامت جماعات يهودية متماثلة الآراء تجاه الحرب بمسيرة إلى مبنى الكونغرس مطالبة بوقف إطلاق النار. وجرى اعتقال المئات منهم.

تعرض أكثر من مئة موقع تراثي للضرر أو التدمير، في تذكير مروع بالهجوم الانتقامي الذي شنه النازيون في ليديش، حيث قاموا بهدم مقبرة بالجرافات. وبينما حافظ النظام النازي على الحي اليهودي القديم في براغ كـ "متحف لسلالة منقرضة," فإن الدافع الحالي للتدمير ليس لتخليد أي شيء، بل لمحو أي أثر له

ومن الواضح أيضا أن عددا كبيرا من الأشخاص الآخرين اختاروا أن ينأوا بأنفسهم عن تصرفات إسرائيل. أحد هؤلاء الأفراد، وهو طبيب وأستاذ في الصحة الدولية في جامعة جونز هوبكنز، كتب عن تعرضه للنبذ بعد قدومه لمساعدة سكان غزة. ولم يشكك أحد في نقاء دوافع باول شبيغل عندما قام بأعمال إنسانية في أماكن مثل أفغانستان وأوكرانيا، ولكن منذ أن بدأ عمله في غزة اتُهم بخيانة إرثه اليهودي:

"... عملي مدفوع بالقيم اليهودية الأساسية، ولا سيما قيم إصلاح العالم و إنقاذ الحياة و اللطف والمحبة" (صحيفة الغارديان، 9 يناير/كانون الثاني 2024)

Reuters
وزير العدل في جنوب افريقيا رونالد لامولا متوسطا فريق بلاده عند بدء الجلسات في محكمة العدل الدولية في لاهاي في 11 يناير

منذ بدء الهجوم على غزة، كان هناك نقص في هذه القيم تماما كالنقص في المواد الأساسية  مثل الغذاء والكهرباء. ووفقا لغديون ليفي، وهو صحافي إسرائيلي مؤيد لحقوق الفلسطينيين، يمكن أن يُعزى ذلك إلى التعويد منذ سن مبكرة: "هناك آلية كاملة لغسل الدماغ في إسرائيل ترافق كل واحد منا منذ الطفولة المبكرة، وأنا نتاج هذه الآلة مثل أي شخص آخر. [تعلمنا] بعض الروايات التي يصعب تحطيمها. مثل أننا نحن الإسرائيليون الضحايا النهائيون والوحيدون. وأن الفلسطينيين ولدوا ليقتلوا، وأن كراهيتهم غير منطقية. وأيضا أن الفلسطينيين ليسوا بشرا مثلنا... وهكذا تحصل على مجتمع خالٍ من أي شكوك أخلاقية أو علامات استفهام، ومن دون أي جدل عام تقريبا. إن رفع الصوت ضد كل هذا أمر صعب للغاية" (الإندبندنت، 24 سبتمبر/أيلول 2010).

كُتب ذلك الكلام منذ أكثر من عقد من الزمن. ثم أتى مقال حديث كتبه إيتان نيشين ونشر في صحيفة "الغارديان"، 9 يناير/كانون الثاني 2024، ليعزز حجة ليفي. ويؤكد أن المستوطنين يعتقدون أنهم متهمون باغتيال إسحق رابين في عام 1995 وأن الجمهور الإسرائيلي لم يشعر بأي تعاطف معهم بسبب الانسحاب الأحادي الجانب والإخلاء من غزة.

وقرر المستوطنون، كما يقول نيشين، أن الاستيلاء على تلة أخرى وتوسيع مستوطناتهم المادية لم يعد كافيا. فلضمان مستقبل حركتهم، كان عليهم أن "يستقروا في قلوب" الشعب الإسرائيلي. ومن خلال احتضان وسائل الإعلام الرئيسية، تمكنوا من رواية قصتهم ودمج أيديولوجية الاستيطان في الروح الإسرائيلية. ولحسن الحظ، وجدوا في نتنياهو شريكا جاهزا."

وبعد خسارته في الانتخابات أمام إيهود باراك عام 1999، قرر نتنياهو أن يمتلك وسيلة إعلامية خاصة به. وانتهى به الأمر بتأسيس وسيلتين: صحيفة "إسرائيل هيوم" المجانية، و"القناة 14"، التي تأسست عام 2014. وتبع ذلك مجموعة من وسائل الإعلام اليمينية المتشددة الجديدة.

لدى "القناة 14" عداد يسجل عدد المباني المهدمة في غزة وعدد "الإرهابيين" الذين قتلوا. ويمتد تعريف الإرهابي في هذه القناة ليشمل جميع سكان غزة. وفي برنامج تلفزيوني يعرض في وقت متأخر من الليل، ألقى أحد ممثلي الليكود اللوم في هجوم "حماس" على "جرائم أوسلو" و"السرطان اليساري." وقال مضيف البرنامج إنه "مع جرائم حرب". وليس من الصعب أن نفهم كيف يمكن لهذا النوع من اللغة أن يلهم الفكاهة القاسية التي يعرضها جنود الجيش الإسرائيلي على "تيك توك"، وأن يمنح ترخيصا للغة المتطرفة التي يستخدمها السياسيون.

في عام 1943، ألقى جوزف غوبلز خطابا في سبورتبالاست يدعو فيه إلى الحرب الشاملة. لا يزال الخطاب مخيفا حتى اليوم، لأسباب ليس أقلها أنه في لحظة ما كاد المروّج النازي العظيم أن يخطئ ، لكنه أدرك نفسه في الوقت المناسب. إذ كان يصف كيف أبيد اليهود بنجاح، لكنه توقف بعد ذلك في منتصف الطريق وغير الكلمة إلى الاستبعاد.

الكلمة التي لم يجرؤ على نطقها هي تلك التي استخدمها هاينريش هيملر في 18 ديسمبر/كانون الأول 1941، عندما سجل نتيجة مناقشته مع هتلر حول الحل النهائي، فكتب "أبادوهم كأنصار."

"هناك آلية كاملة لغسل الدماغ في إسرائيل ترافق كل واحد منا منذ الطفولة المبكرة، وأنا نتاج هذه الآلة مثل أي شخص آخر. [تعلمنا] بعض الروايات التي يصعب تحطيمها. مثل أننا نحن الإسرائيليون الضحايا النهائيون والوحيدون. وأن الفلسطينيين ولدوا ليقتلوا، وأن كراهيتهم غير منطقية. وأيضا أن الفلسطينيين ليسوا بشرا مثلنا... "

غديون ليفي - صحافي اسرائيلي

وكما هو واضح لنا ولمحكمة العدل الدولية، فإن مواقف القيادة الإسرائيلية الوقحة المتمثلة في الإبادة الجماعية تجعل غوبلز يبدو متحفظا بشكل غريب. فبدلا من التحفظ في كلماتهم، لم يبذل القادة الإسرائيليون أي محاولة لإخفاء الطبيعة الانتقامية لحملة القصف. بل على العكس من ذلك، سعوا جاهدين إلى المزاودة على بعضهم في استخدام الخطابة المروعة. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالقسوة المباشرة في سياق الإبادة الجماعية، فإن الجائزة يجب أن تذهب بالتأكيد إلى بنيامين نتنياهو. ففي 28 أكتوبر/ تشرين الأول، وضع نتنياهو نموذج خطابه مستعينا بسفر صموئيل في كتابنا المقدس. نتنياهو ليس شخصا متدينا ومن المؤكد أنه لا يأكل حتى طعام الكوشر. ولكن ذلك لم يمنعه من استحضار كلام القدير. "اذكروا،" ينذر الله بني إسرائيل، "ما فعل بكم العماليق." ثم يحث الله شعبه على الانتقام من العماليق بقتل كل واحد منهم:

"ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا."

وما إن استدعيت هذه السابقة لأول مرة من قبل رئيس وزرائهم، حتى تبنى جنود الجيش الإسرائيلي هذه العبارة وتعهدوا بـ "محو نسل العماليق."

Reuters
متظاهرون مؤيدون لدعوى جنوب افريقيا ضد اسرائيل في العاصمة الاردنية عمان في 11 يناير

تنطوي سياسة الحرب الشاملة هذه على ما يعرف بتمليح الأرض، وهي تقنية استخدمتها الإمبراطورية الرومانية في انتصارها النهائي على قرطاج. إذ منع الملح نمو المحاصيل، وبالتالي كان على القرطاجيين الاختيار بين المجاعة أو ترك مدينتهم. وعلى حد تعبير غيورا إيلاند (اللواء الاحتياطي)، فسيعرض على سكان غزة أيضا الاختيار: "بين البقاء والتضور جوعا، أو المغادرة."

منذ اللحظة التي قرر فيها الإسرائيليون قطع اتصال غزة بالعالم الخارجي، أصبح سكانها مهددين بمثل هذا المصير. وبعد القصف ستصبح أرضهم قاحلة، ليس بالملح هذه المرة، بل بالمياه المالحة. إذ تتلخص نية إسرائيل المعلنة (التي لم تنفذ بالكامل بعد) في إغراق الأنفاق التي يختبئ فيها مقاتلو "حماس".

لا شك أن الاستعارة من سفر صموئيل كانت ضربة عبقرية شريرة من جانب نتنياهو. ومع الاهتمام الدقيق بالتفاصيل، فإن جنوب إفريقيا تستمر في توثيق تصريحات عنيفة مماثلة من شخصيات أقل شأنا.

ورأينا بالفعل مدى استعداد الرئيس، إسحق هرتسوغ، لإدانة جميع سكان غزة. وبحلول التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، كان وزير الدفاع، يوآف غالانت، يقول للعامة إنهم "يقاتلون حيوانات بشرية" و"سنقضي على كل شيء." وصرّح وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني أن سكان غزة "كلهم إرهابيون،" بينما دعا زميله المستوطن بتسلئيل سموتريتش إلى محو غزة.  وأعلن عميحاي إلياهو، وزير التراث، بسعادة واضحة أن كل شيء نسف وسوّي بالأرض. وأضاف أنه "لا يوجد شيء اسمه مدني بريء في غزة." كما قال آفي ديختر، وزير الزراعة: "نحن الآن نبدأ فعليا نكبة غزة." وفي التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، قال اللواء غسان عليان لسكان غزة "أنتم أردتم الجحيم وسوف تحصلون على الجحيم." وقال إن وطنهم سيصبح مكانا لا يمكن لأي إنسان أن يعيش فيه، كما أنه لم يميز أبدا بين مقاتلي "حماس" والمدنيين الفلسطينيين. وفي 11 أكتوبر/ تشرين الأول، أحضِر جندي يبلغ من العمر 95 عاما شارك في مذبحة دير ياسين ليشارك في حشد القوات، حيث قال لهم: "اقضوا عليهم، امحوهم وأسرهم وأمهاتهم وأطفالهم." ونُقل عن العديد من الجنود قولهم "لتحترق قراهم!" أتمنى أن تمحى غزة!" و"نحن نعرف شعارنا: لا يوجد مدنيون أبرياء." ودعا مسؤول محلي إلى أن تكون غزة "مقفرة ومدمرة" مثل متحف أوشفيتز، من أجل "إظهار جنون الناس الذين عاشوا هناك." وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول، صرح غيورا إيلاند، مستشار وزير الدفاع، للصحافة قائلا: "عندما يقول العالم أجمع إننا أصبنا بالجنون وهذه كارثة إنسانية، فسنقول أن هذا الأمر ليست غايتنا، بل وسيلتنا." كما أعرب المهندسون المعماريون عن سعادتهم بالتخلص من المباني القديمة وامتلاك القدرة على إعمار المنطقة من الصفر. وأعربت إحدى قاطنات المنطقة الواقعة خلف السياج الأمني عن سعادتها بقدرتها على رؤية البحر الأبيض المتوسط، بعدما لم تعد غزة تحجب المشهد. أما السيد سموتريش، الذي اندمج بمزاج غنائي - ونسي أن القطاع بأكمله سوف يصبح قاحلا - فتحدث بحماسة عن كيفية جعل الصحراء تزدهر مرة أخرى. كم هو لطيف منه أن يستذكر مثل هذه العبارة المثالية.

يحتوي القانون الدولي على مصطلح لاتيني يشير إلى نوع الأشياء التي كان سموتريش وعصابته حريصين جدا على الإعلان عنها. وهو معروف باسم "دولوس سبيشاليس" أو النية المحددة. وكما يوضح قاموس أكسفورد، يشير هذا إلى (1) الضرر الناتج عن فعل يهدف بشكل محدد إلى إحداث هذا الضرر، أو (2) النية المحددة للتسبب في نوع معين من الضرر.

ويبقى أن نرى ما إذا كانت المحكمة في لاهاي ستتفق مع جنوب أفريقيا وتقرر أن الطريق إلى هذا الجحيم المحدد كان معبدا بالنوايا السيئة.

font change

مقالات ذات صلة